رحلة الأدباء الأربعة في خطابات البوم

كارلوس فوينتس و ماركيز وكورتاثر ويوسا
كارلوس فوينتس و ماركيز وكورتاثر ويوسا

من الصعب أن تجد متابعا للأدب المكتوب بالإسبانية إلا واحتلت أعمال كتاب تيار البوم اللاتينى جانبا ليس بقليل من قراءاته.. وإذا كانت القراءة لأبرز أدباء هذا الجيل وأهم قاماته مثل جارثيا ماركيز، وخوليو كورتاثر، وماريو بارجاس يوسا، وكارلوس فوينتس، ممتعة فى حد ذاتها، فماذا إذا اجتمعوا جميعا فى كتاب واحد؟

حدث هذا بالفعل مع صدور كتاب «خطابات البوم» الذى يضم أكثر من 200 خطاب ومراسلة مختلفة بين الأدباء الأربعة تتناول مختلف الموضوعات الأدبية والسياسية بل وحتى الشخصية.

قبل صدور "خطابات البوم" لم يكن أمام دارسى هذا الاتجاه الأدبى سوى ثلاثة كتب تتناوله هى "التاريخ الشخصى للبوم" لخوسيه دونوسو وسنوات البوم تلك" لتشابى اين و"الرواية الاسبانو أمريكية الحديثة.. البوم.. ما بعد البوم" لدزنالد شو، إلا أن صدور مثل هذا الكتاب يمكن أن يعطى صورة مختلفة تماما عن طبيعة العلاقة بين هؤلاء الكتَّاب الذين حصد اثنان منهما جائزة نوبل فيما لا يشكك أحد فى استحقاق الأديبين الآخرين لها.

إن "خطابات البوم" لا يقتصر على تقديم رؤية غير مسبوقة عن طبيعة العلاقات بين الأدباء الأربعة وأوجه التقارب والتباعد بينهم ولكنه يفتح أمام القارئ نافذة على طبيعة الحياة الأدبية والسياسية فى أمريكا اللاتينية خاصة خلال الفترة التى تمتد بين عامى 1959 و1975، وتعد أكثر فترات القارة اللاتينية رواجا بالأحداث.



وإلى جانب الخطابات والمراسلات المباشرة فإن الكتاب يضم كذلك مجموعة من المقالات نشرها الكتَّاب الأربعة حول بعضهم البعض، وتتضمن العديد من ذكرياتهم والتفاصيل الخاص بتعارفهم وصداقتهم وعلاقاتهم الشخصية. كما يحوى مجموعة من المقالات النقدية التى كتبوها حول أعمال بعضهم البعض، مثل المقالات التى كتبها بارجاس يوسا حول رواية كورتاثر الشهيرة "لعبة الحجلة" ورائعة ماركيز "مائة عام من العزلة".

ويضم الكتاب كذلك فصلا يحوى مجموعة من البيانات السياسية التى وقَّعها أو شارك فى صياغتها الكتَّاب الأربعة، وما يعطى صورة كاشفة حول المناخ السياسى السائد فى تلك الفترة التى كان الأدب والسياسة فيها وجهين لعملة واحدة.

كما يحوى الكتاب بين صفحاته حوارات صحفية مشتركة، كذلك الذى أدلى به ماركيز وفوينتس وكورتاثر لمجلة "ليستى" التشيكوسلوفاكية عام 1968، تحدثا فيه عن آرائهما الأدبية وتطرقا لأهم القضايا المطروحة على الساحة.

ويبدأ الكتاب برسالة من كارلوس فويتنس لخوليو كورتاثر مؤرخة فى عام 1955 وتنتهى خطاباته فى عام 2012 برسالة يهنئ فيها فوينتس ماركيز بعيد ميلاده الخامس والثمانين.

إن القارئ لـ"خطابات البوم" سيدرك جيدا وبشكل لا لبس فيه أن المقالات النقدية الأولى حول "المدينة والكلاب" و"تغيير الجلد" و"لعبة الحجلة" و"مائة عام من العزلة" لم تُكتب بآلات الطباعة على صفحات الصحف والمجلات الأدبية، بل خُطَّت بالأقلام على أوراق الخطابات المتبادلة بين الأصدقاء الأربعة.

وتكشف الخطابات التى يضمَّها الكتاب عن أنه لم يكن هناك أى قدر من الغيرة الفنية بين الأدباء الأربعة، بل كانت العلاقة بينهم يسودها قدر هائل من الدعم المتبادل، فقد كان كل منهم حريصا على قراءة مسودات أعمال الآخرين وإبداء الرأى بل والمقترحات بشأنها.

وفى هذا السياق يقول فويتنس لبارجاس يوسا فى خطاب مؤرخ فى عام 1967: "لقد كانت مقالتك حول "لعبة الحجلة" فى مجلة "الأدب الجديد" ممتازة بالفعل.. فى أمريكا اللاتنية المبدعون فقط هم النقاد المؤهلون لهذه المهمة".

وفى رسالة أخرى من فوينتس إلى يوسا فى نوفمبر من عام 1970 يشيد المكسيكى برواية صديقه البيروانى "محادثة فى الكاتدرائية" ويقول: "مرة أخرى ماريو.. تهانى وإعجابى بروايتك "محادثة فى الكاتدرائية" أعتقد أنها ليست أفضل أعمالك فحسب، بل إنها أعظم رواية سياسية كُتِبت بالإسبانية".

وفى مايو من عام 1967 كتب جابو ماركيز رسالة إلى فوينتس حول رواية هذا الأخير "المنطقة المقدسة" يقول فيها "إنه كتاب رائع وحزين.. إن هذه الشخصيات التعيسة والعالم السخيف الذين يعيشون فيه قد أثرت فى نفسى بشدة.. وهذا الانطباع تغلغل بداخلى من خلال تقنية الكتابة لديك: ليس هناك خطوة فى هذه المتاهة من الأحكام المسبقة والاحتياجات والظروف القاسية والمشاعر والأحاسيس إلا وجعلتنا ننغمس فى استكشافها.. إن شخصياتك تنبض بالحياة".

ولم يختلف ذلك كثيرا عن ردود الأفعال التى تلقاها جابو من أصدقائه فوينتس المعروف بـ"عقاب الأزتك" وكورتاثر "الكرونوبيو" وبارجاس يوسا الذى حمل بينهم لقب "زعيم الأنكا العظيم" حول رائعته مائة عام من العزلة، للدرجة التى دفعته لكتابة هذا الخطاب لبارجاس يوسا فى نوفمبر من عام 1967 يقول فيه: "أخى.. يا لك من متوحش! لقد انتهيت من قراءة مقالك حول "مائة عام.." الذى صدر فى مجلة "الاسبكتادور" الكولومبية.. وأنا حقا ممتن للغاية.. أعتقد أنه فى عالم الصداقة يصبح بعض الكرم أمر جميل.. ولكن ليس لهذه الدرجة يا صديقى".

ففى المقال المذكور وصف بارجاس يوسا رواية صديقه الكولومبى بأنها أماديس الأدب الأمريكى (رواية أماديس دى جاولا).

وعلى الرغم من أن الأدباء الأربعة لم يجتمعوا سويا إلا فى مناسبة وحيدة إلا أن المراسلات بينهم كانت كفيلة ببناء مشروعات أدبية طموحة مشتركة على الرغم من أنها لم تر النور لأسباب غير معروفة، ربما من بينها حالة الغموض التى سيطرت على المناخ السياسى فى تلك السنوات.

أحد تلك المشروعات كان ما اقترحه ماركيز على بارجاس يوسا لكتابة قصة مشتركة حول الحرب بين كولومبيا وبيرو عام 1932. إلا أن المشروع الأبرز كان ما اقترحه كارلوس فوينتس حول كتاب يشارك فيه الأربعة إلى جانب نخبة من الكتَّاب الآخرين لكتابة عمل حول الأنظمة الديكتاتورية فى أمريكا اللاتينية، حمل كاسم مقترح «آباء الأوطان».

ففى خطاب بتاريخ فبراير من عام 1968، أخبر فويتنش ماركيز أن العمل فى الكتاب حول الأنظمة الديكتاتورية يسير على قدم وساق: "إن العمل فى الكتاب حول الديكتاتوريات يمضى قدما.. لقد وافقت عليه جاليمار وفرتلنيللى وجوناثان كاب  دون قراءته، وفى إحدى جلسات العمل مع ماريو حددوا الأول من يوليو للتسليم".

ويسرد فوينتس فى الخطاب قائمة بكل كاتب والديكتاتور الذى اختار أن يكتب عنه، فكاربنتيير مثلا اختار ماتشادو (الديكتاتور الكوبى خيراردو ماتشادو) أما بارجاس يوسا فاختار الدكتاتور البيروانى سانشيث ثيرو، واختار اوجوستو مونتيروسو ديكتاتور نيكاراجوا انستاثيو سوموثا. 

وكان من المشاركين فى المشروع أيضا خورخى إدواردز الذى اعتزم الكتابة عن الرئيس التشيلى خوسيه مانويل بالماثيدا فيما خطط كورتاثر للحديث عن إيفا بيرون ووقع اختيار فوينتس على المكسيكى سانتا انا.

وكان الجنرال الكولومبى توماس ثيبريانو دى موسكيرا هو الديكاتور اللاتينى المرشح من جانب ماركيز ليتحول إلى شخصية أدبية فى الكتاب.. وحول هذا الاختيار كتب جابو رسالة إلى فوينتس فى يونيو من عام 1967 من المكسيك قال فيها: "إنها متعة حقيقية أن تتحول شخصية تاريخية إلى شخصية روائية، إن مرشحى هو الجنرال توماس ثيبريانو دى موسكيرا، فهو أرستقراطى وضابط قديم لدى بوليفار كما احتفظ بالرئاسة لأربع فترات.. من المؤكد أن هناك الكثير من أوجه التشابه بينه وبين مرشحك سانتا انا.

إن السيد توماس كان مجنونا تماما ولكنه مع ذلك رجل عظيم.. فقد كان أول ليبرالى تلفحه الحمى الديكتاتورية لليبرتادور(تعنى المحرر ويقصد بيها سيمون بوليفار) ومن المنطقى أن ينتهى به الأمر بدوره ليصبح ديكتاتورا.

كان لديه صف أسنان كامل مصنوع من الفضة، وفى فترة حكمه الثانية كان يلبس كملوك فرنسا. كان قاسيا متعسفا وكان تقدميا حقيقيا وكاتبا ممتازا.

لقد طرد جميع اليسوعيين من البلاد وعلى رأسهم شقيقه الذى كان كبير أساقفة بوجوتا. وعندما وصل إلى مرحلة الانهيار كان يسير سكيرا مجنونا حاملا سيفه القديم يطارد الأطفال الذين كانوا يسخرون منه فى الشوارع".

وفى رسالة أخرى حول هذ المشروع كتب فوينتس لكورتاثر فى مايو من عام 1967 من فينيسيا أنه يعتقد أن التاريخ لا يصبح تاريخيا إلا إذا تحول لعالم الأدب".

وبتتبع الرسائل يتضح أن أول صدع فى العلاقة بين الأصدقاء هو ما حدث بين كورتاثر وبارجاس يوسا بسبب خلاف الأخير مع الثورة الكوبية. ويتضح ذلك من خلال رسالتين كتبهما كورتاثر إلى صديقه البيروانى حملتا نبرة عتاب واضحة بسبب عدم حضوره إحدى الفعاليات التى نظموها فى هافانا.

وكانت آخر رسالة كتبها ماركيز ليوسا تلك التى طلب فيها رأيه فى مارس من عام 1971 بشأن ما إذا كان عليه أن يقبل أو يرفض الدكتوراه الفخرية فى الآداب التى منحتها له جامعة كولومبيا.

وتظهر الرسائل كذلك أن كورتاثر كان أكثر الأصدقاء الأربعة الذى يحظى بالمحبة والتقدير، كما تكشف بشكل واضح عن أن الصداقة بين ماركيز وفوينتس كانت أكثر عمقا.