مقال يوسا عن فوينتس ..كارلوس فوينتس فى لندن

كارلوس فوينتس
كارلوس فوينتس

ظهر فجأة فى منزلى فى أحد أيام الآحاد فى الساعة العاشرة صباحًا. فى اللحظة الأولى، لم أتعرف عليه: كان قد أطال لحيته ويحمل مظلة ويرتدى حذاء ذا رقبة طويلة ومعطفا طويلا من الفرو الأخضر بأربعة أزواج من الأزرار وربطة عنق تبدو وكأنها تحترق.

لم أكن قد رأيته منذ ستة أشهر، وكنت أعتقد أنه فى فينيسيا، قيل لى إنه يعيش هناك فى الطابق الأول من قصر قديم، محاطا بالحجارة والطمى، وإنه ينهى روايةً ما.

وكان الأمر صحيحا ولكنه أخبرنى أنه قد ودَّع إيطاليا بالفعل، ووصل لندن للتو ليمكث فيها. لأية مدة؟ هز كتفيه ضاحكا وقال: ستة أشهر، سنة، سنتين، من يدرى؟ لكنه كان يعتقد أن لندن مدينة مثالية للعمل، وأنه سيحط رحاله فيها ويؤسس مكتبا. كان قد ترك المكسيك منذ أكثر من سنتين، ومنذ ذلك الحين يعيش على هذا النحو متنقلا من مكان لآخر: باريس، إسبانيا، إيطاليا، الولايات المتحدة، والآن لندن.

 وبينما كنت أحلق ذقنى كان هو يتصفح بعض المجلات ونتحدث عن بعد بصوت عالٍ: "ألم تفكر فى العودة إلى المكسيك بعد؟" "لا، على الإطلاق". قال إنه سيعود إلى هناك لاحقا عندما يحتاج إلى التحقق من بعض الأمور فى جبال فيراكروز، حيث تدور الأحداث النهائية لروايته عن زاباتا. 

طلبت منه أن يروى لى بعضا من هذا الكتاب إلا أنه رفض قائلا إن الأمر ليس سهلا على الإطلاق ذلك أنه لا يزال مشروعا مليئا بالأمور الغامضة التى لم تتضح بعد. بدلاً من ذلك، تحدث عن رواية أخرى قد أنهى منها جزءا كبيرا وهى التى تثير اهتمامه كثيرًا: رواية طويلة جدًا وبطريقة ما، تتنبأ بالتاريخ.

الفصل النهائى هو نهاية العالم الحربية، وهو المواجهة النهائية بين الاستعمار والثورة فى الأراضى المكسيكية. مواجهة مشتعلة ومروعة من النابالم والفوسفور، أوركسترا من الضجيج والدماء.

 أخبرنى بأن لديه وثائق هائلة حول الأسلحة الجديدة التى تستخدمها القوات الأمريكية فى فيتنام: مقالات، كتب، تقارير، صور. حدثنى عن تلك القنابل العنقودية التى يسمونها «الكلاب المتعبة»، قنابل تنفجر لتطلق حولها وابلًا من القنابل الصغيرة التى تنفجر لتطلق بدورها وابلاً من القنابل الأصغر وهكذا دواليك. إنه يريد أن يدلى بشهادته فى كتابه على هذه الفظائع، ويظهر أنَّ أكثر الرؤى السادية فى الخيال العلمى أصبحت واقعا يوميا فى بعض المناطق من العالم. 

خرجنا إلى الشارع وبحثنا عن مقهى. استمر فى الحديث وكان يبدو فى مزاج جيد ومفعما بالمشاريع. كان قد عمل كثيرًا خلال الأشهر الستة الماضية فى فينيسيا، كما قال لى. عمل على أشياء عدة فى وقت واحد: ينقح كتابًا من المقالات حول الأدب اللاتينى الأمريكى الذى ستنشره مورتيز نهاية العام، وعلى الفصول الأولى من هذه الرواية الجديدة وعمل كذلك على مسرحيتين. هنا (يشير إلى الشارع المكتظ بالهيبز الذين يتدفأون تحت شمس الخريف اللندنية الضعيفة) سيعمل بشكل جيد: هو واثق أن هذه المدينة هادئة ومحفزة، لذلك يحتاج للعثور على شقة فى أسرع وقت ممكن. 

لا يستطيع الكتابة فى الفندق وعندما لا يفعل ذلك فهو يشعر بالانزعاج. كان ينقر بأصابعه العشرة على طاولة المقهى إلا أن ذلك لم يخدعنى فأنا أعلم جيدا أنه كاتب سيئ على الآلة الكاتبة ويستخدم إصبعا واحدا فقط. طلبت منه أن يحدثنى قليلا عن فينيسيا.. تلك المدينة ذات المياه كريهة الرائحة التى يسكنها تجار عديمو الضمير.

ظن أننى أمزح ورد قائلا: إنها واحدة من أجمل المدن فى العالم. لقد عمل كثيرًا حتى بدأ مهرجان السينما (كان عضوًا فى لجنة التحكيم، مع كتَّاب آخرين: مورافيا، جويتيسولو، سوزان سونتاج)، لأنه، بالطبع، حينها أصبحت الحياة دوامة جامحة. كان واحدًا من أكثر المدافعين بحماس عن فيلم بونيويل، الذى فاز بالجائزة الكبرى.

جدير بالذكر أن أحد المشاريع على قائمته كان كتابا عن بونيويل. عند انتهاء المهرجان، كان هناك حفل.. ضحك ملء شدقيه وقال: حفل تنكرى لا يُصدَّق.

لقد ظهرت الماركيزات، وبنات الحاشية، ونجوم السينما يرتدون أزياء مستوحاة من أفكار ليفى شتراوس، ورولان بارت، ولاكان وألتوسير. لقد تحولت البنيوية والأنثروبولوجيا والماركسية إلى قبعات وتونيكات ودبابيس وأحذية وربطات عنق: حالة استثنائية من الشراهة كما يقول. الموضة تسيطر على كل شىء لتحقيق أهدافها، والآن الأدب والفن والعلم أيضًا تخدم هذه الكائنات الجائعة.

فلنتحدث أكثر عن الموضة.. سألته ألم توفر لك الموضة فى الآونة الأخيرة مادة غزيرة لكتاباتك؟ لا أقول ذلك كنوع من الانتقاد، ولا أقترح أن تكون الموضة غاية فى حد ذاتها بل وسيلة فى أعماله.

كنت أود أن أعرف ما إذا كان هو واعيًا بذلك. حتى فى "المنطقة المقدسة"، وأيضا بشكل خاص فى روايته الأخيرة "تغيير الجلد" (التى نُشرت فى إيطاليا وحققت نجاحا نقديا عظيما) كان للموضة حضور طاغٍ فى وصف الأحداث والشخصيات، وأحد أكثر المرجعيات الرئيسية استخداما من قبل المؤلف.

قلت له إن "تغيير الجلد" تبدو لى شهادة رائعة وشبه مطلقة لما تشكله الموضة من حضور فى الأدب والفن والسينما والمسرح والنقد.

هناك دائما قدر هائل من التفاؤل الذى يتمتع به فوينتس، والذى يبدو معديا لحد كبير. فعندما يحدثك عن عمل يكتبه أو كتاب انتهى من قراءته أو عما سيفعله غدا يبدو متحمسا كأنه فاز باللوتارية.

بشىء من الخبث قلت له إننى سمعت أحدهم يقول من وقت قريب إن الهجوم على كارلوس فوينتس أصبح هو الرياضة الوطنية المفضلة فى المكسيك. ابتسم قائلا: بالنظر إليها كمزحة فهى ممتازة. لم يكن هو لديه الوقت ليهاجم أحدا، فالكتابة والقراءة والسفر لا تترك له الوقت الكافى لذلك.

ولكن فى الحقيقة فقد كان لديه الوقت دوما للحديث عن الأشخاص الذين يحبهم أو يعجب بهم: كورتاثر على سبيل المثال. فهو فى رأيه المبدع الأرقى فى اللغة الإسبانية، كما أنه نموذج يحتذى كرجل ملتزم تجاه رسالته ومخلص لها بجسده وروحه. 

تحدث معى بإعجاب أيضا عن أوكتافيو باث وأفكاره الكاشفة والعالمية. كما تحدث عن أحدث الأفلام والعروض المسرحية، لم يكن قد أمضى أكثر من 48 ساعة فى لندن وبات بالفعل يعرف أفضل الأفلام المعروضة فى دور العرض وأكثرها تحقيقا للإيرادات فى شباك التذاكر. 

كيف يستطيع أن يقوم بكل هذا فى الوقت نفسه، دون أن تبتلعه دوامة الأحداث الجارية؟ إنه يتمكن من قراءة كل ما يهم: الكتب، المجلات والمقالات الصحفية، ويشاهد كل العروض المثيرة للاهتمام، ويسافر باستمرار ويحافظ على مراسلات هائلة، وكل هذا لا يبعده عن عمله ككاتب، الذى يكرس له أربع أو خمس ساعات يوميًا. كيف يفعل ذلك؟ يضحك بالطبع قائلا: إنه سر المهنة.