حوار «لاتينى» مع صحيفة «ليستى» التشيكوسلافية ..«نحن دول عالم ثالث حتى فى الأدب»!

خوليو وجابو وماريو فى براغ
خوليو وجابو وماريو فى براغ

مؤخرا تمت دعوة ثلاثة من الروائيين اللاتينيين إلى اتحاد الكتاب، وهم الأرجنتينى خوليو كورتاثر، والمكسيكى كارلوس فوينتس، والكولومبى جابرييل جارثيا ماركيز. صحيفة «ليستى» انتهزت هذه الفرصة لإجراء هذا الحوار معهم. وأجرى الحوار بيتر بوجمان.

خوليو كورتاثر.. ولد فى عام 1914 وصدرت له باللغة التشيكية مجموعة أدبية هى «المطارد وحكايات أخرى» نُشِر بعضها فى مجلة svetova الأدبية. وله كذلك العديد من الكتب أهمها رواية «لعبة الحجلة». 

كارلوس فوينتس.. ولد فى عام 1928، ويعد من كتاب الطليعة فى الأدب المكسيكي. وحتى الآن نشرت له باللغة التشيكية روايتان هما «المنطقة الأكثر شفافية» و»وفاة ارتمنيو كروث».

هل تعتقدون حضراتكم أن الأدب اللاتينى له هوية مستقلة أم أنه مرتبط بالأدب الأوروبى؟

كورتاثر: هذا السؤال متشعب للغاية. أعتقد كأرجنتينى أن هناك روابط بالأدب الأوروبى بالطبع. فكما تعلم أنه دائما ما يقال إن الأرجنتين وتشيلى وأوروجواى هى الدول الاكثر أوروبية فى أمريكا اللاتينية، ذلك أن تأثير الهجرة الأوروبية أكثر وضوحا فى تلك الدول. أما المكسيك وكولومبيا فالأمر بالنسبة لهما مختلف، نظرا لأنهما من أكثر دول القارة التى تمكنت من تأكيد هويتها اللاتينية.

وعلى هذا فإن الأدب الأرجتينى دائما له ميل وتوجه أوروبى. ربما يكون الوضع قد اختلف الآن فأصبح هناك نوع من المزج الذى يمكن أن يعد بداية لهوية أرجنتينية محددة. ربما فى يوم ما تظهر توليفة لاتينية. بالنسبة لى شخصيا لا أريد لذلك أن يحدث على نحو واسع فأنا أراهن دوما على التنوع أكثر من الاتحاد، فى رأيى فإن الاتحاد الأفضل لأمريكا اللاتينية يتعين أن يتم على الصعيدين السياسى والاقتصادى.

فوينتس: هناك مزحة قديمة تقول إننا نحن المكسيكيين ننحدر من عرق الأزتك فيما ينحدر الأرجنتينيون من قوارب المهاجرين. من المؤكد أن الأدب الأرجنتينى كان دائما ذا توجه أوروبى ولكننا لا نزال نعتبره لاتينيا صرفا.

فعلى سبيل المثال يقال إن بورخيس كاتب أوروبى لكن هذا ليس حقيقة مؤكدة. هى حقيقة وليست حقيقة فى الوقت نفسه. إن أى رأى نُدلى به فى هذا المسألة يمكن نفيه بطريقة أو بأخرى ويمكن أيضا تأكيده بطريقة أو بأخرى. إن بورخيس كاتب متفهم لصلته الأوروبية أكثر مما يمكن أن يكون أى كاتب أوروبى متفهم لهويته الأوروبية.

ذلك أن الأوروبيين لا يمكنهم الشعور بهذا الحنين لأوروبا. ولذلك فإن بورخيس أحيانا يكون أوروبيا أكثر من أى كاتب أوروبى وهو الأمر الذى يجعله أرجنتينيا للغاية. 

هناك مساحة واسعة من التشابه وبالمثل من الاختلافات. إن بيننا لغة مشتركة هى الإسبانية وكوننا نحمل إرث اللغة نفسها والثقافة نفسها يجعلنا نواجه مشاكل مشتركة. وعلى هذا فإن جارثيا ماركيز فى كولومبيا وكورتاثر فى الأرجنتين وأنا فى المكسيك نشعر بالحاجة إلى الهروب من أسر اللغة الإسبانية الأكاديمية.

إننا نرغب فى ابتكار لغة جديدة تكون مشتركة لنا جميعا ولكن فى نفس الوقت تحفظ لكل بلد هويته.

هل تعتقد أن الأدب المكسيكى يتأثر على نحو أكبر بالأدب الأمريكى باعتبار الولايات المتحدة دولة الجوار؟
فوينتس:  المكسيك بلد له إطاران زمنيان. له خط زمنى يمتد منذ الغزو الأوروبى والشعوب الأصلية وهنا يمكن أن نذكر النهضة والإصلاح والثورة الفرنسية ونحن جزء من كل هذه الحركات الثقافية، وكذلك مبادئ الثورة الفرنسية وحرب الاستقلال فى الولايات المتحدة والفلسفة الوضعية لكونت.

لا يمكنك أن تتخيل تأثير الفلسفة الوضعية لأوجست كونت على بلادنا. كل هذا هو خط زمنى تاريخى ممتد طوليا وهنا يمكن أن نتحدث عن التأثير الكبير للولايات المتحدة.

ولكن تحت هذا الخط الزمنى هناك إطار تاريخى دائرى وهو يمثل مفهوم الزمن بالنسبة للشعوب الأصلية. هذان الإطاران الزمنيان لم يحدث أن التقيا من قبل وهناك قلة من الكتَّاب والفنانين الذين أدركوا أهمية الربط بين الإطارين إذا أردنا أن تكون لدينا ثقافة مكسيكية حقيقية.

ما الذى يميز الأدب الكولومبى؟ وهل تشعر بالارتباط بإسبانيا والثقافة الإسبانية؟
ماركيز: كولومبيا، خلافا للعديد من الدول فى أمريكا اللاتينية، تعرضت ولا تزال تتعرض لأكبر تأثير للأدب والثقافة الإسبانية. فى كولومبيا حاول الكثيرون مواصلة السير على نهج الأدب الإسبانى دون الالتفات للملامح التى تميز الأدب الكولومبى.

ولكن الآن الأمور تتغير، إننا لن نلقى الأدب الإسبانى وراء ظهورنا بالطبع، ولكننا أصبحنا نستلهم الكثير من بلدنا نفسها. وبالتأكيد هناك التأثيرات الأوروبية التى تحدث عنها كورتاثر.

ولكن الأدب الإسبانى كان فى المقدمة. أنا الآن لا أستطيع أن أقول إننى إسبانى ولكن لا يمكننى نسيان أن جدودى كانوا إسباناً. كولومبيا كان بلداً استُعمِر تماما من جانب الإسبان ولم تكن هناك ثقافة أصلية قبل ذلك. 

السيد كورتاثر.. هل تعتقد أن هناك تنوعا لغويا فى أمريكا اللاتنية أم أن هناك عملية تقارب؟ إن هناك الكثير من الدول المستقلة فى أمريكا اللاتينية، فهل أفرز ذلك خصائص أدبية معينة؟
كورتاثر: فى القاموس بطبيعة الحال كانت هناك الكثير من الاختلافات منذ البداية ذلك أن شعوب هذه الدول كانت تعيش منفصلة. فى المكسيك مثلا اختلطت اللغة الإسبانية بكم كبير من الكلمات التى تعود للشعوب الأصلية.

هناك بعض المصطلحات والعبارات التى يستخدمها المكسيكيون فى لغتهم العامية الدارجة لا يفهمها الأرجنتينيون، هذا ليس الوضع فى كولومبيا، أما فى الأرجنتين فالأمر أكثر تعقيدا بكثير.

لقد تعرض بلدى لموجة ضخمة من هجرة الإيطاليين بعد الإسبان ومن هنا ظهرت لغة جديد ألقت بظلالها على اللغة الأدبية، بل وحتى على طريقتنا فى التفكير. ثم بعد ذلك جاء الفرنسيون والإنجليز والألمان الذين أثَّروا بطبيعة الحال فى اللغة. حدث ذلك أيضا فى أوروجواى. 

الأمر يحتاج إلى جهد ضخم كى يكون لك تاريخك الخاص. وعلى سبيل المثال، فى المكسيك وكولومبيا والأرجنتين هناك اختلاف فى طريقة فهم العالم. ولكن يمكن القول إن الارجنتينيين نجحوا فى اكتشاف أنفسهم كأرجنتينيين. أنا مثلا أنحدر من أصول باسكية إسبانية ومن الطرف الآخر من أصول فرنسية وألمانية، بيد أن نتيجة هذا الكوكتيل هو بالضبط ما يمكن أن أطلق عليه أرجنتينى أصيل. إن مشكلتنا من الناحية الثقافية كانت أعقد كثيرا من الحال فى كولومبيا. 

أمريكا اللاتينية من المعتاد أن تصنف ضمن دول العالم الثالث، ولست متأكدا إن كان ما سأقوله صحيحا أو دقيقا ولكن الحديث عن العالم الثالث غالبا لا يتعلق بالناحية الاقتصادية فحسب، بل الثقافية أيضا.

ماركيز:لا.. عندما نتحدث عن العالم الثالث فنحن نعنى الناحية الاقتصادية فقط.

كورتاثر: لا تقل هذه الأوهام، أنا أعتبر نفسى كاتباً من العالم الثالث، وعلينا أن نكون حذرين جدا فى هذا الأمر. ولكن عادة أنا أقول ذلك فقط على كوبا على وجه الخصوص. الحقيقة أن وجود عدد كبير من الكتَّاب الممتازين يؤدى فى بعض الأحيان إلى ظهور موجات قومية والاعتقاد بأننا لا ننتمى للعالم الثالث.

ولكن نحن دول عالم ثالث حتى فى الأدب. 

خلال السنوات العشر أو الخمسة عشر الأخيرة ظهر لدينا عشرون أو ثلاثون كاتبا كانت أعمالهم من الروعة بحيث أبهرت العالم. ومع ذلك تظهر هذه الأوهام والمبالغات كما يحدث فى فرنسا الآن. فى فرنسا الكتاب اللاتينيون يحرزون نجاحا ضخما لدرجة أن جودة أعمالهم تفوق بكثير ما يُكتبُ فى إسبانيا. لو افترضنا مثلا أنه نتيجة لكارثة جوية ما، ظهر خمسة أو ستة كتَّاب لاتينيين فسنعرف على الفور لأى مدى نحن فى العالم الثالث.

على سبيل المثال هنا فى تشيكوسلوفاكيا توجد ثقافة راسخة مع اختلافات فى درجة الجودة بطبيعة الحال، ولكن الثقافة فى حد ذاتها متأصلة وراسخة. الأمر ليس كذلك فى أمريكا اللاتينية على الرغم من أنه بدأت تظهر معجزة ثقافية أتمنى أن تستمر. إن الكتَّاب الكبار فى القارة نجحوا فى أن يصنعوا لأنفسهم عالما من القراء. قبل ذلك لم يكن هناك أحد يقرأ لهم وكان الناس يقرأون أعمال الكتَّاب الأوروبيين مترجمة.

الكتب الأولى لبورخيس صدر منها أكثر من 300 طبعة ولا تزال مستمرة. الآن لدينا جمهور مستعد لقراءة أعمال مترجمة للكتَّاب الشباب. إن هناك آلية ما وحراكا يتشكل وهو الذى سيخرجنا من العالم الثالث. 

فوينتس: نحن لا زلنا فى العالم الثالث، ولا تنسَ أننا نتحدث هناك عن الأدب.. أى عن النخبة. فى أمريكا اللاتينية هناك الملايين والملايين من الأميين والجوعى ذوى الثياب المهلهلة، والنظافة المنعدمة. إن 90% من سكان أمريكا اللاتينية يعيشون بطريقة أو بأخرى فى نفس مستوى معيشة شعوب آسيا وأفريقيا. 

أريد أن أسألكم عما يميز الأدب المكسيكى واللاتينى؟ وما الذى يميز أيضا الأدب ذا الأهداف غير الأدبية عن ذلك الذى له أهداف أدبية خالصة لأن هذه العلاقة تكشف الكثير عن حالة البلاد؟

فوينتس: لقد مررنا بعدة مراحل. إن تاريخنا المعاصر يبدأ من الثورة المكسيكية عام 1910. لقد مثلت لنا هذه الثورة إعادة اكتشاف للذات. لقد تنبَّه المكسيكيون إلى أنهم يعيشون ثقافة مقلدة ومفروضة عليهم، الثورة أعادت اكتشاف الأصوات والألوان والروائح الخاصة بالبلد. هذه الظاهرة الإيجابية أفرزت نوعا من الكاريكاتير القومى. بعد ذلك بدأت مرحلة من الديماجوجية فى الأدب والرسم.

كانت الأعمال تتناول المشكلات الاجتماعية ولكن بطريقة ديماجوجية وكانوا يكتبون فى ذلك الوقت أدبا رديئا، ثم ظهرت مرحلة كان فيها الفن من أجل الفن ولم تفرز شيئا جيدا كذلك. الأدب الجيد بدأ يظهر انطلاقا من مرحلة الضغط التى ذكرتها آنفا وبذكاء أدبى كبير. لقد فهمنا أن الخيال ليس مبررا فى حد ذاته.

وعلاوة على ذلك أدركنا أنه عندما يكون الأدب أدبا حقيقيا فإنه يقول الكثير عن المشكلات الاجتماعية، فى بلادنا الكتابة الجيدة هى عمل ثورى فى حد ذاته.

لقد عشنا 400 عام فى أجواء من الخطابات المقززة والأكاذيب والبيانات المضللة فى ظل العديد من الدكتاتوريين. والكتابة الجيدة كانت تعنى هدم جدار ضخم من الأكاذيب الشنيعة. بورخيس مثلا لم يكن كاتبا ثوريا أو صاحب قضية ولكن لأن الأدب الذى يكتبه كان رائعا فإنه كسر أربعة قرون من اللغة الزائفة.

لقد جعل الضوء يصل إلى حيث ساد الظلام، إننا عندما نكتب عن الحقائق المتخيلة فإننا نكتب عن الحقيقة، وفى الوقت نفسه نرفض الحقائق التى تُنقَل عن طريق الصحف ووسائل الإعلام التى هى فى حقيقة الأمر فى معظمها تحت سيطرة الولايات المتحدة أو قلة من الطبقة الأوليجاركية، هم ليس لديهم الخيال أما نحن فلدينا. إن قارة أمريكا اللاتينية كافحت طيلة قرون من أجل مبدأين أساسيين: الاستقلال وعدم التدخل فى شئونها. ولهذا فإنه من الطبيعى والمفهوم جدا أن نتضامن معكم.

جابريل جارثيا ماركيز.. ولد فى عام 1927 وحتى الآن هو غير معروف للقارئ التشيكى، ولكن قريبا جدا ستنشر له بالتشيكية واحدة من أهم رواياته هى «مائة عام من العزلة».