حبر على ورق

الحب وطوفان الموت

نوال مصطفى
نوال مصطفى

مشهد رهيب تقشعر له الأبدان، هيكل رجل يرفع كلتا ذراعيه إلى الأمام، متيبساً تمامًا، فى وضع احتضان لابنه الصغير، يخرج الهيكل منكفئا على وجهه من بين الأنقاض، ليجد رجال الإنقاذ طفلا صغيرا محاطا بتلكما الذراعين المتيبستين حيًا لايزال، كان جسد الأب هو الدرع الواقية، المستميت حتى آخر لحظة فى حماية ابنه من الموت. تتعالى صيحات الرجال بفرحة اخترقت الأحزان: عايش.. عايش، ثم  يركضون حاملين الجسد الصغير إلى حيث مكان سيارات الإسعاف، يبذلون أقصى الجهد لإنقاذه.

أب آخر يجلس جوار ركام الهدد والدمار، عيناه ذاهلتان، يغوص فى صمته اليائس، ويمسك بكف يد ابنته الراقدة تحت الأنقاض بلا صوت، ناداها مرارا وتكرارا فلم ترد، انتظر أن يأتى أحد ويخرجها من تحت الأنقاض ربما كانت نائمة، ربما راحت فى غيبوبة يمكن أن تعود منها، أو حتى ليضمها إلى صدره فى عناق أخير، لكن هذا أيضا لم ينله الأب الملتاع وسط طوفان الدمار الهائل، وقلة الإمكانيات أو انعدامها فى تلك المناطق التى حلت عليها لعنة الزلزال الرهيب فى شمال سوريا وغربها.

قصص تمزق القلوب، لأسر فقدت أحباء، و أخرى محت الكارثة اسمها ولقب عائلتها من سجلات الحياة، ذهب جميع أفراد العائلة إلى الموت معًا، لم يبق أحد! وكأنهم اتفقوا دون قصد «أن نعيش معا أو نموت معا». التراجيديا فى تلك المأساة تتجاوز الخيال، وتفوق اللامعقول، ناس تعيش تحت الأنقاض خمسة أيام ويتم العثور عليها حية! وناس تفارق الحياة من اليوم الأول أو ربما الساعة الأولى «ادينى عمر وارمينى تحت الأنقاض»!

تأمل الكوارث يضع الإنسان فى حالة تأمل عميقة للحكمة الإلهية وراء كل ذلك، ماذا ولماذا؟ وكيف؟ وأين؟ ومن؟ ومتى؟ الأسئلة الستة التى تعلمناها فى السنة الأولى بكلية الإعلام قسم صحافة. يظل يسألها كل منا لنفسه وهو ينظر بذهول إلى تلك المأساة الإنسانية المروعة.

أكثر من 37 ألف قتيل فى تركيا وسوريا، و89 ألف مصاب، وحوالى مليون مفقود تحت الدمار فى البلدين. والأرقام مرشحة للصعود أكثر وأكثر.
الدولة الأفضل ظروفا تركيا وصلتها منظمات الإغاثة ومساعدات العون من كل بلاد الدنيا بسهولة ويسر، فأمكن إنقاذ مئات من الضحايا، وعلاج المصابين بصورة أكثر إنسانية وكرامة. لكن سوريا الشقيقة، التى شاء حظها العاثر أن يضرب الزلزال الأجزاء الشمالية الغربية منها، والتى تقع خارج سيطرة النظام السورى الآن، عانت ولاتزال من فقر المعونات، وصعوبة وصول وفود الإغاثة، وانعدام الوسائل الحديثة فى البحث عن أحياء تحت الأنقاض وإنقاذهم. وكأن المصائب تختارالتعساء، الذين شاء قدرهم أن يكتووا بنار داعش، ثم يموتوا تحت الأنقاض، دون أقل محاولة لإنقاذهم!. كانت مصر هى الدولة الأولى التى تصل إلى سوريا وإلى المناطق المنكوبة فيها بوحدات إغاثة وإنقاذ فاستحقت إشادة دولية من منظمة الأمم المتحدة ومكتب شئون اللاجئين بالقاهرة.
زلزال 6 فبراير 2023 وقع فى ظل أحوال جوية شديدة البرودة، فضاعف من أعداد الضحايا الذين تجمدوا تقريبا تحت الأنقاض التى غطاها الثليج، ووسط ظروف سياسية جعلت الضحايا محاصرين، لا يجدون من يصل إليهم، ويغيثهم.. حملة منظمة اليونيسيف  للتبرع لإنقاذ أطفال سوريا من الضحايا تستحق كل الاحترام والتقدير، وكذلك مبادرات الإنقاذ التى أطلقتها الدول العربية، ورغم كل ما حدث وما يحدث يبقى السؤال: هل تعبر الطبيعة عن غضبها إزاء ما يقترفه الإنسان من جرائم التعدى عليها؟ هل تعاقبنا على هذا العبث بها، والذى أدى إلى التغير المناخى، ورفع درجة حرارة الجو؟ هل دفن النفايات النووية على مسافات عميقة فى باطن الأرض يغير من خصائص التربة وطبقات الأرض؟ هل نفيق، ونصحو؟ وننتبه قبل الطوفان؟ أم أن النسيان هو آفة الإنسان كما قال أديبنا القدير نجيب محفوظ فى رائعته «أولاد حارتنا»: «إن آفة حارتنا النسيان»!