الموقف السياسى

فوق طاقة البشر

محمود بسيونى
محمود بسيونى

تتصاعد أعمدة الدخان من عملية السلام، مثلما تتصاعد من مبانى رفح الفلسطينية، نتيجة العدوان الإسرائيلى المتواصل، والهدف واضح، وهو تفريغ قطاع غزة من الفلسطينيين، وتهجيرهم قسريا من أراضيهم باتجاه سيناء، حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة تنفذ مخطط التهجير وتصدير الأزمة إلى مصر، الأمر لا يحتاج إلى دراسة أو تحليل، فالهدف هو الضغط على القاهرة ودفن القضية الفلسطينية.

مصر فى قلب العاصفة، وجودها على خط الأزمة مسألة إجبارية، لا تملك فيها خيارات سوى العمل على التهدئة، ودعم الحقوق الفلسطينية المشروعة والتاريخية، كل الأطراف تعلم جيدا أن القاهرة هى الوحيدة القادرة على فك شفرات الاشتباك المعقد، إلا أن التهدئة تتطلب وجود عقلاء، وما السبيل بعد احتلال المتطرفين لمقاعد القيادة فى الحكومة الإسرائيلية؟!

مبكرا عبر الرئيس عبدالفتاح السيسى عن التوجه المصرى بجلاء، مصر لن تقبل بتصفية القضية الفلسطينية، ولن تتخلى عن أهلنا فى قطاع غزة، وعقد مؤتمر القاهرة للسلام للتحذير من العدوان العسكرى وجريمة الحصار والتجويع، وبدأ التفاوض، وتحركت المساعدات المصرية، وفتح معبر رفح بشكل مستدام، نجحت الهدنة المصرية، ثم عاد القتال، وتعقدت الأمور مع اقتراب العدوان من مدينة رفح الفلسطينية، وفى احتفال ليلة القدر شدد الرئيس على أن مصر لن تتوانى عن بذل أقصى الجهد لوقف القتال، والعمل على إنفاذ المساعدات إلى القطاع، والسعى بلا كلل أو ملل نحو حصول الشعب الفلسطينى على حقوقه المشروعة، وإقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967، وعاصمتها «القدس الشرقية»، وبذلك حددت مصر أجندة عملها مع كل الأطراف، فهى طرف منحاز بالأساس للحق الفلسطينى.

كلما تتعقد الأزمة ينعقد الأمل على القاهرة، فهى عاصمة الحل وراعى السلام، وهو أمر لم يأت من فراغ، فسجلها حافل بالنجاح فى تهدئة التوترات السابقة، وتحمل المفاوض المصرى المشقة لأكثر من 230 يوما بلا راحة، واستمع الى سخافات ومراوغات الجميع، كان يراقب تطور الأمور وهى تتجه إلى الأسوأ دائما، وفى ذهنه هدف واحد، هو وقف نزيف الدم الفلسطينى، وعدم تهديد الأمن القومى المصرى.

تحمل المفاوض المصرى ما يفوق طاقة البشر، من أجل الوصول إلى الهدنة الإنسانية، كان التنسيق مستمرا مع كل الأطراف، لدراسة المقترحات، تحركت مصر بين الفلسطينيين والإسرائيليين بواقعية شديدة، وهى تدرك جيدا أنها لن تصل إلى اتفاق، وأن النجاح سيكون حليف التوافق على الانسحاب من غزة مقابل تسليم الرهائن، من يطلع على الورقة المصرية يكتشف أنها شاملة للنقاط التى قبلتها الأطراف كافة، ودعمتها الولايات المتحدة باعتبارها أفضل خيار يصل للتهدئة حتى لو مؤقتة.

المفاوض المصرى هو الوحيد الذى يمتلك رؤية متكاملة لحل أزمة غزة، وهى رؤية تنطلق من معرفته العميقة بحقيقة الأوضاع فى القطاع، ونجاحاتها السابقة فى تحرير الرهائن والمحتجزين، وكان حضوره هو حجر الزاوية فى كل المحادثات التى جرت فى القاهرة وباريس والدوحة وتل أبيب، وكان حريصا على التشاور مع كل الأطراف، ويتعامل بحذر يليق بتاريخ الطرف الإسرائيلى فى المراوغة والتلاعب.

لا تتعامل مصر فى الملف الفلسطينى باعتبارها وسيطاً، بل شريكا كاملا، وتحملت محاولات التشويه المتعددة والمستمرة باعتبارها سند فلسطين التاريخى، وهى الطرف العربى الوحيد الذى دفع ثمن ذلك من دماء أبنائه، ومن التنمية التى يستحقها. 

والحقيقة أن العمل المصرى الجاد كان يقابله دائما مراوغة وتعنت إسرائيلى، حكومة نتنياهو لديها دوافع لاستكمال القتال، مهما كانت الخسائر، وفضلت مصلحتها على حياة الرهائن، وسعت لإفشال كل محاولات التهدئة، وتحرشت بكل جيرانها لتوسعة الصراع، والمضى قدما فى سياسة حافة الهاوية، لكسب المزيد من الوقت لاستكمال إجرامها ضد المدنيين فى غزة.

ومع تأزم الوضع الإسرائيلى، عقب طلب الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال نتنياهو ووزير دفاعه يواف جالانت، وإعلان مصر اعتزامها الانضمام للقضية المرفوعة من جنوب إفريقيا أمام العدل الدولية، عادت نغمة التشويش الساذجة على الدور المصرى، وظهرت تقارير مغلوطة نشرتها (سى إن إن)، وردت عليها القاهرة بقوة تليق بالدفاع عن جهد المفاوض المصرى، وفى القلب منه التحذير من وقف جهود القاهرة، ووضع الجميع أمام مسئولياتهم.

لا يخفى على أحد حجم الضغوط التى تتعرض لها القاهرة، من أجل فتح معبر رفح،  بعد سيطرة قوات الاحتلال عليه من الجانب الفلسطينى، وعودة الوضع لما كان عليه عام 2005، إلا أن القاهرة رفضت تماما سياسة الأمر الواقع الإسرائيلية، وأغلقت المعبر حفاظا على الحق الفلسطينى، واحتراما للاتفاقات الدولية، التى نصت بوضوح على السيطرة الفلسطينية على المعبر، وكان من المضحك أن يتحدث نتنياهو عن فتح مصر للمعبر أمام المساعدات، وهو من قصف المعبر مرارا وتكرارا، وترك المستوطنين ينهبون قوافل المساعدات، سواء القادمة من الرصيف الأمريكى أو المارة من معبر كرم أبى سالم.. هل يؤتمن الذئب على الحملان؟!

فشلت وستفشل محاولات تشويه الدور المصرى، وسيعود الجميع للتفاوض على مائدة القاهرة، وبالفعل تعالت الأصوات فى الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل العودة للتفاوض، والمحافظة على الدور المصرى، والاستفادة من الخبرة والحرفية المصرية فى إدارة المفاوضات، نظرا لنجاحاتها السابقة فى التفاوض بين إسرائيل وحماس.

المؤكد أن مصر ستتحمل كل تلك الضغوط، وستستمر فى الدفاع عن الحق الفلسطينى بلا كلل أو ملل، حتى يحصل الشعب الفلسطينى على كامل حقوقه.