فقد التراث الغنائي المصري، فجر الاثنين الماضي، واحدًا من أبرز الذين قدموا له خدمة عظيمة، هو الراحل زكريا إبراهيم الشهير بالريس زكريا، الرجل الذي قام بإحياء التراث الغنائي لمدن القنال، وتحديدا أغاني السمسمية والطنبورة، حيث جمع أبناء هذا الفن المصري الخالص منذ منتصف الثمانينيات، بعد أن كاد يندثر وتذروه رياح التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، وأسس لهم فرقة “الطنبورة”، التي قدمت هذا التراث الغنائي المصري شديد الخصوصية. لقد لعب الريس زكريا، نفس الدور الذي لعبه الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي، حينما طاف محافظات الصعيد يجمع السيرة الهلالية مع أبرز رواتها، ويعيد تسجيلها في تسجيلات واضحة الصوت ومؤرخة، غير أن الريس زكريا لم يكتف بالجمع والحفظ والأرشفة، بل أحيا الفن إحياءًا كاملا وأعاده صوتا فنيا لمحافظة بورسعيد يشدو في القاهرة وغيرها، لتعرفه الأجيال الجديدة من خلاله.
من خلال جهود الريس زكريا، عرفنا “الضمة”، وهي الجلسة التي تضم العازفين والمغنين والصحبجية، والصحبجية هم من يواظبون على حضور ليالي الحظ، ليس فقط كسميعة ولكن يرددون مع الريس (كبير الفرقة) والمطربين الأدوار والأغاني التي تغنى على آلة السمسمية والطنبورة وباقي الآلات مثل الدف والرق والمثلث والناي والصاجات.
التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي شهدتها مدينة بورسعيد ومدن القنال عموما، أثرت بشكل كبير على الضمة، لكن مع منتصف الثمانينيات وبداية التسعينيات، استيقظت رغبة قوية مخلصة في الحفاظ على تراث السمسمية والضمة، والعودة بها إلى حيث أصلها، كنشاط اجتماعي وفني جماعي لأهل بورسعيد، وهنا أطلق الريس زكريا المبادرة الأهم للحفاظ على تراث الضمة، فكان له الفضل في تعريف جمهور القاهرة والمدن المختلفة بالطنبورة وأغنياتها من خلال الحفلات العديدة التي ينظمها، بل وفي تعريف العالم على هذا التراث بفضل الحفلات الخارجية لفرقة الطنبورة التي جابت العالم كله تقريبا لتقدم هذا الفن البورسعيدي التراثي.
يؤرخ الريس زكريا لميلاد الطنبورة، منذ عام 1895، حينما وصل إلى بورسعيد عشرات من أهالي دمياط مع ديليسبس لبدء حفر قناة السويس، ثم تبعهم المئات من أهالي محافظات الدلتا ومحافظات الصعيد، لتتكون كتلة سكانية جديدة ومتنوعة، كل بثقافته، في مدينة بورسعيد.
مع الكتلة السكانية الجديدة التي تكونت في بورسعيد لحفر القناة، كانت كل مجموعة من بلد مختلفة تتواصل عبر فنها التراثي.. المواويل، والإنشاد الصوفي، والكَف، أغنيات الصيادين وأغنيات الفلاحين، ومع بداية القرن العشرين وظهور اسطوانات الجرامفون المسجل عليها أغنيات وأدوار وطقاطيق الرواد، حدث تداخل وانصهار بين ما يسميه البورسعيدية “أغاني العشق” وتضافرت المواويل والإنشاد الصوفي وأغاني الطوائف لتبدأ الضمة، حيث تغنى الأدوار الخليط من كل هذه الفنون على إيقاعات السمسمية أو الطنبورة، وبجوارهما المثلث والدفوف والناي، ويتصدر هذه الأدوار التراثية رقصة البمبوطية.
وسط الصحبجية يشدو الفنانين في الضمة بالأدوار في ليالي الحظ، أغنيات تراثية قديمة، وتحايا للصحبجية وبلادهم الأصلية صعايدة وفلاحين وسواحلية، وبعض الأدوار عبارة عن اسكتشات كوميدية تسخر من كل شيء، مع العدوان الثلاثي تحولت الضمة وأغنياتها إلى أناشيد حماسية تحث على المقاومة ودحر العدو وقد كان، لكن في عام 1967 وبعد العدوان الإسرائيلي، يبدأ تهجير أهالي مدن القنال، ويجد البورسعيدية أنفسهم في أماكن مختلفة وبعيدة عن بلادهم، في مدن كبرى مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا والمنصورة، أو في أعماق الأرياف في الدلتا وشمال الصعيد، ومرة أخرى تصبح الضمة وسيلة التواصل بين بعضهم البعض.
مع انتصار 1973 وعودة المهجرين إلى بورسعيد، عادت ليالي الحظ والضمة إلى المدينة الباسلة، لكن الأمر تغير والثقافة كذلك، كما رصد الريس زكريا إبراهيم، مع سياسات الانفتاح الاقتصادي وإنشاء المنطقة الحرة وظهور طبقة ثرية من التجار، تحول الأمر إلى حفلات مدفوعة بأسماء هؤلاء التجار، أو حفلات يتبارى فيها التجار بمنح “النقوط” لترديد أسمائهم والاستماع إلى أغاني محددة، وبالتالي تغيرت الضمة التي كانت أشبه بحلقة ذكر صوفية حول الانبساط الحر والمتعة، وتغير معها الإيقاع، وتراجع الصحبجية المخلصين عن حضور الضمة، وتوارى المغنون الذين يحفظون أغاني السمسمية التراثية، وكادت الضمة أن تندثر، لولا مبادرة الريس زكريا، الذي قضى حياته كـصحبجي أصيل، يحفظ تراث السمسمية ويحافظ عليه.