أخر الأخبار

حينما يواجه الإنسان نفسه بملف آداب

يحيى وجدى
يحيى وجدى

في‭ ‬الدقيقة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬“ملف‭ ‬في‭ ‬الآداب”،‭ ‬تخلو‭ ‬قاعة‭ ‬المحكمة‭ ‬تمامًا‭ ‬بعد‭ ‬هرج‭ ‬ومرج،‭ ‬يغادر‭ ‬الجميع،‭ ‬ولا‭ ‬يتبقى‭ ‬سوى‭ ‬رجل‭ ‬وحيد‭ ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬“دكة”‭ ‬بالصف‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬القاعة،‭ ‬وقد‭ ‬شبك‭ ‬كفيه‭ ‬وأحنى‭ ‬رأسه‭ ‬مهمومًا‭ ‬وحزينًا‭ ‬وكأنما‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬نال‭ ‬حكمًا‭ ‬بالإدانة‭.‬

لا‭ ‬تفصح‭ ‬الكاميرا‭ ‬بالطبع‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬يفكر‭ ‬فيه‭ ‬ضابط‭ ‬مباحث‭ ‬الآداب‭ ‬المقدم‭ ‬سعيد‭ ‬أبو‭ ‬الهدى‭.. ‬أو‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني‭ ‬في‭ ‬أروع‭ ‬أدواره،‭ ‬لكن‭ ‬تأسيه‭ ‬على‭ ‬حاله،‭ ‬أو‭ ‬الحالة‭ ‬التي‭ ‬وصل‭ ‬إليها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬صوته‭ ‬لكي‭ ‬يعرف‭ ‬المشاهد‭ ‬ماذا‭ ‬يجول‭ ‬في‭ ‬خاطره‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭.‬

وشتّان،‭ ‬بين‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير‭ ‬في‭ ‬الفيلم،‭ ‬ومشهده‭ ‬الأول‭.. ‬شتّان‭ ‬بين‭ ‬حالة‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬بدايتها‭ ‬ومآلها‭.‬

في‭ ‬المشهد‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬“ملف‭ ‬في‭ ‬الآداب”‭ ‬نرى‭ ‬سعيد‭ ‬أبو‭ ‬الهدى‭ ‬متحمسًا‭ ‬قويًا‭ ‬بالحق‭ ‬الذي‭ ‬يعرفه‭ ‬ويدركه،‭ ‬حينما‭ ‬يسعى‭ ‬للإيقاع‭ ‬بسيدة‭ ‬تدير‭ ‬منزلها‭ ‬للدعارة‭. ‬يستوقف‭ ‬عامل‭ ‬توصيل‭ ‬الطلبات‭ ‬ويأخذ‭ ‬ملابسه‭ ‬ويقود‭ ‬دراجته‭ ‬لكي‭ ‬يدخل‭ ‬الشقة‭ ‬المشبوهة‭ ‬ويقبض‭ ‬على‭ ‬المتهمين‭ ‬متلبسين‭. ‬ضابط‭ ‬شرطة‭ ‬ينفذ‭ ‬العدالة،‭ ‬فخور‭ ‬بنفسه‭ ‬وبدوره،‭ ‬نشيطًا‭ ‬واثقًا‭ ‬مما‭ ‬يقوم‭ ‬به،‭ ‬لكنه‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الأخير‭ ‬ضعيفًا‭ ‬ذليلًا‭ ‬يحمل‭ ‬عاره‭ ‬على‭ ‬كتفه،‭ ‬وقد‭ ‬بدا‭ ‬أكبر‭ ‬سنًا‭ ‬بمراحل‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬الحقيقي‭.‬

وفي‭ ‬المشهدين،‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬الممثل‭ ‬القدير‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني،‭ ‬الذي‭ ‬ترك‭ ‬بدوره‭ ‬هذا‭ ‬علامة‭ ‬وسط‭ ‬نجوم‭ ‬كبار‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬عاطف‭ ‬الطيب،‭ ‬مثل‭ ‬فريد‭ ‬شوقي‭ ‬ومديحة‭ ‬كامل‭ ‬وتوفيق‭ ‬الدقن‭.‬

لضابط‭ ‬الشرطة‭ ‬حضور‭ ‬كبير‭ ‬ومركزي‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬عاطف‭ ‬الطيب‭.. ‬“كتيبة‭ ‬الإعدام”،‭ ‬“البريء”،‭ ‬“الهروب”،‭ ‬وكذلك‭ ‬في‭ ‬أعمال‭ ‬وحيد‭ ‬حامد‭ ‬في‭ ‬تعاونه‭ ‬مع‭ ‬عاطف‭ ‬الطيب‭ ‬ومع‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬المخرجين‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬ضابط‭ ‬الشرطة‭ ‬هو‭ ‬المعادل‭ ‬الموضوعي‭ ‬للسلطة‭ ‬التنفيذية‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬المباشرة‭ ‬مع‭ ‬المواطن،‭ ‬وعندها‭ ‬أيضًا‭ ‬تبدأ‭ ‬العدالة،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬الكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لها‭ ‬قاضي‭ ‬المحكمة‭.‬

اختلفت‭ ‬شخصية‭ ‬ضابط‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬الأفلام‭ ‬الثلاثة‭ ‬السابق‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها،‭ ‬لدينا‭ ‬نموذجين‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬“الهروب”‭ ‬قدمهما‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬مخيون‭ ‬ومحمد‭ ‬وفيق،‭ ‬ونموذج‭ ‬يمثل‭ ‬القهر‭ ‬المباشر‭ ‬في‭ ‬تجليه‭ ‬داخل‭ ‬المعتقل،‭ ‬وقدمه‭ ‬محمود‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬في‭ ‬“البرئ‭ ‬”،‭ ‬وفي‭ ‬“كتيبة‭ ‬الإعدام”‭ ‬ممدوح‭ ‬عبد‭ ‬العليم‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬لثأر‭ ‬المجتمع‭ ‬ممن‭ ‬يعتقد‭ ‬أنه‭ ‬مجرم‭ ‬خائن‭.‬

في‭ ‬“ملف‭ ‬في‭ ‬الآداب”‭ ‬نجح‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني‭ ‬نجاحًا‭ ‬مبهرًا‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬شخصية‭ ‬“الضابط‭ ‬الموظف”‭ ‬رغم‭ ‬حساسية‭ ‬الإدارة‭ ‬التي‭ ‬يعمل‭ ‬بها‭ ‬“مباحث‭ ‬الآداب”‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬وصم‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬للأبد‭ ‬مهما‭ ‬برأته‭ ‬المحكمة،‭ ‬كما‭ ‬صرخت‭ ‬المتهمة‭ ‬البريئة‭ ‬“مديحة”‭.. ‬مديحة‭ ‬كامل‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬المحاكمة‭.‬

و”الضابط‭ ‬الموظف”،‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬اصطدم‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬حياته‭ ‬العملية‭ ‬حينما‭ ‬قام‭ ‬بدوره‭ ‬وأدى‭ ‬وظيفته،‭ ‬بأن‭ ‬التحقيق‭ ‬حفظ‭ ‬لأن‭ ‬المتهمة‭ ‬التي‭ ‬ضبطها‭ ‬متلبسة‭ ‬في‭ ‬شقتها‭ ‬بسبب‭ ‬نفوذها‭ ‬ومعارفها،‭ ‬ليتحول‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ضابط‭ ‬ظالم‭ ‬يتجبر‭ ‬على‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الموظفات‭ ‬والموظفين،‭ ‬لإدانتهم‭ ‬بممارسة‭ ‬الدعارة‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬متأكد‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أنهم‭ ‬بلا‭ ‬نفوذ‭ ‬مثل‭ ‬“علية‭ ‬هانم”،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬موظف‭ ‬مثلهم‭.. ‬ضعيف،‭ ‬يسعى‭ ‬للترقي‭ ‬في‭ ‬وظيفته‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬مساره‭ ‬المهني‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬السبيل‭.‬

قدم‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني‭ ‬دور‭ ‬ضابط‭ ‬الشرطة‭ ‬المتجبر‭ ‬في‭ ‬“ملف‭ ‬في‭ ‬الآداب”‭ ‬عام‭ ‬1986،‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬محمود‭ ‬عبد‭ ‬العزيز‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬“البريء”‭ ‬عام‭ ‬1985،‭ ‬والمؤكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يتوقع‭ ‬المقارنة‭ ‬بين‭ ‬الشخصيتين،‭ ‬لكنه‭ ‬خرج‭ ‬بدوره‭ ‬من‭ ‬صورة‭ ‬الضابط‭ ‬الذي‭ ‬يحمل‭ ‬العصا‭ ‬أو‭ ‬الكرباج‭ ‬في‭ ‬يده،‭ ‬إلى‭ ‬الضابط‭ ‬الذي‭ ‬يمارس‭ ‬التعذيب‭ ‬والضغط‭ ‬بدون‭ ‬أداة‭ ‬مادية‭.. ‬بصوته‭ ‬وألاعيبه‭ ‬في‭ ‬استغلال‭ ‬الضعف‭ ‬والفساد‭.‬

بأدائه‭ ‬العميق‭ ‬واستبطانه‭ ‬للشخصية،‭ ‬رغم‭ ‬صعوبتها‭ ‬وتعقيدها،‭ ‬كتب‭ ‬صلاح‭ ‬السعدني‭ ‬مع‭ ‬المقدم‭ ‬سعيد‭ ‬أبو‭ ‬الهدى‭ ‬جملة‭ ‬في‭ ‬أجمل‭ ‬مشاهد‭ ‬النهايات‭ ‬في‭ ‬السينما‭ ‬المصرية،‭ ‬هي‭ ‬“حينما‭ ‬يواجه‭ ‬الإنسان‭ ‬نفسه”‭.‬


 

;