يوميات الأخبار

ذكريات متعددة الجنسيات!

إيهاب الحضرى
إيهاب الحضرى

صعدتُ الدرجات مُتكئا على تعبى، واختار رفيقى الممر الصاعد الأكثر ملاءمة لشبابه. بعد لحظات أصبحنا داخل بُقعة تقبض على بقايا الماضى، غير أن الحاضر يركل قبضتها بقُوة.

ورقه الأصفر شهِر إيلول

الخميس:

كان يُفترض أن أطير فى رحلة خارج الحدود، لكن خطأ إجرائيا قديما تسبب فى عدم صدور التأشيرة. لم أحزن رغم رغبتى المُلحة فى تنسّم هواء مختلف بقارة أخرى. ولأننى لم أكُن أسعى وراء الرحلة، فقد قررتُ استثمار فشلها.. بنجاح! 

تجدّد نداء الإسكندرية وحان وقتُ الاستجابة له، بعد سنوات من الانشغال عنه بنداءات أخرى أقلّ أهمية. فى الماضى، ظلّ سبتمبر شهرا مثاليا لزيارة عروس المتوسط. جوّه يميل للاعتدال، والزحام يتراجع مع اقتراب دخول المدارس، وتبدأ المدينة فى التقاط أنفاسها، بعد فترة من المعاناة بسبب ملايين النازحين من المحافظات المختلفة. لكن يبدو أن دوام الحال من المحال.

قبل السفر، بدأتُ البحث عن فندق مناسب فى محطة الرمل. تشابهت الردود بتفاوت بسيط: لا توجد غرف شاغرة. العُطلة لا تزال تمد ذراعيها للراغبين فى تغيير الجوّ، رغم أن الأجواء تحولّتْ قبل أيام بصورة دراماتيكية، والعاصفة «دانيال» اكتسحت ما أمامها وأطاحتْ بمُدُن كاملة فى ليبيا. أخيرا نجحتُ فى الحصول على غرفة فى فندق بعيد نسبيا عن الشاطئ، وحجزتُ تذكرتيّ الذهاب والعودة. وفى النهاية وجدتُ نفسى فى القطار.

صخبٌ متداخل. أية محاولة لمقاومته مصيرها الفشل، والسبيل الوحيد لتفادى تأثيراته السلبية هى التعايش معه. صرخات طفل تأتى من آخر العربة، وأحاديث متفرقة لثنائيات بشرية لم تعرف اختراعا اسمه الحديث الهامس، وجارٌ يهوى إجراء مكالماته الهاتفية وكأنه يتحدث فى مُكبّر صوت، متفاخرا بصداقاته المتعددة مع مشاهير كرّر أسماءهم أكثر من مرة بنبرة مُتفاخرة.

تقريبا عرفتُ مخططات يومه والأيام التالية، وربما أثار إعجاب بعض الركّاب باعتباره شخصا ذا حيثية، عرفتُ ذلك من التفاتة يقوم بها أحد جيراننا، مع كل اسم فخم يذكره صاحبنا. من بعيد، ينساب صوت فيروز: «ورقه الأصفر شهِر إيلول تحت الشبابيك ذكّرنى.. وورقه دهب مشغول ذكرنى فيه..

رجع أيلول وانت بعيد بغيمة حزينة قمرها وحيد.. بيصير يبكينى شتى أيلول». غالبا كان المستمع المجهول فى مثل عمرى، ليس فقط لاختياره أغنية لفيلمون وهبى، الذى يُفجر الشجن من صوت فيروز المُسيل للبهجة، بل لأنه أيضا لم يستعن بسماعات يلجأ إليها أبناء الأجيال الجديدة للانفصال عن العالم. ليس مُهما إن كان رجلا أو امرأة، إنه فى كل الأحوال كائن بشرى، قرر الاستعانة على قضاء رحلته بالألحان، التى ترنّحت على إيقاعات جارى الخبير فى صناعة الضوضاء!

الإسكندرية مُشمسة بجو خريفى رائق. وقعت العاصفة  فى غرامها فغادرتْها بدون خسائر، بعد أن اقتنصت أرواح الآلاف فى مدن أخرى شقيقة لاتزال ترتشف أحزانها، لتُجدّد أوجاع سبتمبر بشراكة استراتيجية مع زلزال المغرب. خلّف الاثنان صورا تعتصر قلوب من يُشاهدها، وتبقى فى الذاكرة رغم بُعدنا الزمنى نسبيا عنها، فما بالنا بمن عايش المآسى واقعيا، وفقَد خلالها أقارب وأحبّاء، وربما خسر كل ما يملك. فى العموم يظل سبتمبر شهرا مُستأنسا، باستثناءات قليلة على مدار تاريخنا المعاصر، صبغتْه باللون الأسود فى مناطق عديدة من العالم، بعد أن ارتبط بإراقة الدماء، غير أنه فى مصر رفيق بنا، بل إنه أكثر حنانا علينا من ربيع يحاصرنا بنسماته المثيرة للأتربة.. والحساسية العاطفية!

خيالات كوم الدكّة

الجمعة:

فى الرابعة من عُمرى سمعتُ الاسم للمرّة الأولى. أطلقتُ ضحكة طفولية جعلتْ أمى تُصوب نظراتها النارية باتجاهى، مما يُشير إلى أننى ارتكبتُ خطأ يستحق عقوبة مؤجّلة لبعض الوقت. كنا فى زيارة لصديق أبى رحمه الله وعائلته. يُقيم فى الجزائر العاصمة التى نفرح بزيارتها، لأن مدنيّتها تمنحنا هُدنة من أجواء قانعة بالهدوء فى مدينة صغيرة أو قرية كبيرة نقيم بها. إنها برج منايل الواقعة فى منطقة غالبيتها من القبائل. أحببتُ طبيعتها التى لا تزال مُعتصمة بذاكرتى، مثلما التحفتْ هى بالجبال من كل جوانبها، وإلى الآن أستدعى صورها المعبأة بنكهة الحنين. لم تُتح لى الظروف زيارة الجزائر منذ أكثر من أربعين عاما، وأدرك تماما أن أية زيارة سوف تطيح بذكريات اندثرتْ أماكنها غالبا، وقد تزيد مساحات الشجن نتيجة مقارنات يخسرها الحاضر بجدارة، لكننى أعتقد أن أبناء جيلى كانوا محظوظين، لأن كثيرين منهم صنعوا ذكريات متعدّدة الجنسيات، فى زمن اتسم بزيادة معدلات سفر الآباء للعمل بدول عربية عديدة تنتشر بين المحيط والخليج.

طبعا نسيْتُم ما بدأتُ به كلامى. لا ألومكم فثرثرتى المُفرطة بارعة فى تصنيع متاهات للأفكار. كان صديق والدى يتحدث عن مسقط رأسه فى كوم الدّكة، استغربتُ الاسم بطبيعة الحال، فالدّكة الوحيدة التى أعرفها، هى تلك التى عاصرتها فى بيت جدّى، وشاهدتُ مثيلاتها بعد ذلك فى العديد من بيوت القرية، قبل أن تتحوّل مبانيها إلى كُتل خرسانية، وتتنازل عن أثاثاتها البسيطة لصالح «موبيليات» عصرية تفتقد الجمال أحيانا.

كبرتُ وأصبحتْ كوم الدكة حاضرة مع كل حديث عن سيد درويش، ولم تنجح رائعته «زورونى كل سنة مرة» فى إقناعى بزيارة منطقة شهدتْ مولد عبقريته. استخدم الزمن ألاعيبه ففرّق بين أبى وصديقه، وانقطعت الصلة مع ولد وبنت فى مثل سنى، كان لقاؤهما مصدر بهجة لى ولأختى قبل كل زيارة. الأسماء فقط حاضرة بينما اختفت الملامح نهائيا، وربما قابلتُ أحدهما فى مكان ما، دون أن يعرف كلانا أننا أصحاب طفولة مُندثرة. بقيتْ كوم الدكة تردّد: «حرام تنسونى بالمرة»، وأتجاهل العبارة لأن النسيان غير وارد مع منطقة لم تربطنى بها علاقة على الإطلاق.

 فى شارع فؤاد توقف الزميل الأديب أحمد سليم فجأة، أمام سلالم تصعد إلى فضاء غامض، إنها إحدى حلقات وصل قليلة، تربط كوم الدكة بالعالم الخارجى. صعدتُ الدرجات مُتكئا على تعبى، واختار رفيقى الممر الصاعد الأكثر ملاءمة لشبابه. بعد لحظات أصبحنا داخل بُقعة  تقبض على بقايا الماضى، غير أن الحاضر يركل قبضتها بقوة. الانطباعات الأولى ليستْ مُبهرة بالضرورة، لكنّ تفاصيل الخيالات السابقة تمنح الزائر رغبة فى اختلاق أسطورة مُعاصرة. أمضى مثل سائح يستحلب الدهشة فى مكان أصيب أهله بآفة الاعتياد، وربما عاش أبناؤه  الشباب أحلام الهروب منه، تماما مثل حميدة التى ضاقت بزقاق المدق، وظلّت تسعى للخروج من حيّزه الضيّق إلى عالم أكثر رحابة، فكتبتْ شهادة وفاة شرفها وحياتها. 

جماليات حارة «الأعور»!

بعدها بيوم عدتُ إلى كوم الدكة لأرصد إحدى محاولات تجميل الواقع. فى حارة «الأعور» تفتّحتْ عيناى على طاقة ضوء. لعبت الفنانة التشكيلية رحاب فاروق دور المرشدة السياحية، وأكدّت أن الحارة تشهد عودة الروح مرتين فى العام، يجتمع فيها الفنانون للرسم على الجدران المتآكلة، بينما الأرض تكتسى بسجادات قديمة تمنح الزائرين شعورا بترحيب السكان. فى أحد الأركان يستلقى عود وآلات موسيقية أخرى، استعدادا لليلة فنية تستحضر تراث الشيخ سيد. للأسف لم أستطع حضورها لارتباطى برحلة عودة بعد زيارة خاطفة. تجوّلتُ فى الحوارى المتشابكة. تختلط فيها مبانٍ قديمة تشكو الإهمال رغم جمالها، بأخرى حديثة تصلب الخراسانات طولها، فتمنح قُبحها قوة لا تليق به. غير أن النسيج العام لا يخلو من ألفة لا أستطيع تبريرها. قد يكون سببها اعتمادى يشكل كبير على تراث ذهنى، يستمد عنفوانه من حكايات قديمة راسخة فى الذهن. أعرف أن تركيبتى النفسية غريبة، غير أنها علاج مفيد يُنقذنى فى أحيان كثيرة.. من فخاخ الحاضر!

التشهير.. عشقا!

الاثنين:

فى طريقى إلى الجريدة، تُلح موسيقى أغنية فيروز علىّ. إنها إحدى عاداتى المُزمنة. كثيرا ما أستمع بالمصادفة للحن قديم، فيراودنى عن مشاعرى لعدة أيام تالية. لا أعرف لذلك سببا محددا، وقد يكون لهذه الحالة مبرراتها فى علم النفس، لكنى لن أشغل نفسى بتحليلها، لأننى مستمتع بوقوعى تحت سطوة أغنية تنطلق من منصة أيلول «سبتمبر». كلمات الأغنية بسيطة لدرجة جعلتنى أتهمها بالسطحية، غير أن اللحن الشجيّ والصوت المُلبّد بالمشاعر، ساهما فى وضعها على رأس قائمة الأغانى المُثيرة للشجن فى تراثنا العاطفى العربى، لأنها كالعادة تستمد شحناتها من الفراق ووجعه. 

تظلّ المعاناة أكثر قُدرة على تفجير طاقاتنا الإبداعية، ولولاها لخلا الشعر والغناء العربى من معظم أيقوناتهما! أحيانا أعتقد أن البعض اخترعوا الألم ليُطلقوا قصائدهم. عبارة صادمة؟ ربما. لكنّها تتماس بشكل ما مع الحقيقة. عندما تغزّل قيس فى ليلى كان يعرف القواعد الاجتماعية التى نسجها قومه على مدى تاريخهم الطويل، ويُدرك أن إشهار العشق فى قوانين الصحراء معناه الحُكم على من ارتكبه بالحرمان. إنه الحفاظ على الشرف، فالموافقة على زواجه بحبيبته فى هذه الحالة قد يوحى بأن الارتباط وقع للتستّر على فضيحة.

كان يُمكن لقيس وأصحابه من مجانين العشق أن يكتبوا قصائدهم دون التصريح باسم الحبيبة، أو دخول البيت من بابه وطلب يدها، وقتها سيكون الزواج نهاية محتملة، ويصير الشاعر فى نظر قوْمه رجل أفعال لا يُضيّع وقته فى الأقوال. غير أن العشاق اختاروا التشهير بحبيباتهن عبر الغزل، فضلّوا الطريق إلى عشّ الزوجية. تسبّبوا فى فشل غرامياتهم ثم استثمروه فى صياغة أروع القصائد، وربما فعل بعضهم ذلك مع سبق الإصرار والترصّد، كى لا يسقطوا فى فخّ الارتباط المؤبّد!!