يوميات الأخبار

أنا وسعيد صالح فى سجن الحضرة

حسين عبد القادر
حسين عبد القادر

حسين عبد القادر

أول ملاحظة نقلتها إليه هى الفارق الكبير بين ملامح وجهه والضعف الواضح عليه كما بدت ملامحه فى مسلسل «السقوط فى بئر سبع» وبين وجهه الذى أراه الآن ممتلئا..

الوقت : مارس عام ١٩٩٦
المكان: سجن الحضرة فى الإسكندرية

أخيرًا وصلت إلى بوابة السجن وبرفقتى المصور الفنان عادل مبارز حيث حصلت على تصريح من مصلحة السجون بمقابلة سعيد صالح المحبوس على ذمة اتهامه بتعاطى مخدرات.. لم تستغرق إجراءات دخول السجن والوصول إلى مكتب المأمور سوى دقائق. فقد كان الجميع ينتظرنا طبقا لإخطار مصلحة السجون بالقاهرة لهم بموعد حضورنا.

كان هذا هو السؤال الذى بادرنى به العميد عادل مجاهد مأمور السجن بعد اعتذاره لنا عن تقديم أى واجب للضيافة لأننا بالطبع فى نهار رمضان.. قال لى المأمور: هل تعلم أنك الصحفى الوحيد الذى سمح له بمقابلة سعيد صالح. أجبته سريعا: نعم لقد أخبرنى بذلك مدير السجون عندما أصر على زيارته بمكتبه قبل يومين. وسألنى عن سر علاقتى بسعيد صالح وعندما أبديت دهشتى من السؤال، قال إن المصلحة تلقت أكثر من مائة طلب من صحفيين وإعلاميين من مصر وخارجها لمقابلة سعيد صالح، ولكن قوبلت كل الطلبات برفض سعيد لها.. وأخبرت المأمور بما قلته لمدير السجون بعدم وجود أى علاقة من قبل بسعيد وضحكت قائلا له: سنعرف السر من سعيد نفسه.

١٥ دقيقة مرت ونحن فى انتظار وصوله من زنزانته بالطابق الثانى فى السجن. لم نكن فى حاجة لنعرف أنه فى الطريق فقد بدأنا نسمع صوته العالى وهو يطلق قفشاته ونكاته على الجميع أثناء مروره قادما لنا وحده دون حراسة. وهذه ميزة يحصل عليها السجناء حسنو السير والسلوك والالتزام باللوائح.
بمجرد دخوله المكتب صاح فى بطريقته الكوميدية:

إيه ده يا أستاذ؟ أنت تسببت بتأخر وصولك فى تعطيلى عن مصالحى هنا.. ميعادكم كما يقول تصريح الداخلية الساعة العاشرة، والمفروض أن تلاحظ أهمية وقتى.. الموضوع مش سهل زى عندكم بره.. هنا نظام. عموما سوف أراعى مشقة السفر فى رمضان.

فى تلك اللحظة وقعت عيناه على عادل مبارز الذى كما أدركت من حالة العناق والحميمية علاقة الصداقة بينهما وهو يقول له: أنا فرحت أوى برؤيتك (يا عادل).

وأجاب سعيد.. لماذا أنا فقط؟

سألته عن السر الذى يحيرنى أنا وقيادات السجون عن رفض أى مقابلات مع الصحفيين منذ دخوله السجن وحصر الموافقة معى.. قال سعيد: بصراحة بعد دخولى السجن، فوجئت بأحدهم لا أعرفه ولم يلتق بى يفبرك حوارا مختلقا معى ونشره بما يسىء إلىّ. فقررت مقاطعة اللقاءات الصحفية من وقتها ثم صمت برهة وهو يدقق نظراته تجاهى قائلاً: بصراحة لا أعرف السبب وراء موافقتى عليك دون تردد ليضحك وهو يقول: جايز فيك شىء لله أو ربما حتى أشاهد صديقى العزيز عادل مبارز.

صحته اتحسنت فى السجن!

قلت له: لدىّ كثير من الأسئلة بعضها شخصى، وبعضها ربما يسبب لك حرجا، فلك الحق فى الامتناع عن الإجابة عليها. بادرنى: يا أستاذ ليس سعيد صالح الذى يخاف أو يحرج من سؤال ولست جبانا حتى أتهرب من الإجابة.

كانت أول ملاحظة نقلتها إليه هو الفارق الكبير بين ملامح وجهه والضعف الواضح عليه كما بدت ملامحه فى مشاهد مسلسل «السقوط فى بئر سبع» وبين وجهه الذى أراه الآن ممتلئا، فسألته عن سبب التغيير..

أجابنى سعيد قائلا: معك حق، لقد كنت قبل القبض علىّ غير منظم فى أى شىء والآن تداركت أخطائى.. ابتعدت عن كل ما يضرنى، فأصبحت مثلا مواظبا على تعاطى الأدوية الخاصة بالسكر فى مواعيدها خاصة حقن الأنسولين وأتناول الأكل من أنواع وكميات بنظام.

سر سعادتى!

سألته عن سر بشاشته الواضحة رغم سجنه.. ليبادرنى بسرعة أجمل شىء فى السجن هو الأمل الذى يحكم تصرفات الجميع، فالمسجون حريص على الالتزام باللوائح حرصا على العفو عنه بعد نصف المدة أو الحصول على حسن معاملة الإدارة أو ربما يكون جزءاً من تهيئة النفس لما بعد الإفراج. وبمناسبة رمضان وإمامة المصلين قال: أنا إمام الصلاة لنزلاء عنبرى، ولذلك بدأت استعيد حفظى للمصحف الذى كنت أحفظه فى طفولتى.

ثم ضحك قائلا: لم يحضروا لى تليفزيون فى زنزانتى فجاء ذلك لمصلحتى.. فلم يضيع وقتى أتفرغ كما قلت لحفظ القرآن وأيضا أصبحت مهتما بكنز ثمين اسمه الراديو الذى يمتعنى ببرامجه الدسمة خاصة الحوارات القديمة مع العمالقة صلاح جاهين والسيد بدير ويوسف وهبى.

قلت له إن مأمور السجن نصحنى باختصار الوقت لأن هناك اليوم مباراة تصفية فى دورى السجن. فوجئت به يقول: ما أنا قلت الدنيا اتغيرت هنا كثيرا، فالرياضة أصبحت شيئا مهما بالنسبة لى. بدأتها بتمرينات رياضية ثم بدأت أنتظم فى مباريات كرة القدم وعلى فكرة أنا أهلاوى قديم ومتعصب.. ليواصل قائلا: المباريات استحوذت على اهتمام الجميع للحرص على مشاهدتى أثناء اللعب وأصبحت نوافذ الزنازين والطرقات مدرجات لمتابعة مبارياتى مما جعل إدارة السجن تقيم دورى للكرة يضم فرق السجن وبينها فريق للضباط خسر أمام فريقى. ولعلمك بقى أنا لا أقبل أن يفوت لى زميل منافس كرة على سبيل المجاملة.

صحابى الجدعان

قلت له: لماذا لم تنقل للسجن بالقاهرة هل رفضوا نقلك... فوجئت به يقول: بالعكس أنا اللى رفضت النقل، فالمكان بسكانه وهنا فى سجن الحضرة كل أصدقائى سواء ضباط وإدارة السجن أو النزلاء حيث تجمعنى بهم علاقة حب واحترام منذ سجنى الأول. وكذلك لى أصدقاء اسكندرانية يزوروننى باستمرار.
وهى زيارات يستفيد منها خاصة النزلاء الفقراء. ويستطرد: النزلاء هنا زى خارج السجن كثير منهم يطلب منى التوقيع له حتى ولو على ورقة للذكرى. وحكى لى سعيد أن أصدقاءه المساجين مش أى حد مثل عم يوسف وهو مؤبد فى قضية سرقته لمخزن النيابة العامة من مضبوطات قضايا المخدرات، وزنزانته لا تغلق أبدا فهو الملاذ لحاجة الجميع فكل من يزوره يجد حاجته من السجائر والأكل والشاى. وهناك عم فاروق القص أشهر مزور للعملات فى مصر وبصراحة نزيه جدا فهو لم يكن يزور سوى على قدر احتياجاته.

إسكندرية.. عشق أبدى

بادرت سعيد صالح قائلا: أعتقد أنك كاره ومتعقد من الإسكندرية، فكل قضاياك ضبطت بها.. ولكن سعيد استنكر سؤالى قائلا: يا عم أنا قلت لك رفضت نقلى للقاهرة حبا فى الإسكندرية.. بص بقى اسكندرية دى موال الحب الذى أعيشه وأعشقه هى ليست مكان إنها روح وناس.. هى سيد درويش وسلامة حجازى والمرسى أبو العباس.. اسكندرية يعنى البحر والسمر واللمة الحلوة. هما عايزين يكرهونى فيها وده مش راح يحصل أبدا.

ومادمنا وصلنا للشجون والعواطف سألته هل بكى فى السجن؟ أجابنى سريعا: هى مرة واحدة فقط كان نفسى مشاهدة ابنتى هند.. ولما عرفت، جاءت فورا بصحبة والدتها دون الحصول على تصريح وجلستا فى الشارع خارج السجن عدة ساعات لمحاولة الحصول على تصريح استثنائى ولكنهما فشلتا كنت أعلم أنهما خارج السجن ووقتها لم أتمالك نفسى من البكاء.

حاولت استفزازه بتحميله مسئولية الإساءة لابنته هند باعتباره لم يراع موقفها عند زواجها أو أمام زميلاتها. وكانت إجابته بأنه زعلان من نفسه لأن هند كل شىء فى حياته وهى فى الثانوية العامة. وبالنسبة لموضوع زواجها أنه لشرف لأى شخص يرتبط بها ولازم أوافق عليه أنا الأول. واستكمل كلامه قائلا:
الموضوع مش السجن وخلاص فكثير من زعماء العالم سجنوا وهناك مثلا الشاعر أحمد فؤاد نجم قضى بالسجن ١٨ عاما والفنان سيد درويش سجن لعدم سداد أجرة الفندق الذى يبيت فيه.

فوجئت أن الوقت مر سريعا معقولة أربع ساعات كاملة منذ وصولنا. كان لابد من سرعة الانتهاء من الحوار وغادرنا السجن حتى نستطيع اللحاق بالإفطار فى القاهرة وهو ما لم يتحقق ولكنى كنت قد فزت بانفراد حوارى مع سعيد صالح .