يوميات الاخبار

فى محبة الحرم النبوى

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

بدأ الشيخ لاشين النورى فى كتابة المصحف. قطع شوطاً طويلاً، لكنه رحل إلى بارئه قبل أن يكمله.

مصر وأهلها لهم تاريخ طويل فى محبة الحرم النبوى، خصوصاً فى العصر المملوكى. وهذه صفحة من صفحات الاهتمام بهذا المسجد العظيم، الذى يحتل مكانة غالية فى قلب كل مسلم، وهى صفحة تدور أحداثها فى عصر السلطان قايتباى.


قبل أن نتحدث عن عمارة قايتباى للمسجد النبوى نتحدث أولاً عن حياته ونتعرف عليه.
ولد قايتباى المحمودى حوالى 1416 للميلاد، وعاش حوالى ثمانين عاماً. وتولى حكم مصر والشام والحجاز قرابة ثلاثين عاماً. وكان بنَّاءً عظيماً. ترك آثاراً فى القدس ودمشق والمدينة المنورة ومصر. ومن آثاره الباقية فى مصر: قلعة قايتباى، ووكالة قايتباى بجوار الأزهر، ووكالته بجوار باب النصر، ومدرسة قايتباى، وسبيل قايتباى، ومسجد قايتباى، وغير ذلك. وفى عصر هذا السلطان المحب للعمران وقع حدث خطير للمسجد النبوى، ها نحن نقترب منه لنتعرف عليه. سار مؤذن المسجد النبوى بخطى وئيدة نحو الباب المؤدى للمئذنة المواجهة للقبر الشريف. كان الرجل مسناً. يسير ببطء. صعد المئذنة على مهل. وقف حيث يجب أن يقف. رفع يديه بحذاء أذنيه ليجهر بالأذان. فجأة رأى ما لم يخطر له على بال. السماء تغير لونها. ورأى صاعقة تنقض عليه وعلى المسجد فى آن واحد. لم يستطع أن يصرخ. لم يستطع أن يهرب. لم يدر ماذا حدث بعد ذلك. حين أفاق علم أن الصاعقة أطاحت بالمئذنة. أطاحت بسقف المسجد. قتلت كل من كان فى المسجد. وصار المسجد كوم تراب. بعد ساعة لفظ  المؤذن أنفاسه هلعاً وحزناً على الحرم الغالى الذى قضى العمر فى خدمته.
جرى أهل المدينة نحو مسجد النبى صلى الله عليه وسلم. ذهب القاضى والوالى وكل ذى شأن. حزنوا حزناً عظيماً؛ لأن جيرتهم لهذا المسجد هى التى تجعل لحياتهم معنى. تشاوروا فيما يجب أن يفعلوه. قرروا أن يرسلوا محضراً بما حدث للسلطان قايتباى فى القاهرة. كتب القضاة المحضر، وأخذه رسول يثقون به إلى القاهرة.
السلطان يبكى
قرأ الرسول المحضر على جلالة السلطان. مما جاء فيه أن السقوف جميعها احترقت، والمنبر، والحوائط، والأعمدة، والأبواب، أدركتها النيران، ولم يسلم من الكارثة سوى القبة الشريفة، وبعض حيطان المقصورة، حتى إن المسجد صار بعد الصاعقة مشتعلاً كالتنور. بكى السلطان حين سمع ذلك، وبكى جميع الحاضرين. ثم أصدر السلطان أوامره للحاجب:
> أريد أن يأتينى غداً كبير المهندسين ومعه رسم للمسجد النبوى.
- أمرك يا مولاى.
> أريد أيضاً شمس الدين محمد بن الزمن.
- غداً سيكونان عندك إن شاء الله.
اجتمع السلطان بكبير المهندسين ومعه رجل من الثقات يسمى شمس الدين محمد بن الزمن. فرَدَ كبير المهندسين رسماً للمسجد النبوى، يبين طوله وعرضه، ومآذنه، والقبة الشريفة، والحجرة النبوية، وكل التفاصيل الدقيقة. قال السلطان بعد أن رأى وسمع:
> اسمع يا حضرة المهندس، ستعيد بناء المسجد كاملاً.
- أمرك.
> وسيكون شمس الدين محمد مسئولاً عن المال والإدارة. ستتعاون معه تعاوناً كاملاً.
- أمرك.
قال شمس الدين: هذا شرف عظيم يا مولاى. سيكون هذا أهم عمل قمت به فى حياتي.
قال السلطان قايتباى: اسمعا لى جيداً أنت وهو. لن تكون مهمتكما هى تجديد المسجد فقط، فأنا أريد مضاعفة مساحته.
قال كبير المهندسين: فكرة عظيمة يا مولانا سلطان البلاد، فالناس تزيد بشكل دائم، ومن المناسب توسعة المسجد.
> أريد أيضاً تغيير المقصورة، وسأشرف بنفسى على صناعة المقصورة الجديدة فى مصر، فلا بد أن تكون مقصورة تليق بالمقام النبوى الشريف.
- كما تشاء يا مولانا المعظم.
> أريد منبراً جديداً أفضل من السابق.
- سنصنع منبراً غاية فى الحسن والفخامة.
> الحوائط أيضاً، أريد كسوتها بالرخام.
- سنكسوها.
> أريد زيادة المآذن لتكون خمس مآذن.
- نزيدها.
> بقى شيء واحد.
- ما هو؟
> أريد بناء مدرسة بجوار المسجد لنشر العلم بين أهل المدينة وزوارها.
- كلامك أوامر يا سيد الناس.
تنحنح شمس الدين بن الزمن، ثم قال: لكن هذا سيتكلف كثيراً جداً يا مولاى السلطان قايتباى.
> لا تهتم بالمال. المبلغ مفتوح. المهم أن يكون المسجد النبوى فى أبهى صورة.
يوم الخروج
قدم كبير المهندسين للسلطان قوائم باحتياجاته من الخشب، والرخام، والحديد، والعمال اللازمين للبناء. أمر السلطان بتجهيز كل الاحتياجات دون إبطاء. وفى يوم خروج المواد والرجال للمدينة المنورة تقدم شمس الدين بن الزمن الموكب، وخلفه كبير المهندسين، ثم أمهر العمال فى مصر، وهم يلتفون حول المواد اللازمة للبناء. دار الموكب فى شوارع القاهرة، ووقف أهل القاهرة على جانبى الطريق ليزفوه إلى مدينة رسولهم الكريم، ودموعهم لا تنقطع حباً للرسول عليه الصلاة والسلام ولمسجده المبارك.


المقصورة
طلب السلطان قايتباى أفضل صناع الحديد المشغول فى القاهرة. جاءوا له بشيخ الحدادين. فرَدَ السلطان أمامه صورة توضح مقاسات الغرفة الشريفة وشكلها. قال لشيخ الحدادين:
 هذه هى الغرفة النبوية الشريفة. أريد لها مقصورة جميلة من الحديد المشغول لتحميها من أيدى الزائرين، دون أن تمنع رؤيتها. هل تستطيع أن تصنع لى هذه المقصورة؟
- صُنع هذه المقصورة شرف لى يا مولانا السلطان. تأكد أنى سأصنع لك مقصورة يحكى عنها الناس، وتسير أخبارها مع زوار الحرم النبوى إلى كل البلاد. لكنى فقط أود أن أذكر أنها ستحتاج لكمية هائلة من الحديد.
> كل ما تحتاجه سيتوفر لك، المهم أن تأتى المقصورة على الصورة التى تليق بالمسجد النبوى الشريف.
- وستتكلف تكلفة باهظة
> انسَ أمر التكاليف تماماً. سأعطى الأوامر بصرف المبالغ التى تطلبها دون مناقشة.
- نطلب من الله العون لتنفيذ المقصورة بالصورة اللائقة؟
فى شعبان كان الانتهاء من صنع المقصورة. يقول ابن إياس إن زنتها كانت أربعمائة قنطار. وإنها نقلت فوق سبعين جملاً. وخرجت هى الأخرى فى موكب، لف شوارع القاهرة متجهاً إلى مدينة رسول الله.


المصحف
 دخل الشيخ لاشين النورى على السلطان قايتباى فى وقار يليق بالعلماء. انحنى انحناءة خفيفة. قال له: خيراً يا مولاى السلطان. أبلغونى أنك تريدني.
نهض  السلطان من عرشه. سار نحو الشيخ بوجه بشوش. قال له: فعلاً يا شيخ لاشين. طلبتك بالاسم.
- خيراً إن شاء الله.
> لقد سألت عن رجل حافظ للقرآن، عالم بأحكام كتابته، حسن الخط، فقالوا لى إنك الرجل المطلوب. والمسألة باختصار أنى أريدك أن تكتب لى مصحفاً شريفاً، لوضعه فى المسجد النبوى. هل تستطيع أن تقوم بهذه المهمة؟
- أقوم بها إن شاء الله. لكن هذه المهمة تحتاج إلى ورق من نوع معين، وأحبار معينة، كما أنها تحتاج لتجليد مخصوص يمكنه أن يضم هذا المصحف الذى سيكون كبير الحجم.
> كل طلباتك مجابة، وسأكلف أمهر الصناع بتجليد المصحف الذى ستكتبه. المهم أن تبدأ فوراً.


بدأ الشيخ لاشين النورى فى كتابة المصحف. قطع شوطاً طويلاً، لكنه رحل إلى بارئه قبل أن يكمله. وكلف السلطان رجلاً من أكابر الحفاظ المعروفين بجودة الخط بإكمال المصحف، وجلده تجليداً فاخراً. وحين انتهى وضعه على جمل وزفه مع المقصورة المتجهة إلى الحرم النبوى.


حين اكتمل البناء الجديد والتوسعة قرر السلطان أن يحضر الافتتاح بنفسه. ترك كل مهام الدولة لأحد نوابه، وتوجه إلى مدينة رسول الله ليشهد الحرم النبوى فى صورته الجديدة. هذه الصورة ما زالت باقية حتى الآن، فحين تزور الحرم النبوى ستجد أن التوسعات السعودية الجديدة قد حافظت على الجزء القديم من المسجد، الذى يعود أكثره للعصر المملوكي، كما هو. وهاهو قايتباى يقف بجوار الحجرة الشريفة باكياً: اللهم إنى فعلت ما فعلت ابتغاء مرضاتك، وحباً فى نبيك. اللهم اغفر لى لو كنت قصرت فى شيء، وتقبل من عبدك قايتباى ما فعله، واجعله فى ميزان حسناته.. يا رب .