عبد الجليل الشافعى يكتب:إنى رأيتكما معا

عبد الجليل الشافعى يكتب:إنى رأيتكما معا
عبد الجليل الشافعى يكتب:إنى رأيتكما معا

إن المتلقى الأدبي، سواء تعلق الأمر بالمتلقى المغربى بوجه خاص أم العربى على سبيل التعميم، لا شك منتبهٌ إلى المسار الإبداعى الذى شقه الكاتب المغربى أحمد بوزفور وارتضاه لنفسه، مسار انضوى تحت جنس السرد من حيث الابتداء، لكنه ظل وفيّا لنوع واحد من أنواع هذا الجنس الكثيرة (الرواية، النص مسرحي، القصة القصيرة جدا، النوڤيلا Novella...). وقد توقع الكثير أن يتعداه إلى غيره، إلى الرواية مثلا، خاصة بعد هذا الحج الغفير الذى عرفته فى العقدين الأخيرين، لكنه «خيب» كل التوقعات، وظل وفيا لنوع القصة القصيرة التى لم يرض النأى عنها مطلقا، وفاء قارب نصف قرن من الزمن، حيث نشرت أولى قصصه «يسألونك عن القتل» سنة 1971، وطوال هذا المسار المديد زمنا، المهم إبداعا، التراكمى تجربة، طوال هذا الزمن الفارق بين («يسألونك عن القتل» و«إنى رأيتكما معا»). جرب الكاتب عديدا من التقنيات فى الكتابة القصصية: نوَّع فى اللغة ومستوياتها، فى الشكل ونظمِ بنائه، فى الاهتمامات والقضايا والثيمات والرهانات..، والقارئ المتتبع لتجربة هذا المبدع المغربي، يلمس ذلك بوضوح، وقد فعل ذلك، فى نظرنا، بوعى نقدى وبخلفية معرفية متينة، ويتجلى هذا الوعى فى اهتمامه النقدى بهذا النوع من السرد من خلال كتابه «الزرافة المشتعلة». وطبعا، من خلال اهتمامه الإبداعي، إذ لم يكتب أدبا خارجه كما أشرنا.

(نفتح قوسا هنا لنقول: لعله من اللافت أن نشير إلى هذا الخليط الذى ميز تجربة وتكوين ومسار الكاتب، فأحمد بوزفور قادم من «المسيد»، ثم هو ناقد وأستاذ جامعى فى الشعر العربى القديم، الجاهلى بخاصة، أى أن تكوينه بالأساس شعري، تكوينه لغوى «قديم» تراثي، ويكتب القصة القصيرة، مع أن المتوقع، أن يكتب الشعر مثلا...).

اقرأ ايضاً| أحمد الزناتى يكتب :مارتن ڤالزر.. صورة الفنان شيخًا


ولكننا فى دراستنا هذه، سنحاول أن نطرُق مجموعته الأخيرة الموسومة بــ «إنى رأيتكما معا» من زاوية مختلفة، زاوية بعيدة عن القراءات المضمونية -ما أمكننا ذلك- أو التى تبتغى استكناه البعد الأيديولوجى فى الأدب أو غيرهما، سنحاول أن ندرس معطى لفت انتباهنا ونحن نقرأ متن المجموعة، لفته لأنه تواتر فى جل القصص المشكلة للمجموعة.

وفى تجاويف هذا التواتر، فى اعتقادنا، وفى مستضمرِ هذا التتالي، قصدية وغائية، مما يعنى أن هذا المعطى، ليس وليد صدفة، أو هو محض عرضية، ويتعلق الأمر هنا، بالحلم.
هذا ما نعتقده، أو بتعبير آخر، يفتح مجالا للتنسِيب: هذا ما نفترضه فى هذه الدراسة.


فهل يمكن اعتبار الحلم، تقنية/صيغة من تقنيات الكتابة السردية؟
تأتى المجموعة القصصية «إنى رأيتكما معا» وهى آخر إبداعات أحمد بوزفور، مكونة من 19 نصا، موزعة على 88 صفحة من الحجم الصغير. وهى مجموعة انشغلت، فى مجملها، انشغالا كبيرا بقضيتين إشكاليتين اثنتين وهما: الحب والموت. إذ المجموعة تبتدئ بنصوص (من ص 7 إلى ص 43) ملاكُ فكرتها ودائرتها الدلالية الكبرى تتمحور حول قضية الموت، والموت قضية شغلت الناس مذ أن كان الناس، وفوق ذلك، يعد الموت قضية لها راهنيتها الدائمة، وبالتالي، من الطبيعى أن ينشغل بها الفرد، والأديب بخاصة، باعتباره صوت الفرد والمجتمع.


أما الشق الثانى من المجموعة (من ص 44 إلى ص 88) فبوتقته الدلالية الكبرى تتعلق بقضية الحب، والحب قضية كونية لا تعترف بالحدود ولا الجغرافيا ولا الزمن، أى أنها تنماز بكونها (مِيتَا) كل ذلك، وهى مبتغى الجميع وحولها يحوم الناس باختلاف أجناسهم وأعراقهم وطبقاتهم ومشاربهم ونفسياتهم، وعليها تعلُّق آمال نيل السعادة قبل أن يخطف الموت الجميع ويذهب بهم، لأن منطق الحياة هذا ما يقوله، حسب المجموعة القصصية، على الأقل: « كل شيء ذهب أو يذهب أو سيذهب. هذه الحياة اسمها (الذهاب) ونحن لا نعيش. نحن نذهب فقط». (ص، 60).


ولعل فى جمع قضية الموت بالحب، إشارة لمَّاحة إلى اقترانهما وتداخلهما وانسلاخ بعضها عن بعض انسلاخ الليل عن النهار، لعل فى ذلك تنبيها إلى العلاقة الديالكتيكية - باصطلاح «هيغل» – العلاقة التى تجمع الموت بالحب، تجمع الحب بالموت، وهى علاقة تأثير وتأثر أمدَ الوقت، فكم من حب أقبَرهُ الموت وهو بعد نطفة تتخلق، وكم من حب خلده الموت وسقاه بماء الأبدية.


فى كل ما تقدم محاولة لتلخيص الأصعدة الدلالية الكبرى التى بُثت فى عروق وأعصاب المتن الحكائى للقصص المكونة للمجموعة، لكن الذى يهمنا، أكثر، هو التقنية أو الصيغة التى اعتمدها الكاتب لقوله ما قاله، فنيا، طبعا، أى إننا نركز على الحامل، لا المحمول، وبتعبير آخر، على الدال، لا المدلول، حسب التمييز اللسانى الذى دعا إليه «فيرديناند دوسوسير». وفى رأينا أن الكاتب قد اصطفى ما سميناه: الكتابة بالحلم، لفعل ذلك.


نكتب هذا ونحن واعون بإشكالية المصطلح. فلإن كان مصطلح « الكتابة» مصطلحا نقديا له تحديداته المعلومة فى سوق النقد والتلقي، فإن لفظ « الحلم» يصعب أن نسِمه بكونه مصطلحا أساسا، فكيف نسمه بكونه مصطلحا نقديا فوق ذلك، وأن نعتبره صيغة من صيغ الكتابة القصصية، لكن الذى «يشفع» لنا فعل ذلك، هو أن اختيارنا له نابع مما نضحَ به النص المدروس، وأسفرت عنه القراءة الخالية من التمثل الاسشرافي... وفى رأينا، إن النصوص هى التى تشير أو تنبئ أو تقترح على الدارس طبيعة الدراسة، وماهية المقاربة، ونوع المنهج، وليس الارتهان – الأعمى – إلى المنهج، بشكل مسبق، وملاءمة النص له، سواء انسجم معه أم لا.. لكل ذلك، سوف نعتبر لفظ الحلم، مفهوما نقديا، فى هذه الدراسة، وبالتالي، صيغة من صيغ الكتابة القصصية، مثله مثل الصيغ الأخرى كالحذف والاستباق والاسترجاع.


إن للكتابة القصصية (الحكائية) صيغا عديدة وطرقا مختلفة، باختلاف النصوص وباختلاف الكتاب، وفى السرد العربى القديم، على وجه التخصيص، نصادف صيغا هى بمثابة «الكلمات المفاتيح» مثل صيغة (زعموا أن) وصيغة (بلغني) التى تستهل بها شهرزاد حكاياتها لشهريار فى مؤلف « ألف ليلة ولية» وكذا صيغة (حدثنا) التى نُلفيها فى المقامات، وصيغة (كان يا ما كان)، خاصة فى القصص الشعبي، وأيضا صيغة (رأيت فيما يرى النائم) التى تقترب، على نحو ما، من الصيغة المعتمدة فى متن هذه المجموعة، صيغ تلعب وظيفة الميكروفون الذى يلجأ إليه السارد ليسمع صوته وصوت شخصياته، صيغ بمثابة القُمرة التى من خلالها يلتقط بها مشاهده المختلفة، والتى من خلالها يصف عوالمه المتباينة ويعرفنا على شخوصه المأزومة غالب الحالات.


وصيغة الحلم، فى مجموعة « إنى رأيتكما معا» فى اعتقادنا، تقوم على نفس المبدأ، غير أنها تقدم وظائف، أكثر من الصيغ التى ذكرنا، أى إنها ليست صيغة تقنية صرفاً، فالكتابة بالحلم، عند أحمد بوزفور، لا تقف عند ما هو تقنى أسلوبى فقط، بل تتعداه إلى ما هو دلالى ورؤيوى وفلسفي، بقول آخر، هى صيغة تساعد على التدبر فى الوجود وأشيائه المتنافرة والمنسجمة على السواء.. تنافرا وانسجاما يشكلُ التمييز بينهما فى أحايين عديدة.


وبالرجوع إلى متن المجموعة، فإننا نصادف هذه الصيغة تتسم بالحضور المكثف، بدءا من قصة « أبيض كالدم. أحمر كالحليب» إذ يُدخل الساردُ القارئَ معه إلى متاهة الحلم، بقوله: « حين نمت تلك الليلة رأيته فى الحلم. كان يسير مع فتاة جميلة؟» (ص، 22) ثم يستمر فى ذلك إلى أن يقول: « رأيتك أمس فى الحلم» (ص، 24) ليختم القصة بأن يختلط الحلم بالخيال، بل ويصير الخيال بديلا عن الحلم « لن تحلم بى بعد الآن. ستخلق شخصياتك أنت، وعوالمك أنت. ستخلق ما لا يوجد إلا فى خيالك». (ص، 24).


إن الحلم ها هنا، غدَا أكثر من كونه صيغة سردية، أى تقنية فى الكتابة، بل صار رافعة للمعانى والدلالات، حيث تصير الشخصية مستغنية عن الحلم -وعن الواقع قبل ذلك-، لأنها وجدت البديل، البديل الذى هو الخيال، أي: الكتابة. والكتابة صنو الخيال، الكتابة حلم من غير نوم.


أما فى قصة «سكر اسمه زينب» فنجد الشخصية الرئيسة (الطفل) الذى يحب الفتاة البدوية الجميلة التى تحب – بدورها - الفارس القوي، حين لا يجد إليها سبيلا، يلجأ إلى الحلم « تلك الليلة رأيتها فى الحلم. كانت تنسج لحافا أو جلبابا... هى أمام المنسج وأنا وراءه ... ولكنها تنظر إليه وتبتسم. قلت لها: هل تحبيننى قليلا؟ هزت رأسها بالإيجاب. قليلا؟ نعم. [...] وقلت لها أقبلك؟ ... فاقتربت برأسى من خيوط الجسر واقتربت برأسها. وضعت شفتى على الخيوط الدقيقة الطويلة البيضاء، فوخزنى الشوك وصحوت». (ص، 26) .


إن الحلم هنا، عالم وردى ناعم، اختاره الطفل بديلا للوصل بمحبوبته النائية عنه جمالا وعمرا، وبما أن الواقع حقيقة منثورة لا تؤمن بما هو عاطفى أو شاعري، فقد هرب منه الطفل ممسكا بعروة الخيال/ الحلم، وحين كان قريبا من تحقيق بغيته (تقبيل من يحب) أخرجه شوك الواقع بدمويته وصلافته، فوجد نفسه بدل أن يقبل شفاها مكتنزة لذيذة، يقبل شوك السياج الذى كان يتكئ عليه ويراقبها وهى تسقى من العين. والذى شاكه حقيقة، الواقع، لا الشوك.


وتجدر الإشارة إلى أن الحلم فى المجموعة ليس قرين النوم بالضرورة، فهناك حلم يقظة فى أكثر من نص، ونسوق هنا هذا المقطع بوصفه نموذجا لذلك « مختبئا خلف النافذة [...] اقتربت من الطاولة ومددت يدي.. فى لهفة مددت يدي، فاصطدمت بالجدار. لم تكن الطاولة والصينية بتمرها وحليبها إلا رسما على جدار». (ص، 27).


 فالطفل الولِه بالشابة المليحة، لم يكن هنا نائما على وجه الدقة، وإنما كان كالمسرنم الذى يمشى أثناء حلمه، وفى اعتقاده أن الرسم على الجدار، هو عين الحقيقة، غير عابئ – عارف - بخداع الحواس حين ترغب، بشدة، وفى ذلك كله إيماء إلى الخيط الرفيع الذى يَميزُ بين هذين العالمين، الأمر الذى يدفعنا إلى التأمل والتساؤل:


أين توجد حدود الحقيقة والخيال فى حياتنا؟
وفى القصة الحاملة لعنوان « ذلك الولد الغريب» نجد أنها تضم صيغة الحلم أيضا، بل تبتدئ به « كانت تحلم بأنها حامل». (ص، 29).
وتحكى القصة ما رمزنا إليه فى مسألة التماهى والتمازج والتقارب بين ما هو حقيقي/واقعي، وبين ما هو خيالي/حلمي، حيث تصف القصة حالة امرأة كانت ترغب، بشكل ملح، فى الإنجاب، لكنها حين لم تقدر على ذلك واقعا، استنجدت بالحلم، وحققت بذلك مرادها فى الإنجاب « تحلم أنها ولدت الطفل». (ص، 29) -وكأن الواقع يعنى الاستحالة، فى حين أن الحلم يعنى الممكن- وفى أحيان أخرى يتحول الولد، بقدرة ‹حلمية› إلى بنت « تحلم أحيانا أنه بنت لا ولد» (ص، 30).


ليس هذا وحسب، بل تكبر البنت، فى الحلم دائما، وتغدو عروسا حسناء تفتن المساك لإربه، وتقيم» لها عرسا مذهلا فى أفخم فنادق المدينة». (ص، 30)


هل يتوقف الأمر هنا؟ لا.
 ثم تحلم المرأة أنها فقدت ولدها الذى أنجبته بطريقة تراجيدية « قبل أسبوع حلمت أنها فقدت طفلها فى حادث..»(ص، 30). الشيء الذى جعلها حزينة حقا، وتشعر بالفقد المؤلم واقعا، ولو أن الحادثة مجرد حلم، يظهر ذلك من خلال هذه الجملة السردية: « ولكنها ثاكل الآن» (ص، 30).


بل ولم تعد تملك من هذا الطفل، من هذا الطفل الحلم، غير الظل» ثم رأت ظله بالقرب من باب العمارة التى تسكنها» (ص، 30). لتنتهى القصة بخاتمة مفاجئة، ونكتشف فى لحظة التنوير، أن حلم المرأة بهذا الطفل، لم يكن غير انسكابٍ وحلول لحبيبها الأول فى حلمها، يقول المقطع: « لو قبلته على فمه الحليبى [...] لها طعم غريب [...] ربما هو بطعم القبلة الأولى. قبلة ذلك الولد الغريب الذى ابتسم لها (قبل أن يضمها ويقبلها بحرارة)، ثم غاب. كانت ما تزال فى الإعدادي. لم تره بعدها أبدا. هل يكون هو طفل الحلم؟ هل يكون هو ظل الحلم؟ هل يكون هو الحلم؟. (ص، 31).


إن النهاية التى جاءت على هذه الشاكلة، تعكس لنا أهمية الحلم فى الحياة عموما، بما هو تعويض أو بديل، فالمرأة التى لم تقدر على نسيان حبها الأول المراهق، المرأة التى لا تدرى أين غاب الفتى الذى لثم شفتيها أول مرة، استجلبته حلما، بما أن الحلم له هذه الخاصية، خاصية القفز على الزمن الفيزيقى الرتيب والتعاقبى (الماضي- الحاضر- المستقبل) إلى الزمن النفسي، العاطفي، الحلمي، المتذبذب، المتعرج، اللولبي، القافز، ويسمح للإنسان، نتيجة كل ذلك، أن يتحكم فى الزمن بواسطة «الريموت كونترول» الحلمية، مما يمنحنا إمكانية أن نحيا حياة، موازية، محايثة، ورديفا للحياة الواقعية، خاصة إذا كان الواقع، قبيحا، حزينا، كابتا، وجازًّا لكل ورود السعادة.


وحين نسترسل فى القراءة، ونصل إلى قصة « الجارية الزرقاء» فإننا نجد أن الكاتب، يعتمد التقنية نفسها، تقنية الحلم، فى بناء نصه السردي، إذ نجد القصة تروى حياة شاعر غريب الأطوار يطلب مكافأة على مدحه التكسبى لأحد الخلفاء، يطلب عوض المال والذهب والدور، جارية، وحين يحقق له الخليفة طلبه، بعد لأيٍ، وبعد جهد كبير، يخسرها الشاعر بسهولة مقابل كأس خمر رفقة ندمائه، يفعل ذلك بإيعاز من حلم حلمه، إذ جاءه امرؤ القيس فى المنام وأخبره أن قريحته الشعرية لن تتفتق، وموهبته الأدبية لن تتقوى، وقدرته التعبيرية لن تتحقق، إلا إذا اتبع نصيحته: « جاءنى فى المنام امرؤ القيس. قلت له: أريد أن أكون شاعرا، فأجزني. قال: لن تكون شاعرا حتى تملك جارية زرقاء وتسكر بها».

(ص، 38- 39) فما كان من الشاعر إلا أن طبق كلام امرئ القيس كما لو كان وصية نبي، وفى هذا إحالة إلى أن حياة الحلم، يمكن أن تكون عاملة ومؤثرة فى الحياة الواقعية، بمعنى أن نسلك مسالك فى الواقع، بأوامر أو نواه حلمية، ولو أن القصة يمكن إدراجها ضمن الأدب الفانتاستيكي، لاحتوائها على ما هو عجائبي، حيث الجارية زرقاء اللون، والشاعر يذهب لقومها ليتفاجأ أن توجوه ملكا فـــــ « لأن الشاعر مختلف عنهم، فقد توجوه ملكا على الأرخبيل» (ص، 39) والخليفة تغير من حاكم لدولة وصاحب عرش إلى رجل مهووس بقرض الشعر « وأما الخليفة فهام بقصيدة الشاعر، وظل يرددها، وينسج على منوالها، حتى أصبح شاعرا». (ص، 39) .


أما فى قصة «السن الذهبية» فإننا نصادف بها أيضا، توظيف نفس الصيغة الحلمية، إذ يقول السارد: « أما المرة الثالثة والأخيرة، فرأيته فى المنام: رأيتنى داخل سيرك. القاعة مليئة بالناس من كل الأجناس والألوان والأعمار [...] فجأة لمعت فى فم البهلوان تلك السن الذهبية [...] أحسست بوجع عام فى كل جسمى وأنا أفيق» (ص، 58-59). 


وجدير بنا أن نقف عند الطريقة التى ربط بها السارد الإحساس بالوجع بالاستيقاظ (أحسست بوجع عام فى كل جسمى وأنا أفيق). فالواقع الذى يساوى الاستيقاظ هنا، مؤلم، عكس الحلم، لذلك يؤثر شخوص المجموعة القصصية الحلمَ على الواقع.


وفى قصة « حين تترنح الشجرة» نجد أن الكاتب قد حذا فيها حذو ما سبقها من القصص، واتكأ فى بناء متنه على تقنية الحلم من جديد، إذ « اكتشف -السارد- مع الوقت أنه يحلم وهو يكتب». (ص، 61).


أما الدافع الذى جعله يفعل ذلك، فبغية أن « يغير فى واقعه بما يجعله أجمل .. أحلى.. أو حتى أسوأ، لأنه قد حلم بالأسوأ أحيانا، ولأن واقعه قد يحلو بالأسوأ أحيانا». (ص، 61)
ولعل فى هذا المقطع ما يثبت زعمنا الذى زعمنا سلفا، والذى مؤداه أن ميزة الحلم وخاصيته الأبرز، تتبدى فى كونه يمنح إمكانية التغيير واللعب فى الأقدار ويعطى فرصة تكسير خطية الواقع الصنمية وصلابة الحياة الخرسانية. ولذلك فإن السارد فى هذه القصة غدا كائنا حالما أكثر منه أى شيء آخر، وقد أدرك هو نفسه هذه الحقيقة، حقيقة أنه بات يعيش داخل الحياة الحلمية أكثر من الحياة الواقعية، لنجده يقول فى تقريرية: « أجدنى فجأة... داخل حلم لا ينتهي». وهذا الحلم الذى لا حد له ولا نهاية، جعله يتيه فى أحلام مختلفة « وأنا شارد أحلم: رأيتنى تلميذا فى القسم، مع عدد من التلاميذ الأشجار». (ص، 63).


وهذا التداخل بين عالمين، بين كونين، الأصل فيهما أن الأول حقيقى وملموس، والثاني، معنوى ومجرد، جعل السارد/ الشخصية، جعله يستغرب من حاله ودفعه إلى أن يتساءل فى خوف وتعجب: « يا إلهي..كنت أظن أننى أكتب ما أعيشه، فإذا بى أعيش ما أكتبه». (ص، 64).


وفى القصة التى تحمل عنوان « أحمد نائم» نصادف بها استمرارا لنفس المحور الدلالي، نقصد، دلالة تداخل العالمين الواقعى والحلمي، ولكى يتضح لنا ذلك، نتأمل المقطع السردى الآتي: « أفاق أحمد على حس بالحُجرة. أشعل الضوء فلم يشتعل. فتح الباب الخشبى على الشرفة، فرأى على ضوء السماء شخصا يمر فى الحجرة. شخصا خفيفا وعابرا [....] رأى فى ركن الحجرة البعيد امرأة تحمل بين يدها طفلا [...] اقترب من الرجل والمرأة، فإذا هما أبوه وأمه اللذان ماتا منذ زمان. وللصبى الذى تحمله المرأة وجهه هو: جسمه جسم صبي، ووجهه وجه شيخ فى السبعين» (ص، 76-77).


هذا المقطع يبينُ لنا مدى عمل الحلم فى الواقع، حيث أن أحمد الشيخ السبعينى طفل، وحيث الطفل رجل فى السبعين، والأبوين الميتين، على قيد الحياة، والأم تحمل بين يديها، طفلا بملامح شيخ، أو شيخ، بملامح طفل... وفى هذا التداخل، فى تقديرنا، ما ينبئ عن التماس الدائم، - تماس ليس كالبرزخ، بل تماس يسمح بذوبان أحدهما فى الآخر وتمازجه معه وفيه - بين الحلم والحقيقة وصعوبة الفصل بينهما أو معرفة متى يبدأ الأول (الواقع/الحقيقة) ومتى ينتهى الثانى (الحلم/الخيال).


لقد حاولنا فى دراستنا هذه، تحليل ما أسميناه: الكتابة بالحلم. معتبرين أن هذا الحضور المكثف لتقنية-صيغة الحلم حضور هادف، وأن هذا التواتر الملحوظ فى جل القصص المكونة لمجموعة « إنى رأيتكما معا» للكاتب المغربي، أحمد بوزفور، تواتر يأتى من خلفية قاصدة، ونابع من منطق غائي.. 


وخلصنا إلى اعتبار أن الكاتب اختار الحلم بوابته نحو التخييل، ونافذة للقول، وصيغة للكتابة، فأنتج لنا نصوصا مختلفة ومتباينة من حيث الرهانات النصية ومقصديتها، لكنها تتآخى وتتصل فى مسألة جوهرية تتعلق بعملية الكتابة نفسها، نقصد هنا، تقنية الحلم التى أطرت جل هذه السرود القصصية، الأمر الذى يجعلنا نقر بما افترضناه بداية، بل يجعلنا نخرج من خانة الافتراض إلى خانة التحقق:
لقد اختار الكاتب أحمد بوزفور الحلم صيغة للكتابة.