بهاء الدين حسن يكتب :مغلق للصلاة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى أول يوم تسلمت فيه العمل فى محـل عِطارة «البِــر والتقوى»، قال لى الحاج صافى بركات، وهو يسلمنى مجموعة من السِنَج، مختلفة المعايير، ودفاتـر فواتيـر مختلفة الطباعة، والأختام الرسمية وغير الرسمية:


هـذه السنَج مصنوعـة من الألمونيـوم، وهى أخف وزنا من الحديد، فكن حـذرا وأنت تستعملها، لئلا يلاحظ ذلك الزبون، أو تكون هناك لجنة تفتيش من التموين.

اقرأ ايضاً| نبيلة الفولى تكتب : لا تدفنوا قلبى معى

ثم واصل:
أما دفاتـر الفواتير المثبت بها السجـل التجـارى والبطاقـة الضريبية، لا تستعملهـا فى كتابـة المبيعات، واستعمل بدلا منها الفواتير العاديـة، ذات الختـم خالص مع الشكر، غيــر المعترف بـها أمــام الجهـات المختصـة، فالفواتيــر المعتمدة هى التى من خلالها تحاسبنا الضرائب، ونحن لم نعد نلاحـق، فالحكومة تكلفنـا فوق طاقتنـا من أعباء وفرض ضرائب، ولم يبق لها إلا أن تشاركنا فى أرزاقنا، وتتقاسم معنا أقواتنـا!


فقلت: الحكومة تأخذ منا الضرائب لتقدم لنا الخدمات،فقال بحسم: الحكومة لا تخدم إلا نفسها،ثـم أخذنى فى جولـة داخـل المخـزن الملحـق بالمحـل وقـال، وهـو يشيـر إلى بعض الأجولة المعبأة: 


هذا الركن خاص بأجولة الأعشاب والبهــارات ذات الدرجـة الثالثـة، وهذا الركن خاص بالأجولـة ذات الدرجـة الأولى، وعند التعبئة نخلط القليل من الدرجة الأولى بالكثير من الدرجة الثالثة، فأسعـار البهـارات والأعشاب غاليـة جـدا، والاستيـراد مكلّف جدا بعد تعويم الجنيه، وإن لم نفعل ذلك نخسر، ولا نربـح إلا القليـل، وأظنك ترى أن تكاليف الحياة أصبحت فوق طاقتنا ؟!

لـم يكن من السهـل أن يبـوح لى الحـاج صافى بركات بأسـراره من أول يـوم عمـل لولا توصية من خالى الشيخ عبد النعيم، القائم على تحفيظ أهل بيته وأطفاله القرآن الكريم، وكان من الواضح أن الحـاج صافى يريــد شخصا يثق فيــه، ليحمّله مهمـة إدارة المحـل، ليتفرغ هو لمهام أخرى، فوقته موزع بين التجـارة والسفـر، وبين زوجتين، له من كل واحـدة منهما البنين والبنات.

كان أذان الظهـر قد حان، فخرج الحـاج صافى متجهـا إلى المسجد للصلاة، وعندما طلبت منه أن يصطحبنى معه لصلاة الظهر جماعة قال: 
هـذه فترة خروج الموظفين من العمل، وأغلب زبائننا منهم، ولا يجـوز أن يحضر الزبـون فيجـد المحـل مغلقا، فينصرف إلى محـل آخـر. العثــور على زبــون فى ظل تدهور الحالة الاقتصادية أصبح كالعثـور على إبرة فى كومة قش.
ثم قال وهو يشير إلى ركن فى المحل: 
عندك السجادة... افردها وصلِّ فى المحل.

قبـل أن يتجـاوز الحـاج صافى باب المحـل، اصطـدم بامــرأة فارعـة الطـول، فائقـة الجمال، تفـوح منها رائحة المسك والعنبـر، تتـدلى على صدرها المشاء الله الذهب وتطـوّق جيـدهـا السلاسـل، وتمتلئ كل يــد من اليدين بالأساور، تسأل عن بعض الأعشاب الطبية والبهارات والزيوت الطبيعيـة، توقف الحاج صافى، وقال مرحبـا بالمـرأة: 
طلبـاتـك مـوجـودة ياهـانـم، تفضلى... خطـوة عزيــزة، بضاعتنــا من المـزارع لمحل «البر والتقوى» مباشـرة.

كان واضحــا من استقبـال الحـاج صافى للمـرأة، أنها زبونــة مهمـة، فأمـرنى أن أحضـر كرسيــا لهــا، وأن أحضـر حـاجــة تشربها الهـانــم، ثـم جلس على الكرسى المواجه لها، عيناه فى عينيها الواسعتين، يتأمل الإطـار الذى يحيطهما من الكُحـل المرسوم بدقة، فتبدو مقلتاها أكثر اتساعا، وأبهى بريقا!
وراح يتجاذب معهـا أطـراف الحديث، ويسألها عن صحتها مرة، ومرة يسألهـا عن الأهـل وسير العمـل فى المطاعـم، والحالـة الاقتصاديـة والدخل والمصـاريف، وعن أخبــار ملاحقة الضرائب والصحـة والتمـويـن، ومــرة يتغــزل فى جمالهــا وحُسـن إدارتها، ويتحسر على أنهـا تباشر كل شىء بنفسهـا، على حسـاب صحتها ووقتهـا وكيف أن قدومها للمحل يكون قدم السعد!

سألت صبى المقهى، الذى يقــوم على خدمـة المحـلات بالســوق، وأنــا أبلغـه بـأن يحضر مشروبا، عن الزبونة التى تجلس مع الحاج صافى فقال:
ياسمين هانــم، صاحبـة مطـاعـم متخصصـة فى الأكـلات الشاميــة، التى تستهـلك كميات كبيرة من البهارات، وهى زبونـة مهمة عند الحاج صافى.
كان الحـاج صافى يمسـك فى يــده زجاجــة، يضع منهــا بعض القطـرات على كف ياسمين هانم، وهو يقـول لها: 
هـذه زجاجة مسك خــام أصلى، أحضرها لى صديق من الهنـد، احتفظت بهـا لك حتى تجيئين، أعرف أنك تحبين المسـك، كانت زبـونة تريــد أن تأخذهـا، لكن قلت هـذه من نصيب يـاسمين هـانم، وسميتها مسك الياسمين.
فضحكت ياسمين هانم وضحك الحاج صافى، ثم سألها: 


ما أخبار نرجس؟ 
نجحت فى الإعدادية، وسوف تلتحق ب الثانوية العامة.
كبـرت نرجـس.. الأيــام تمـر كالزيـوت الطيــارة، غـدا تتخرج وتتزوج وتنشغل بحياتهــا، وأنت لا تفكـريــن فى حياتـك، منـذ رحيل والـد نرجـس، أنت ما زلت فى ريعـان الشباب!


عندما تنبـه الحـاج صـافى لوقوفى، بعد أن فـاق من غمـرة انسجامه، وتحاوره مع ياسمين هانم، قال: 
اذهب أنت لتلحق صلاة الظهر جماعة فى المسجد.
وقبـل أن أهـم بالخـروج قال: 
لا تنس أن تعلّق خلفك على باب المحل لافتة «مغلق للصلاة».