نجوى العتيبى تكتب : قصص قصيرة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

نقاطٌ يوميَّة… لو أنَّ قطرات الماء التى تخرق السقف متساقطة على أرضيتى تتحول إلى نقاط؛ لكسبتُ كثيرا من ورائها. لحوَّلتُها مثلا إلى اتصال لا محدود بالشبكة فأُلغيَت فواتيرى مع الوقت، سأقنعهم بلا شكَّ بأننى مذ وُلدتُ وأنا أمتلك عددا كبيرا من النقاط، رصيدا لا يمكن أن يترك لى فاتورة لدى أحد أو جهةٍ ما، وسيقتنعون بالتأكيد حين يرون عددها.


 سأجعلها تقوم مقام المال، وسأبتاع من رصيدها ما أحتاج إليه من متاجر الأطعمة والخدمات. من المؤكد أنَّ حجم إنفاقى سيقلّ وسأدَّخر بعضها حتما، وربما استثمرتُ المتبقى منها فى حسابٍ غير قابلٍ لعمليات السحب الآلى. فأكون مع الوقت ثريًّا.

اقرأ ايضاً| مهدى زلزلى يكتب : العَرَق


 وحين تتضخم النقاط أكثر سأحوَّلها إلى مشروع زواج وإنجاب، أظن السقف وقتها سيكون مشكلة! ولا أظننى سأصلحه أبدا لأنَّ تلك النقاط سبب جودة حياتى… لكنَّ السيل الذى يمسح وجه المدينة مكوّن من بضع قطرات لا تترك من خلفها وقتا للحلم إلا بـ «لو»…


مفتاح ذو نسخة مستحيلة  
تلهمنى المفاتيح لأكتب، ليس لأننى أحبها، بل لكونى أفتقدها.
ذلك المثل الذى يعبر عمن وُلد معصوما من مكابدات الحياة بوجود ملعقة ذهب فى فمه؛ لعله يقصد المفتاح بدلا من الملعقة، فالمفاتيح الوراثية أبقى وأجدى، وحين يهبط الذهب ويعلو ويركد فإنَّ الحاجة إلى مفتاح لا تتوقف. هى حاجة أبدية للحياة… أحيانا تبدأ حياةُ أحدهم من اسمٍ واحدٍ فقط، على سُنّة من يفضّل الصيت على الغنى، ثم لا ينتهى لصاحبها مجدٌ.


افتقادى للمفتاح بدأ مبكرا، مع أول شخص لم يفهمنى. شخص واحد فقط كفيل بتدميرك إن جرَّبَ ضعفك مرةً، هو من قد يجعل الحصول على نسختك من مفتاحٍ ما مهمةً مستحيلة. وكم شعرتُ وقتها وأنا واقف فى ذلك الملعب بين مئات الناس أننى وحيد جدا. ظللتُ أبرر نفسى وأحكى ما حصل، لكنَّ خصمى كان مع والده، ومن يكون بصحبة أبيه فقد صحب العالم نفسه. هنا سقطتُ إلى الأبد ولم أحظَ بفرصة.


منذ ذلك الحين وأنا دائم الشعور بالضياع. أرى نفسى مفقودا فى مدينة خيالية يسكنها الرعب بكثرة الأبواب. ولطالما تخيلتُ أننى فى جرى لا ينتهى، أقطع المسافات جيئة وذهابا بحثا عن بابى. لكنَّ سوء التوقيت والتقدير يتناوبان على إعاقتى، ليفصلنى عن بابى سبب واهٍ كل مرة.


 مدينتى ذات الأبواب الكثيرة مدينة فارغة، لا تحتاج إلى أبواب كثيرة ولا مفاتيح… ومع ذلك تضيع وقتى بالبحث عن وسيلة لدخولها. أظنها قصة تصلح لمن وجدته الحياة وأضاعته عنوة، حتى فئران المختبر تنفق حيواتها لسبب وجيه، وبلا أدنى حاجة إلى بابٍ ومفتاح. 


ما يجعل الحلم حلمًا
 كان البكاء رفيق طريقها إلى المدرسة، رفيق النوم والمنامات ودقائق الصحو الأولى. ولم يكن ذلك السؤال المفتوح سؤالا بقدر ما كان جحيمها الطفولى الصغير؛ فحين سألتهن المعلمةُ «عما يجعل الحلم حلما»، لم تعرف الجواب، بينما أجابتها إحداهن بالخراف التى تقفز على السياج، ثم انسلّت الإجابات وعرفت الطفلة أنهن يرين فى مناماتهن غير ما ترى؛ إذ اقتصرت أحلامها على أبيها الشبحى الذى يضعها فى فراشها كل ليلة، ثم يصحبها إلى الواقع عبر فعل البكاء وحده، يحضر أيامها ليبكيها، وتذهب بمفردها إلى المدرسة لتفكر طوال الطريق بالسؤال الأول: «عما يجعل الحلم حلما».


لم تكتفِ بمنامها أو مناماتهنّ، وراحت تفكِّر بالخراف التى يحلم بها الجميع -كما يقولون- إلا هى. أحسَّت باختلافها عنهن حين رأت الحلم يتكرر فى أفلام الكرتون، ثم لامت نفسها على أحلامها، وتطوَّر الأمر بعد ذلك إلى لوم نفسها على رحيل أبيها، حتى كفَّت عن الذهاب إلى المدرسة، وبذلك سلَّمت بكاءها الطويل لأمها التى لا تزال تنشج كلما رنَّ الهاتف؛ مجترَّةً المآسى تباعًا.


جلست الصغيرة فى المنزل عاما كاملا بلا دراسة، وظلّت مطبِقةً على جحيمها الخاص فلم تتحدث عنه إلى أحد، واظبت على رسم الخراف وهى تقفز على السياج فى الأيام الأولى، ثم اكتفت بإمعان النظر إليها قبل النوم لتحلم بها، فقد قيل لها بأنَّ المرء يحلم بما يراهُ آخرَ لحظةٍ قبل مداهمة النوم لجفنيه.


 أتى يومها المنشود؛ لكنها رأت الآباء فى منامها يقفزون بدلا من الخراف!
 لوهلةٍ أحسَّت بنشوة الانتصار؛ إذ أتاها فى منامها ما يأتيهن ولكن وفقا لطريقتها، وابتهجت حين تذكرت وقوفها فى الحلم منتظِرةً توقُّفَ أحدهم، وأن يصحبها إلى المدرسة كبقية الفتيات لتشعر بأنها مثلهن فعلا.


حين صحت من النوم ارتدت ملابس المدرسة وتجهَّزت للذهاب المفاجئ، لم تكترث بالملابس التى صغر مقاسها عليها ولا بالحقيبة الفارغة، ولم تفتها ملاحظة دموع أمها، أو اضطراب يديها الممسكتين بالهاتف لساعةٍ أو أكثر. 


وقبل أن تخطو خطواتها الأولى خارج المنزل؛ وجدت الآباء من الجيران واقفين على أبوابهم ينتظرونها، فتجاوزت سياجها الخاص بالقفز تجاههم، حلَّقت ناحيتهم بذراعين مفتوحتين… مردِّدةً بصوت عالٍ أنها صارت تعرف أخيرا إجابة السؤال «عما يجعل الحلم حلما».