محمود الوردانى يكتب : جودة وجميل (٢)

محمود الوردانى
محمود الوردانى

أواصل هنا ماكنتُ قد بدأته الأسبوع الماضى عن الفنانين التشكيليين جودة خليفة وجميل شفيق، والدور الذى لعبه كل منهما فى منح أخبار الأدب ألَقها وشكلها الفنى المميز.


رسم جودة عددا لابأس به من البورتريهات لفنانين وكتَّاب عديدين، وهى بورتريهات تراها للوهلة الأولى عادية جداً مرسومة بالأبيض والأسود، وتبدو تقليدية، ولكن ما أن يدقق الواحد قليلاً حتى يكتشف أن هناك شيئاً ما، روح  خفقة، لمسة خفيفة، جوهر كان مختفياً فى الشخصية التى يرسمها جودة، وانتزعه جودة أو استلّه أو أعاد اكتشافه وتقديمه.

اقرأ ايضاً| محمود الوردانى يكتب : جودة وجميل (ا)


لا حاجة لأن أذكر أن جودة لم يكن يرسم ما يُطلب منه. كان يرسم من يريد فقط، كان يختار من يريد أن يرسمه. وتنتهى علاقته بالبورتريه بمجرد أن ينتهى هو منه.


ويعرف طريقه للطبع، ولا أحد يعلم أين ذهبت الأصول وجودة بالطبع لم يكن مهتماً أدنى اهتمام بأصوله. جودة يرسم فقط!!


كما رسم عدداً آخر من اللوحات المصاحبة للبستان، وهى رسوم ملونة أغلبها لطيور مذهلة لها روح متوثبة، ومزهوة بنفسها، وتنأى بأجنحتها المضمومة أو المفرودة ولها حضور طاغٍ دون أن تكون لها ملامح محددة. هى طيور فقط لا يهتم جودة بتعيينها على وجه الدقة.


البورتريهات والرسوم (بعضها كان أغلفة للجرنان) ضاعت، فعلاقة جودة برسومه تنتهى بمجرد أن ينتهى هو منها. المثير للدهشة أنه كان يرسمها فى الجرنان، وبالتحديد فى مكتب رئيس التحرير جمال الغيطانى فى الطابق الثامن من المبنى الصحفى الجديد، إن لم تخُنى الذاكرة، كان المكتب يشغله اثنان: الغيطانى حتى الثالثة أو حولها، ويغادر، وفى آخر النهار يشغله الصحفى الراحل عصام بصيلة الذى كان مسئولاً عن صفحة يومية كانت مهمة فى الحقيقة للإذاعة والتليفزيون، ويستمر فى عمله عدة ساعاتٍ، وكان يحرص بمجرد وصوله إلى مكتبه على إنزال الستائر وإخراج أباجورة مكتب كان يحتفظ بها وتغرق حجرته فى الظلام والهدوء الليلى.


جودة يستغل المكتب بعد أن يغادر الغيطانى، وقبل وصول عصام بصيلة عندما تهدأ الدنيا قليلاً ويغادر أغلب المحررين مكاتبهم، فيأخذ جودة كوب شايه وسجائره ويفترش المكتب لساعتين أو ثلاثٍ، وعلى الرغم من أنه كان حريصا على ألا يلتقى بالأستاذ عصام، إلا أنه كان يترك المكتب فى حالة يُرثى لها كما يقال: بقايا سجائره وشايه وألوانه وأوراقه فقد كان مهملاً لا يُشق له غبار، كما أنه كان يغيب عن الوعى تقريباً أثناء عمله من فرط تركيزه فيما يرسمه.


اشتكى الأستاذ عصام طبعاً، ولم يستجب جودة أدنى استجابة، وهو لم يكن متعمداً فى عدم استجابته، وربما لم يفهم جودة وجه شكوى الأستاذ عصام. الأنكى أنهما اصطدما مرات قليلة جداً، فقد كان جودة يستغرق بشدة وينسى كل ما حوله، ثم يفاجأ بالأستاذ عصام وقد دخل حجرة مكتبه ووقف مستنفراً يحدق صامتاً فى هذا الكائن الغارق فى فوضاه وبقايا شايه وسجائره. وبالطبع كان المكتب فى حالة يُرثى لها، والأستاذ عصام لا يطيق جودة ولا يعرفه ويعامله باستهانة شديدة فقد كان لا يعرفه مطلقاً ولا يهتم بأن يعرفه، كان فقط يريد أن يختفى هذا الكائن ليُنزل ستائره ويُخرج أباجورته ويبدأ عمله!!
فى الأسبوع القادم- إذا امتد الأجل- أواصل الكتابة.