ياسر عبدالحافظ.. حاضر الثقافة فى مصر

ياسر عبدالحافظ
ياسر عبدالحافظ

كثيرًا ما أفكر فى أن الثقافة المصرية فى مرحلتها الحالية تظن أنها وصلت درجة الاكتمال وبالتالى لم يعد لها من عمل إلا أن تنظر فى منجزها، نظرة الرضا والإعجاب بما كان، وليس نظرة التأمل لإفادة حاضرها، ولِمَ عساها تفعل وقد تم واكتمل فعلها الثقافي! لذا تنتقى من تاريخها الطويل بعض اللحظات الجميلة وعددًا من الأشخاص الذين تؤثرهم على غيرهم.

لدينا مناسبات سنوية يُحتفَل بها على المستوى الوطني، وأخرى يتراوح تأثيرها وقوتها بحسب وزن منظميها. تاريخ الثقافة المصرية اُختزِل فى أسماء وأحداث قليلة، حفظها الجمهور من كثرة ترديدها، فيما غابت عشرات الأسماء الأخرى ومعها ما قدمته من أفكار، وما صاحب تلك الأفكار من جدل وما نتج عنه.

وعلى هذا فالمعرفة بالمعنى العام لثقافتنا يغيب بمرور الوقت، لا يبقى إلا كشعار يردده بحسرة من عايشوا قوتها وتأثيرها على المستوى المحلى والعالمي: «القوة الناعمة لمصر»، لكن الشعار وغيره لا يجد صداه عند الأجيال الجديدة، وعند المراكز الثقافية الناشئة التى تصارع لإبراز وجهها الحضارى بعد استيعاب درس التحولات العالمى القاسي: لن يبقى من قوى إلا المؤثر على الأرض فى هذا الزمن، والاستناد إلى التاريخ لن يشفع لشعب ما إلا إن كان يمتلك أدوات ما يدعيه، وفق هذا يمكن وضع عمليات التدمير الممنهجة للحضارات فى سياقها وظرفها السياسي!



سجل الثقافة المصرية حافل بأشخاص وأفكار، غاية فى التنوع والثراء حتى أنه يُعجز من يسعى للإحاطة به كاملًا، لدينا إنتاج ضخم فى مختلف المجالات، أسسنا دعائم المراكز الثقافية المحيطة بنا، وضعنا خططًا لنهضة أدبية وفنية وفلسفية، قبل التخلى فجأة ومن دون أى مبررات مفهومة عن هذا كله، وتحول الأمر من عمل عام إلى مشاريع فردية يواصل فيها من امتلك اليقين ويسقط كثيرون فى منتصف الطريق بقناعة أنه لا جدوى من الفعل الثقافي!

من بين لائحة، مدون عليها أسماء مثقفين وكتاب وأدباء ومفكرين، ممتدة بعرض سماء الوطن، أبقينا على القلة وتركنا البقية للنسيان، أهلنا التراب على الجميع ما عدا أسماء تشكل لائحة بالغة القصر تناسب مزاجنا الحالى المرتكن إلى المهادنة الفكرية، على رأس لائحتنا الحالية: نجيب محفوظ وطه حسين، يتكرر حضورهما بأشكال احتفالية أقرب إلى الفرحة بعيد رمضان وليس كممارسة لفعل ثقافى نقدى يأخذ مما سبق ليضيف إلى الحاضر، وهو ما يُجبر على طرح تساؤلات من نوعية: لماذا؟ ما الداعي؟ ما الجديد هذه المرة؟ ما سبب هذا الهوس؟ لماذا نكبل أنفسنا ببضعة أفكار أُنتجت فى أزمنة سابقة.. القص على الطريقة المحفوظية، والشك على طريقة العميد؟

إن فكرنا بعض الشيء لرأينا أننا نصنع أصنامًا لعبادة سنوية تدوم أيامًا بعينها ثم تنتهى من دون أن ندرك أى درس تعلمناه من احتفال هذه المرة؟ ما القضية الجوهرية التى تجبرنا على استدعاء أفكار قديمة فيما بقية العام نبقى حيارى، كل واحد يحاول منفردًا على قدر طاقته، يدور فى حلقة مفرغة باحثًا عن معنى وعد الاحتفال بالرمز بتقديمه ولا يسفر النشاط سوى عن صفر، عن تضخيم علامة الاستفهام المرتسمة فى الأفق! 



أنا تعلمت من نجيب محفوظ، كيفية النظر إلى الواقع وتحويله إلى فن. وتعلمت من طه حسين ألا أقبل ما أرساه غيرى باعتباره قواعد. لكن العبادة الموسمية التى نقيمها لا تتفق مع المنجز الذى قدماه، لأنهما وعلى العكس من الرغبة التى جمعتهما فى تجاوز زمنهما وقواعده فإننا نقوم بتجميد الزمن عند اللحظة التى رحل فيها كلاهما عن هذا العالم، عاجزيْن عن استخدام منجزيهما للمضى قدمًا على طريقنا نحن، وهو فى النهاية الهدف من أى ممارسة ثقافية حقيقية وليست شكلية. 

لن نقيم ثقافة ما إن نحينا تاريخنا الثقافى جانبًا. هذه قاعدة أساسية بديهية للغاية، غير أننا فى حاجة إلى البحث فى مختلف جوانب التاريخ والتوقف عن هذا المنهج الإقصائي، ثم إننا بعد ذلك، وربما قبله، فى حاجة للإيمان بقوة الحاضر وتفوقه على الماضى لأنه ما يزال فاعلًا ولديه القدرة على التجاوز.

 بهذا الفهم (الذى هو بالمناسبة عماد أى ثقافة حية وليس اختراعًا أدعيه أو مقترحًا أتقدم به لأحد) يصبح ذلك التاريخ أحد الأسس المكونة للشخصية، مرتكزًا لها، وليس سببًا فى اضطراب الشخصية كما هو حاصل الآن، معركة (لماذا أنا ملحد ولماذا أنا مؤمن) على سبيل المثال لسنا طرفًا فيها، بالمثل معركة الشعر الجاهلي، معركة الفصحى والعامية، معركة الحجاب، الانتماء المصرى إلى أى ثقافة، مثقف السلطة ومثقف الشارع. كلها معارك انتهت بأفول زمنها حتى وإن كان صداها ما يزال يتردد فى حاضرنا إنما وفق قواعد زمننا، وليس علينا فيما نتمعن فى هذا التاريخ وغيره إلا أن نبتسم بلطف لخلافات الأجداد لأن هذا ما سيفتح أمامنا أفق التجاوز أما الرغبة الغرائبية فى إقامة صوان تاريخى دائم فى قلب حاضر الثقافة فلن ينتج لنا إلا التخبط بين الأشباح!

قواعد النشر فى «أخبار الأدب»

عبر الثلاثين عامًا المنقضية وضعت «أخبار الأدب» خطًا تحريريًا اعتمد على الانفتاح على مختلف التيارات والأجيال الثقافية، داخل مصر وخارجها، برغبة حقيقية فى إقامة حوار ثقافى من شأنه التفكير فى منتج ثقافى متجاوز للأطر المألوفة، باعتبار أن هذا غاية أى فعل ثقافي، ولازمة أولية له، ذلك أنه من الأسس الغائبة عن ممارستنا الثقافية التفرقة بين فعل التعبير عن النفس، وبين النشاط الثقافى الذى نال اعترافًا بتميزه. بعد الإعلان (عبر وسائل التواصل الاجتماعي) عن إيميل مخصص لتلقى المساهمات المختلفة لنشرها على صفحات الجريدة للراغبين فى ذلك، انهالت علينا الرسائل، بتنوع يثير التفاؤل والأمل فى استمرار قدرة هذا البلد على الإنتاج الثقافى المتميز. والكثير مما وصلنا سيتم نشره فى الأعداد المقبلة وفق خطة النشر بالجريدة، وبعد إقرار مجلس التحرير للمواد المرسلة.

ما أود التأكد عليه هنا، أن الترحيب لا يعنى نشر كل ما يُرسَل لنا لأن هناك الكثير من القواعد تحكم عملنا، منها قواعد صحفية وأدبية. وعلى رأس قواعدنا جودة المادة وتميزها فى مجالها: القصة، الشعر، النقد، وغير ذلك من فنون الكتابة المختلفة. كما أن اللغة أحد الشروط الأساسية باعتبارها واحدة من أهدافنا.. (السؤال ليس فقط ماذا تكتب بل وأيضا كيف تكتبه؟) ولا أقصد هنا أننا نشترط الفصحى فللعامية المصرية وجودها، لكن منطق اللغة، والسلامة اللغوية ضروريان.

وفى هذا الإطار نعتذر للأصدقاء الذين يراسلوننا يطلبون أن نخبرهم بمواعيد نشر ما يقدمونه من مواد، لن يكون فى قدرتنا تلبية هذا الطلب مع حجم العمل الكبير. لكننا سنعمل على الإعلان عن مواد كل عدد بعد نشره بالوسائل المختلفة، وتبقى متابعة الجريدة ركيزة لحوار نأمل فى إقامته.
للتواصل: [email protected]