محمود الوردانى يكتب : جودة وجميل (ا)

محمود الوردانى يكتب : جودة وجميل (ا)
محمود الوردانى يكتب : جودة وجميل (ا)

لَفَت نظرى فى العدد الخاص الذى أصدرته أخبار الأدب بمناسبة مرور ثلاثين عاما على ميلادها، أنها خَلَتْ من الإشارة الواجبة لدور الفنانين التشكيليين الراحلين جودة خليفة وجميل شفيق فى منح الجرنال ذلك الشكل الفنى الذى ميّزه، خصوصا إذا وُضع فى الاعتبار أنها تجربة جديدة على مستويات متعددة، فلم تكن قد تأسست بعد جريدة - مجلة - أسبوعية تُعنى بالثقافة والأدب، وهذا القطع والشكل كان جديدا على الصحافة المتخصصة.


 لا أعتقد أن الإشارة الواردة فى العمود الذى كتبته فى العدد الخاص لدور كل من جودة خليفة وجميل شفيق كافية للإيفاء بحقهما فى توضيح دوريهما والتأثير الذى أحدثاه.


أود أن أذكر أولا أن المكافأة الشهرية التى كانا يتقاضيانها من رسم عشرات اللوحات كانت مناسبة أو تقترب من أن تكون مناسبة لاسم ومكانة كل منهما، وكل مافى الأمر أنهما آمنا بالتجربة، ويعود الفضل أولا وأخيرا للكاتب الراحل جمال الغيطانى فى التفكير فى الاستعانة بهما وكذلك فى حماسهما وترحيبهما.


 كلاهما، جودة وجميل، تخرجا فى الفنون الجميلة، ربما عام 1961 أو 1962 ، والمعروف أن النصف الأول من عقد ستينيات القرن الماضى شهد دفعاتٍ متوالية من فنانين كبار هم الأكثر تأثيراً ومازالوا مؤثرين حتى الآن بما أضافوه للفن التشكيلى فى مصر.


أريد هنا أن أوجه تحية تليق بكل منهما اعترافاً بفضلهما وامتنانا لهما.


الفنان جودة خليفة كان أمة وحده. وأعتد هنا على بعض ما كنت كتبته عنه فى كتاب «لإمساك بالقمر».


جودة ابن فلاحين وفلاح قرارى. عُيّن بعد تخرجه مديرا لمتحف مصطفى كامل، ولم يتحمله طويلا وامتنع عن الذهاب إلى عمله فجأة. تعرّفتُ عليه فى آخر ستينيات القرن الماضى حين كان يسكن أعلى سطح إحدى عمارات شارع عرابي. مجاورا لعدد من الفنانين والكتاب من بينهم: نجيب شهاب الدين وعبد السلام رضوان وأسامة أبو طالب، لكن جودة كان الأعلى صوتا والأكثر ضجيجا بينهم.


ربما كان جودة هو الوحيد الذى لم يشارك فى أى من المعارض الجماعية كما لم يقم معرضاً واحداً لأعماله بل ولم يحتفظ بلوحة واحدة. كان جودة أيضا من أهل الخطوة، حيث كان من الطبيعى أن تراه فى الغورية والعطوف وبولاق أبو العلا والسيدة زينب ومقاهى وسط البلد فى نفس الوقت.


لم يكن يحمل أى قدر من الجدية تجاه الحياة بكاملها. وظل الأكثر سخرية من الدنيا والرسم والثقافة السائدة بين مجايليه. لايرغب فى شيء ولم يحصل على شيء. عمل رساماً فى عدد كبير من الصحف والمجلات، لكنه لم يأخذ أياً منها بجدية. ربما يتذكر البعض رسومه بالغة الحساسية لرواية فتحى غانم «حكاية تو» فى مجلة صباح الخير أو بعض رسومه فى مجلة أكتوبر.


جودة المشاء العظيم فى دروب المدينة كان ما أن يلج أى مكان للراحة أو زيارة أصدقائه، يبادر بخلع صندله وغسل جوربه وتعليقه بجواره ليجف. وكثيرا ماكنت أراه عندما أذهب إلى بيت أحد الأصدقاء مثل: نجم فى الغورية أو عبده جبير فى السيدة زينب أو فى بولاق أبو العلا عند محمد شهدي. وكثيراً ما كنا ننزل معا لنواصل الصعلكة حتى نستقر فى الفحامين قايتباي.


كان جودة صعلوكاً ومشّاءً لا يُشق له غبار. من الصعب أن يحصل على نقودٍ أو يبحث عن طريقة ليحصل على نقودٍ، وإذا حصل على النذر اليسير، كان ينفقه على الفور.
 أواصل فى العدد القادم إذا امتد الأجل..