أحمد الزناتى يكتب : مسارات متوزاية عن مشوار حياة

أليس هيلديبراند و أنّّاشيمل
أليس هيلديبراند و أنّّاشيمل

سُئل فلاديمير نابوكوف ذات مرة كيف يصف حياته فأجاب بصلفه المعهود وغروره اللذيذ:

«كانت حياتى خبزًا طازجًا مغموسًا بالزبد الفلاحى وعسل الألب». لكن قارىء مذكرات نابوكوف، والمتأمل لمآسى حياته، بداية من قتل أبيه غيلة على يد ملائكة العدالة الاجتماعية، الأشاوس الحُمر، مرورًا بسنوات الحِل والترحال، سيكتشف أن حياته لم تكن إلا علقمًا مسقيًا بالخل.

 أى لون من العسل كان يقصد إذن؟ لا تختلف المذكرات التى سأتكلّم عنها فى السطور التالية عن مقولة نابوكوف. مذكرات الفشل السعيد. أى لون من ألوان الفشل يكون مذاقه سعيدًا سائغًا؟ وما معنى ردّ نابوكوف. سأتكلّم هنا عن امرأتين عظيمتيْن، مثلّتا مشوار حياة مزجت بين العسل والعلقم.


الأولى هى أليس مارى فون هيلديبراند (11 مارس 1923 – 14 يناير 2022)، وهى أستاذة جامعية ولاهوتية وكاتبة أميريكية الجنسية، بلجيكية المولد، رحلت عن عالمنا السنة الماضية وهى تدنو من المئة. وكنت قد وقعتُ على الكتاب بمحض المصادفة أثناء التسكع الأسبوعى على دور النشر، فشدّنى العنوان. علمت أن الاسم معروف فى أمريكا، لكنه غير معروف هنا.

ويتناول قصة حياة د. هيلديبراند، ولا سيما السبعة والثلاثين عامًا التى أمضتها فى كلية هانتر فى مدينة نيويورك، حيث قاست شتى صنوف المحاربة والاضطهاد لكونها امرأة أولًا، ولأنها متدينة ثانيًا، ثمّ لأفكارها بطبيعة الحال، لكنها استطاعت هزيمة النفوس المريضة وهى للأسف الأعلى صوتًا فى حياتنا ، وتحمّلت بإخلاص وتفان، تاركة بصمة على جيل من الطلاب، لا عبر  الخُطب والجعجعة بلا طحن، بل عبر أسلوب حياتها.

اقرأ ايضاَ| «هيئة الكتاب» تصدر «سنوحي.. قصة مصرية» ضمن مكتبة الأسرة

الكتاب مكوّن من ستة وعشرين فصلًا، ثم فصل ختامى قصير، يوجز حكاية العُمر كله. تغطى الفصول الأولى طفولتها المبكّرة فى بلجيكا قبل الحرب العالمية الثانية، ثم انتقالها لاحقًا إلى الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب. تبدأ رحلتها بمأساة؛ تسافر المؤلفة مع عائلتها على متن سفينة متجهة إلى نيويورك مهددة من قبل غواصة ألمانية بأوامر بالإخلاء قبل أن تُغرق. بداية درامية قوية، لا ينقذها سوى الإيمان القوى لعائلتها، وهم وسط المحيط، البحر أمامهم، وغواصات كارل دونيتز من ورائهم.

تروى د. هيلديبراند حكاية واحدة تلو الأخرى عن الحياة كأكاديمية كاثوليكية داخل قسم فلسفة ينضح بالميوعة الأخلاقية والتمييز الجنسى الصارخ ضد النساء، ثم انتهى بها الأمر للتدريس داخل كلية غير دينية [أى غير لاهوتية]، لأن العديد من الكاثوليك رفضوا تعيين امرأة فيلسوفة. ولما انتقلَت للتدريس فى كلية هانتر لم تكن أمورها أفضل حالًا، فقد أطلق الزملاء الرجال نكاتًا مبتذلة عليها، وأطلقوا عليها لقب «الفرنسية الجذّابة فى أعين الطلاب»، فى تلميح جنسى بذيء.

وفى هذه الكلية لاقت الفيلسوفة معاملة رديئة؛ فقد اتهمها زملاؤها – الشيوعيون واللا دينيون والتعبير هنا للمؤلفة نفسها بمحاولة نشر الكاثوليكية والتدين داخل قاعات الدرس، وتسميم الفلسفة بالدين. وفى سنة 1954 أخبرتْ العميدة د. هيلديبراند أن زملاءها يأملون فى أن تغادر الكلية تمامًا. قالت لها: «سأصارحكِ القول.. زملاؤك لا يريدونك وسطهم. السبب؟ لأنهم يعتقدون أنها ستكون أكثر فاعلية من مؤسسة كاثوليكية.. وهم لا يحبون ذلك».

وتروى لنا المؤلفة أنّ إيمانها بأفكارها كدّر عليها صفو عيشتها فى كلية هانتر. إذ كانت تحصل على أقل راتب بتقاضاه مدرّس جامعي، وحُرمت من حقها فى التأمين الصحي، وللوفاء بمتطلبات حياتها وبيتها اضطرت إلى إعطاء مزيد من الدورات العلمية التدريبية فى كل فصل دراسي، ثم أوغل القسم فى ظلمه وكُلِفّت بالتدريس فى الدورات المسائية.

وهو ما كان يعنى العودة إلى المنزل فى وقت متأخر كل ليلة، وهى إلى جانب كونها أستاذة فهى زوجة ومسئولة عن بيت. لكن المكافأة الحقيقية ولحظات السطوع المشرقة تمثلت بحق فى قاعة المحاضرات التى كانت مكتظة بالطلاب عن آخرها على الدوام، وهو ما كان – بالطبع- يثير غيرة مكتومة فى قلوب زملائها.

وفى فصل آخر تروى المؤلفة قصة مرضها بداء نقص عدد كريات الدم البيضاء، وهو مرض مزمن عانت منه طوال حياتها، لكنه لم يؤثّر فى التزامها بأداء واجباتها فى التدريس والكتابة وواجباتها كزوجة محبّة كما سأشير لاحقًا. النقطة الأهم فى نظرى هى وقوفها على الدوام فى صف طلابها؛ حيث ساعدت تلامذتها على مواجهة مشكلاتهم الشخصية: الاضطرابات النفسية، أزمات اليأس من الحياة والأزمات الشخصية والعائلية. أعطت الأمل والتشجيع للطلاب والشبان والشابات التائهين فى هذه الدنيا، أولئك الذين لم يجدوا مكانًا يذهبون إليه أو إنسانًا ذا بصيرة يستأنسون برأيه.

ولكن أليس هذا دورًا إنسانيًا يضاف إلى أدوار الفنان/الكاتب/المعلّم/المربى الحقيقي؟ تعهّد الآخرون بالرعاية، الأخذ بيدهم ولو بالكلمة الحسنة؟ أم أن دور الأستاذ أو الروائى أو المفكر أو ما سواه من السلع الفكرية التى تملأ الأسواق مقصور على تقليب عيشه كيفما اتفق، ورفع عقيرته بالثرثرة والسباب والصراخ لجذب أنظار الآخرين واهتمامهم، وكأنه أو وكأنها «شغالين فى موقف ميكروباصات»!

وكانت د. هيلديبراند زوجة محبة، مؤمنة بدور الزوجة والأسرة، مدافعة باسلة عن الأمومة والإنجاب ضد القيم المشوّهة السائدة آنذاك (وحتى اليوم!)؛ قالت إنها وجدت القوة والسعادة فى زواجها من الفيلسوف الكاثوليكى الشهير د. ديتريش هيلدييبراند. قبل زواجهما بسنوات ساعدته فى ترجمة أعماله ونقل أفكاره إلى طلابها. فتقول إنه برغم الفجوة العمرية الكبيرة، يبدو أنّ كلًا منهما صنع الآخر. تقول المؤلفة نصًا: «ساد بيننا تفاهم كامل دينيًا وروحانيًا وفلسفيًا وفنيًا. تشاركنا النظرة إلى الحياة والمثل العليا و طريقة الحياة. جعلنى زوجى، بطريقة واقعية للغاية، ما أنا عليه الآن «.

أعجبتنى ثباتها على أفكارها ومبادئها، تقول فى إحدى الفقرات المهمة: «الحقيقة أنك لو أردتَ تدمير مجتمع ما، فيجب أن تحشد تركيزك على تدمير الأسرة وإفساد التعليم. لم نعد نُعلّم الأطفال، بل نمنحهم معلومات منحرفة تحت ذريعة نسبية القيم والذاتية. لقد شاهدتُ من كثب تدهور الثقافة ويأس الشباب الذين لم يتعلّموا أن ثمة شيئًا اسمه الحقيقة المطلقة، وها نحن أولاء نعيش ثمار هذه الفلسفة الناقصة». وفى فقرة ثانية تقول:

« هناك ما يُسمى النسبية الأخلاقية، ذلك السرطان الفكرى الذى يدمر مجتمعنا، إنها ثورة فكرية ضد الحقائق الرئيسية: الميتافيزيقا، الأخلاق، الدين. يُقْبل العلم ويُمجَّد لأنه لا يخبرنى كيف أعيش حياة البنى آدم الحقيقي، لا يريد الإنسان المعاصر الامتثال لأى نظام، فهو يهرب من الالتزامات الأخلاقية تحت غطاء أن كل شيء مردّه الأنا: الأمر متروك لى لأعيش كما يحلو لي». ولكن هذه فرادنية أم فشل وخيبة ثقيلة اجتماعية ونفسية؟ هروب من تشكيل الذات وبنائها، شيء أشبه بالهروب عبر معاقرة المخدرات؟ تتساءل د. هيدليدبراند: ألم يكن القديس أوغسطين رجلًا حرًا متمتعًا بشخصية مستقلة؟

وربما يمكن للفصل الأخير الذى يحمل عنوان Final Reflection، وأفضِّل أن أترجمه «أما بعد»، أن يوجز خلاصة الكتاب، وليأذن لى القارىء أن أترجم الفقرة المطوّلة التالية: «ها هو ذو مشوار كفاحى الطويل المحفوف بالمشقات قد انتهى وتُوِّج بالنصر. أرجعت البصر إلى مشوارى المهنى وسألت نفسي: لو كنت أعرف ألوان الاضطهاد التى سأراها على مدار سنوات حياتى هل كنت سأقبل الوظيفة وأخوض التجربة؟ الجواب أن الله وحده، ببركته، إنما يُرينا نذرًا يسيرًا من معالم الطريق الذى يقود خطواتنا إليه.

ومعنى ذلك أنى لو كنت قد رأيت مسار حياتى كله دفعة واحدة، لرفض ذلك المخلوق الجبان الساكن بين جوانحى التحدي. وبرغم ذلك لو قيّض لى الرب أن أعيش حياتى من جديد، هل كنت لأغيّر منهجى فى التدريس، كما كانت تصدر لى الأوامر فى كثير من الأحيان لأفعل؟

قولً واحدً وبدون ذرة تردد: «لا». برغم اقتناعى أنه كان فى مقدورى أداء كثيراً من الأشياء أداءً أفضل، وبرغم ارتكابى كثير من الأخطاء فى قاعات الدرس، كان منهجى فى التدريس منهجًا مخلصًا للحقيقة إخلاصًا لا هوادة فيه، تحدوه فى ذلك رغبة شغوفة وصادقة فى مشاركة الآخرين ما تعلمتُه، علاوة على رفضى المطلق للتنازل عن أى شيء لأجل تحصيل منافع دنيوية، لم أقدر على الانضمام إلى عربة أولئك الذين يجارون «روح العصر»، أو متطلبات العصر الراهن. صحيح أن هذا الرفض المنهجى «لمشاركتهم لعب اللعبة»، وإعراضى عن وضع يدى فى أيدى مَن يرون أن التدريس وسيلة لجنى المال (بل يمكن أن يكون الأمر مربحًا لو كان المرء ذكيًا بما يكفي)، أقول إن هذه الرفض يفسر حقيقة أننى كنت امرأة فاشلة على المستوى المهني.

ولكن أعود فأقول لو ذاق الأساتذة «الناجحون» طعم الفرحة التى ذقتها فى قاعات الدرس، ولو أنهم حدسوا ثراء وخصوبة ثمرة عملية التدريس، ولو أنهم علموا عدد الأصدقاء الأعزاء الذين كونّتهم، لأدركوا أننى ربحت الرهان.   كم تمنيت لو استطعت إقناع القائمين على إدارة جامعة هانتر، بأن ثمة حاجة ماسة إلى المعلمين المدافعين بشجاعة عن الحقيقة.

ثمة أشياء لا تتغيّر، ولها شرعية متعالية مطلقة، ولكل شخص الحق فى معرفتها. على الأصعدة الدينية والأخلاقية والإنسانية والسياسية ليس فى مقدور أمتنا العظيمة أن تؤمل فى البقاء إلا إذا وطدّت أركانها على أرض الحقيقة، وإلا إذا أعطت أطفالَها الخبز الذى يشتهونه. هذه هى المهمة السامية للتعليم.

وبرغم كل الأخطاء التى اقترفتُها فى حياتي، أستطيع القول بأمانة إننى لم أتنازل قط عما كنت أوقن من صدقه ابتغاء تحقيق مصالح دنيوية.  ولئن قيل إننى امرأة فاشلة، فأنا فى الحقيقة أنجح الناس وأسعدهم».

ورَدَ فى نص دينى قديم أنّ الإنسان لا يحيا إلا ببركة الصالحين من أهله وبركة الصالحين الذين يقابلهم واحدة فى حياته. فى 1999 وطأت قدماى أرض ألمانيا للمرة الأولى فى دورة صيفية مطولة لدراسة اللغة. كنت أسمع من أساتذتى عن المستشرقة د. أنا مارى شيمل. نزلنا فى بيت للطلاب فى شارع Kaiserstrasse.      

وفى صباح أحد الأيام وبينما أتمشّى مع صديق عراقى يدْرس فى قسم الدراسات الشرقية هناك، وصلنا إلى ال  Hofgarten، وهى حديقة واسعة مطلّة على جامعة بون (التى درَس فيها نيتشه). أشار صديقى «لؤى منذر» إلى سيدة مسنة، تمشى بتؤدة فوق الرصيف المقابل، متوكئة على عصاها، واضعة إيشاربًا أبيض فوق رأسها، قال لى: «عمال تكلمنى عن شيمل من أسبوع..هى دى بروفيسور أنا مارى شيمل». ركضتُ لأراها.

وقفت أمامها وبينى وبينها خطوة، رمقتنى بابتسامة مجامِلة خافتة من وراء نظارتها السميكة، حاولتُ استجماع حصيلتى اللغوية لأقول أى شيء «ولكن ماذا فى مقدور تلميذ غرّ تافه فى العشرين أن يقول؟» انعقد لساني. أومأت برأسها من دون كلمة وواصلَت طريقها. عرفت فيما بعد أنها حتى فى سنّها الطاعنة لم تتوقف لحظة عن القراءة والبحث والدراسة. بقيتُ هذه المرة ثلاثة أشهر، لم ألمح طيفها مرة أخرى. تغمدها الله بواسع رحمته. 

فى سيرتها الممتعة «الشرق والغرب حياتى الغرب – شرقية» Mein west-östliches Leben استلهامًا منWest-östlicher Divan  أو الديوان الشرقى للمؤلف الغربى لجوته لو أخذنا بترجمة العلامّة عبد الرحمن بدوي»، وهى السيرة التى نقلها إلى العربية د. عبد السلام حيدر بترجمة صافية، علمتُ أنها كانت تحضر منتدى إيرانوس مع كبار المستشرقين علماء فلسفة الأديان المقارنة. يحدونى فضول شخصى لأعرف هل تكلّمتْ مع إلياده ويونج وإيزوتسو وتجادلوا فى شيء «أشارت د. شيمل إلى بعض هذه الأسماء إشارة عابرة، مع إشادة مطوّلة بشخصية الفرنسى ماسينيون وكتابه عذابات الحلاج» أم أن الخلافات الجوهرية عما إذا كان الدين حقيقة نفسية متجذرة أم إلهية مُنزّلة، حالت دون التوصل إلى أرضية مشتركة. على أى حال هذه خلافات- رغم تعقيدها- مآلها التسوية. لابأس لما نتقابل نتكلم.

مذكرات د. شيمل ثرية وممتعة كتجربة قراءة. لكنى فى الحقيقة لمست توترًا دراميًا – ربما لهواية الأدب بداخلي- أقوى وأمتع فى سيرة د. هيلديبراند، أعنى دراما الصراع ضد الحياة، كواليس الدسائس والصراعات والمكائد المُحاكة بليل، وساخات نفوس البشر، وهو ما رأيته أقل حدة- من حيث استقبالى لها- فى مذكرات د. شيمل، التى كانت أقرب إلى سرد متسامح «لو جاز لى التعبير» ممتع عن مسار الحياة الأكاديمية والرحلات عبر أرجاء العالم.

فى فقرة أخيرة تقول د. شيمل: «ولكن ربما تصدق هنا أيضًا الحكمة القديمة التى تقول بأن شيئًا من الخير ينمو من الشر مرة أخرى. ألا يجب على المرء أن يكابد فى أعماقه دائمًا جملة جوته «مت وكن»، تلك التى عبّر عنها فى رمزه عن اللهب والفراشة أو النور والفراشة بترجمة د. عبد الغفار مكاوي، الرمز الذى يأتى من التصوف الإسلامي، وذلك حتى يمكنه عمومًا أن يذلل صعوبات الحياة ويتغلب عليها؟ أنا نفسى لا أستطيع إلا أن أكون شاكرة شكرًا بلا نهاية، لكونى وصلت إلى هذه النقطة من حياتي، وأننى استطعت – دون سكرتيرة ودون مساعدين ودون كمبيوتر ودون سيارة ودون إجازة ودون نشاطات رياضية- أن أعمل كثيرًا بقدر ما تمنّيت. بالطبع لم يكن من السهل دائمًا أن أواصل السير على الطرق التى وجهت إليها مرة، أو لا أنحرف عن هدفي، ولكن المرء لا يتحدث عن الدموع الكثيرة أو عن خيبة الأمل أو المشاكل الإنسانية، فهذا شيء لا يعنى أحدًا. وقد أحببت منذ طفولتى هذه العبارة من رسالة القديس بولس إلى أهل رومية: ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله».

نظرة مثالية؟ إطلاقًا. بالعكس. هى قمة الواقعية، لكنها الواقعية الكليّة كما أطلقتُ عليها، وكما بيّنتْ د. هيلديبراند فى الفصل الأخير الذى ترجمت شيئًا منه لا تتضّح أمامك معالم الحقيقة الكليّة إلا فى مراحل متأخرة، بعد أن تغرس بقدميك عميقًا عميقًا فى وحل التجربة، ولو عرف المرء مسبقًا مآل خطواته، مهما بلغ حمقها ورعونتها، لما أقدَمَ عليها، ولَلزِم مكانه مثل فأر فى الجحر، مؤثرًا الموت عن الخروج.

وعلى اختلاف الرؤية والأسلوب، أوجز نابوكوف فى حواره التليفزيونى الذى بدأتُ به كلامى مغزى الكتابين اللذين دندنت حولهما. مذاق حياته كان خبزًا سائغًا مغموسًا بالزبد والعسل برغم أن المقادير كانت من العلقم والخل. ثمة عملية تحول كيميائى صنعت من الفسيخ شربات، أما تفاصيل المعاناة فهى لا تهم أحدًا كما قالت د. شيمل. بعبارة أخرى: Who cares؟

فى أحد أعمال هيرمان هسّه نقرأ العبارة التالية:

«آه..انضج يا رجل.. أن تنضج يعنى أن تكون مشويًا على سفود الآلام، أن تُحَمَّص تمامًا وتصطبغ باللون البنى مثل نواة ثمرة الخوخ. نعم، كل هذا لأجل أن تنضج، لأجل أن تكون مؤهلًا للموت».