ممدوح رزق يكتب: وداعًا همنغوى: جثة الظل الفقير

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

فى الرسالة التى وضعها داخل زجاجة وألقى بها فى البحر إلى صديقه أندريس الذى رحل إلى الشمال؛ كتب «ماريو كونده» بطل رواية «وداعًا همنغوي»: «وأنا الذى ما عدت شرطيًا، وما زلت عاجزًا عن كتابة حكاية رقيقة ومؤثرة، مؤثرة بحق».

فماذا لو كانت «وداعًا همنغوي» هى تلك الحكاية التى لم يتمكن من كتابتها الشرطى المتقاعد وبقيت كامنة داخل أكثر أغوار نفسه عتمة وإبهامًا؟ ماذا لو أن ذلك الشرطى الفيدرالى الذى عُثر على جثته فى مزرعة «بيخيا».

والتى أقام إرنست همنغوى فيها بيته الهافانى القديم؛ ماذا لو أن ذلك الشرطى لم يكن سوى استعارة سردية لماريو كونده قائمة على الإغواء نفسه «التلصص على همنغوي»؟ ماذا لو كانت «وداعًا همنغوي» هى الثأر الذى لا يريد التحقق من «بابا همنغوي» أو ذلك «السافل الذى ما زال يمشى هنا» أى حيث يشير ماريو كونده إلى نقطة غير محددة فى صدره؟.

«كنت معجبًا بذلك الرجل، لكنه بات أثقل على قلبى من الجبل. لقد تبيّن لى أنى لا أعرفه. ولست أنا الوحيد الذى لا يعرفه، بل لا أحد فى الواقع يعرفه. دعنى أتحقق من الحكاية فربما أصل إلى حقيقته».

وفى رواية «وداعًا همنغوى» لـ «ليوناردو بادورا» والصادرة عن دار المدى بترجمة بسّام البزاز؛ لا يتعلق الأمر بالعجز عن امتلاك الحياة «الأسطورية» لكاتب «أيقوني» فى تاريخ الأدب العالمي، أو بتنقية هذه الحياة من الخطايا والزيف بقدر ما يقوم على الصراع الأزلى بين «كاتب» و«الكاتب» بألف لام التعريف.. بين الشخص الذى «يكتب» وسلطة الصورة المهيمنة للكاتب النموذج أو المثال التى يجسدها همنغوى.

و«ابتسم كونده ونظر إلى البحر. الخليج الصغير، الذى كان فى أوقات أخرى يعج بقوارب الصيادين، بات مسطحًا مائيًا مقفرًا متلألئًا.

هل تعلم مانولو؟ ـ توقف وتناول جرعة ـ أتمنى لو كان همنغوى من قتل ذلك الرجل. منذ زمن وأنا أستثقل ذلك السافل».

وأراد ماريو كونده تصوير مقتله «المجازي» على يد همنغوى عن طريق مطاردة الدليل الذى يثبت أن من أطلق الرصاص على عميل الشرطة الفيدرالية هو همنغوى نفسه.. أراد كونده أن يتحرر من أسر هذه اللعنة حين يراها متحققة بشكل مراوغ، متنكر، منفصل عن حياته المنطوية التى مرت كظل مفتون، محاكِم، ومحتقِر لحياة همنغوي.. كونده والعميل الفيدرالى كانا يخوضان المسار ذاته الذى قادهما فى النهاية إلى القتل: مراقبة همنغوي..

وكان لكل منهما دافع مختلف، غاية متنافرة مع الأخرى، ولكن النتيجة ظلت أشبه بالحكمة التى تكشف بصلابة عن عقاب التورط فى هذه المراقبة أيًا كان هدفها.. هكذا رأى كونده نفسه، وهكذا أراد أن يثبت لذاته وللآخرين تلك الحقيقة المتوارية داخله، والتى لا تفسر سيرة همنغوي، وإنما تفسّر العُمر الفقير الذى عاشه كونده بوجه خاص كما يبدو بالنسبة له.


ماريو كونده كان يراقب ماضيه من خلال «الملحمة البطولية المخاتلة» لهمنغوي.. يتقمص جسده، شخصيته، أفكاره، انفعالاته، هواجسه، حركاته، ألمه ومتعته.. يتقمص كتابته: «حين بدأت الكتابة بدأت أكتب مثله.

وهذا الرجل كان يعنى الكثير بالنسبة إليّ».. تلك هى المسافة التى اتخذها كونده بينه وبين ما عاشه بدءًا من اللحظة التى ألقى فيها التحية على همنغوى وهو طفل صغير يقف بجوار جده عند مرسى «كوخيمار»، مرورًا بتقاعده عن العمل كشرطي.

وحتى اللحظة التى ألقى فيها زجاجة فى البحر تحمل رسالة إلى صديقه الجالس على الجانب الآخر ليخبره فيها بأنه لم ينجح فى كتابة الحكاية المنشودة.. المسافة الغائمة التى ظلت عالقة فى متاهة همنغوي.

و«لقد أصبح السلاح القاتل فى أدبه، شيئًا فشيئًا، مرادفًا للرجولة وللشجاعة. وضعه فى يد جميع أبطال رواياته، الذين استعملوه أحيانًا للقتل. مع ذلك، فلا يُعرف عنه أنه قتل. قتل آلاف الطيور والكثير من أسماك القرش والخرمان ووحيدات القرن والغزلان والوعول والثيران والأسود والحمير الوحشية».

ولماذا أيقن كونده بعجزه عن كتابة حكاية «مؤثرة بحق»؟ هل لأن التقمص يثبت استحالة أن تكون ذلك الشخص الذى تتقمصه، ومن ثم ّفهناك ثمن لهذا سيُدفع بالضرورة؟ هل لأن ذلك الشخص على مدار سنوات السعى إلى التوحد به أثبت أنه خائن بشكل أو بآخرللملامح الاستحواذية.

والتى تم تكوينها له فى مخيلة المحبين؟هل لأنه لم تفلح أى صيغة ممكنة لبلوغ التآلف أو التعايش بين الكاتب و«شروره» فى وعى الآخر الذى أهلك خطواته فى تتبع ذلك الكاتب؟ أم أن السر يكمن فى «مؤثرة بحق»؟ فى ما يعنيه التأثير.

وما يحدده، يفرضه، فى الشروط والمواصفات الاستعبادية لإنجازه حين ترتبط بحياة «علامة أدبية» مثل همنغوي؟ هل يكمن العجز فى عدم القدرة على تجاوز «خرافات التأثير» مهما كانت قوة تجذرها وطغيانها وإلحاحها عبر «معجزات المكرسين» فى تاريخ الكتابة؟ «وداعًا همنغوي» هى حكاية ماريو كونده المختبئة لمجرد أن بإمكانها أن تثير هذا النوع من الاستفهامات.

و«تعرف أنه كان فى سنواته الأخيرة يقول إن الأف بى آى تلاحقه. زوجته لم تكن تصدق ما يقول. وقال الأطباء إنها تهيؤات، ضرب من هوس الاضطهاد. ولعلاج ذلك أخضعوه إلى خمس وعشرين صدمة كهربائية. ممتاز! ـ هتف كونده على الرغم منه». 

ويبدو ماريو كونده بالنسبة لى أقرب لأن يكون الرجل العجوز فى قصة إرنست همنغوى «عجوز على الجسر» والتى كتبها بذكريات عمله كمراسل حربى لاتحاد صحف أمريكا الشمالية فى الحرب الإسبانية.

رجل وحيد محتجز فى مفترق طرق.. لا يمكنه العودة إلى مدينته «كما كانت فى الماضي» ولا يستطيع التقدم بعيدًا عن اغترابه «مدينته الآن».. أجبر على التخلى عن الأحلام الصغيرة التى كان يعتنى بها كما أجبر العجوز فى القصة على التخلى عن الحيوانات التى كان يرعاها.

ولم يصبح مثل همنغوي، ولم ينجح فى أن يكون شخصًا غيره.. طحنته حروب الزمن دون أن يشارك فيها.. لا يعرف هل يمكن لتلك الأحلام التى غادرته أن تعتنى بنفسها مثلما كان يرجو العجوز لقططه التى فقدها بحيث يقدر ذات يوم وقبل لحظة النهاية على استردادها فى طور التحقق أم أنها سوف تتبدد دون رجعة.

وكان همنجواى فى هذه القصة يخاطب كونده بينما يخاطب نفسه.. كأنه كان يخبره دون كلمات بأنه سيأتى وقت لن تستطيع فيه القطط أن تعتنى بنفسها.. ربما تخيل كونده حين قرأ هذه القصة أنه ذلك العجوز بالفعل.

وربما أدرك حينئذ أن رغبة فى الانتقام تنمو داخله نحو همنغوى قائمة على هذا الخطاب تحديدًا.. على المصير الذى قرره همنغوى لحياته دون أن يعرف عنه شيئًا ومن خلال قصة تدور عن حياة رجل آخر.. رجل تحوّل حين قرأ ماريو كونده قصته إلى راصد لهمنغوى وليس العكس.. رجل يفتش وينقّب فى حياة همنغوى ليقبض على مفترق الطرق الذى ظل يدور ذلك الكاتب الجامح داخله.. مفترق الطرق الذى دُفن ماريو كونده فى أعماقه.

وقد «يظهر همنغوى واقفًا فى لقطة جانبية، وفى خلفية صف من الأشجار. شعر أبيض ولحية بيضاء تمامًا، أما قميص الغنغهام فيبدو كأنه لهمنغوى آخر، أضخم جسمًا من الذى يبدو فى الصورة: كان جسمه قد انكمش.

وكتفاه تهدلتا وضاقتا. كان ينظر مطرقًا إلى شيء لا يظهر فى الصورة، وكان يكفى أن تنظر إلى تلك الصورة ليتملكك إحساس مقلق بصدقها. كانت ملامحه ملامح عجوز طاعن فى السن، وبالكاد تذكّر باسم الرجل الذى طالما استعذب العنف واستلذه. أسفل الصورة إشارة إلى أنها التقطت فى «كيتشوم» قبل إقامته الأخيرة فى المستشفى، وكانت واحدة من آخر صوره.

إلى ماذا تراه ينظر؟ ـ سأل مانولو.

ـ إلى شيء على الطرف الآخر من النهر، بين الأشجار ـ رد كونده ـ كان ينظر إلى نفسه، من دون جمهور، من دون ثياب تنكرية، من دون أضواء. كان ينظر إلى رجل قهرته الحياة. بعد شهر أطلق النار على نفسه.

نعم، يظهر منكسرًا.

على العكس: هنا يبدو متحررًا من الشخصية التى حبس نفسه فيها. هذا هو همنغوى الحقيقي، مانولو. ها هو الرجل الذى كتب النهر الكبير ذو القلبين».

ولماذا لا يريد الثأر أن يتم حتى لو كان بإمكان ماريو كونده حين ينضم إلى نادى (الكوبيين الهمنغوانيين) أن يتغوّط على همنغوي؟ لأن الثأر فى حقيقته يستهدف ما هو أبعد أو أكثر تلغيزًا من همنغوى نفسه.. يستهدف الجذور الغيبية لحياة همنغوى وأقنعتها.. الامتدادات القهرية المتشابكة لهذه الحياة عبر الزمن.

ولأن الثأر يستهدف عاهة جوهرية داخل ماريو كونده لا يمكنه استيعابها.. عاهة تجعل الثأر محاولة خفية لإنقاذ همنغوى من «أسطوريته» بكل ما يلتصق بها من «آثام».. «لقد عدّه بعضهم رجل أكشن فى مسرح كاتب، ورآه آخرون مهرجًا مهووسًا بعروض غريبة أو خطيرة لتضفى على ما يكتبه الفنان صدى وذيوعًا.

ولكن الجميع أسهموا، مادحين أو قادحين، فى أن تتحوّل سيرته، التى صنعها بنفسه، إلى أسطورة. أسطورة من أفعال ومآثر عمّت أرجاء المعمورة وسمع بها القاصى والداني. لكن الحقيقة، كالعادة، أكثر تعقيدًا وأشد فظاعة. لولا سيرتى ما كنت سأصبح كاتبًا».. كأن الخلاص الشخصى لماريو كونده يتوقف على هذا الإنقاذ.

ولكن المعضلة التعذيبية التى يدركها كونده ضمنيًا أن «كتابة» همنغوى لا يمكن انتزاعها خارج «أسطوريته».. «إن لم يستطع أن يغامر ولا أن يتذكر، فمن أى شيء ستكتب أيها الفتى؟»، «هو يعرف أن خياله فقير وكاذب، وأن كتبه المفعمة بالواقعية، كما أراد هو لأدبه، لم تؤسس إلا على ما رآه وعاشه وتعلمه من الحياة».

أن «آثام»همنغوى هى «سرديته» مهما كافح فى عزلها عن «المحظور الأخلاقي».. لذا فإن عليه ـ إذا أراد ذلك ـ أن يتأمل إرنست همنغوى ولو ظل محتفظًا بكامل العدائية تجاهه ـ بما يتخطى الحدود الضيقة لتمييز الواقع عن الخيال.

وربما يتخطى الأحكام القاصرة تجاه «مثالية» الفنان أو «دناءته»، وذلك انتهاك للشر المطلق الذى أخضع الجميع بوصفه «عدلًا».. هكذا يفكك الثأر نفسه بنفسه.

اقرأ ايضاً | لماذا يذهب هؤلاء إلى معرض الكتاب؟!