مصالحة مع الطبيعة.. ومعاهدة سلام مع الحياة

خاطر عبادة
خاطر عبادة

مهما كانت التحديات العالمية أو الخلافات بين الدول الكبرى لكن الجميع يعى جيدا أنه لن يكون هناك مستقبل لأجيال قادمة ولا تنمية مستدامة على المدى البعيد بدون اختيار طريق المصالحة مع البيئة والطبيعة وتوقيع معاهدة سلام مع الحياة.

اختيار طريق السلامة والأمان والنظافة بدلا من التلوث والدمار.. والعودة لحياة طبيعية نظيفة ومتجددة ومستدامة بدلاً من السير عكس اتجاه الكون والتمادى فى خطوات لا يمكن معالجتها بعد فوات الأوان.. مازال أمامنا الوقت لتفعيل مبادرات حماية البيئة والمناخ فى قضية تتطلب وجود الجميع على مائدة واحدة للتفاوض.. يكفى أن الحل والبديل هو شيء جميل وبسيط؛ وهو أن يكتسى العالم بلون الطبيعة الأخضر.

استضافة قمة الأرض أو المناخ الـ27 هذا العام- هو فى حد ذاته يعكس القيمة التاريخية والإنسانية لبلد عريق له تأثير إقليمى بمنطقتى الشرق الأوسط وأفريقيا فى الوقت الذى يحتاج فيه العالم للوحدة والتكاتف بين الاقتصادات الكبرى والناشئة للتحول نحو الاقتصاد الأخضر.

وبينما يأتى هذا الحدث العالمى السنوى الضخم فى ظل أحداث عالمية صاخبة وأزمات وحروب اقتصادية تستخدم فبها الطاقة كسلاح وتجعل اهتمامات الجميع منصبة حول حلم ثبات واستقرار الأسعار  فى كل بلدان العالم.. الكل مضطر للتعايش والتكيف مع الأزمات المتلاحقة والواقع؛ لكن على الأقل بإمكان القوى الكبرى تغليب العقل- إذا أرادت وتنحية الخلافات الجيوسياسية جانبا من أجل مسألة وجودية..  بينما تحتفظ الأمم المتحدة بقدر من التفاؤل ليكون هذا الحدث "كوب 27" هو قمة التنفيذ فى مدينة السلام شرم الشيخ والحصول على اتفاق تاريخى ملزم.

كما تضمن هذه القمة السنوية تأكيد التزام نحو 200 دولة بالتوصيات التاريخية فى قمة باريس 2015، ومواصلة البناء عليها كحد أدنى.. الاتفاق العالمى الذى أوصى بمتابعة جهود الدول فى تحقيق تقدم بشأن المشروعات الصديقة للبيئة كل عام، والحد بشكل تدريجى من الانبعاثات الضارة حتى عام 2040، حتى يمكننا الوصول لمجتمع خالى من الكربون.

أما الهدف الرئيسى من القمة المرتقبة هو بلورة توصيات اتفاق باريس التاريخى للمناخ إلى التزامات محددة والحصول على مزيد من التعهدات من جانب الدول الصناعية الكبرى الأكثر إضرارا للبيئة تجاه الدول المتضررة ودعم المشروعات الخضراء بالدول النامية؛ كما أنه ولأول مرة تقود دولة عربية وأفريقية هذه الجهود الأممية والإنسانية، مما يستدعى لفت الانتباه لمدى تأثر هذا الجزء من العالم بأخطاء الدول الكبرى، خاصة وأن تغير المناخ يكلف القارة السمراء ما بين 5 و15% من نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ومع مرور الوقت، قد تزداد هذه الخسائر بقدر كبير، مع ضعف الاستثمار الزراعى بسبب الجفاف والتصحر، مما يؤثر على الأمن الغذائى وضعف التنمية الاقتصادية.

وبالطبع هناك تحديات كالعادة كانت تواجه قمم المناخ مثل صعوبة التخلى عن النفط أو غيره فى الصناعة سواء عاجلا أو آجلا، لكن هناك بعض المرونة فى تحقيق التوازن بين الطاقة المتجددة والغير متجددة، ولا ننسى أن الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب انسحب من قمة المناخ فى 2017، رافضا الاعتراف بوجود مشكلة مناخية.

الجميع يعلم أنّ القيادة الغير رشيدة للقوى الكبرى هى التى تسببّت فى واقع مليء بالأزمات وإفساد الطبيعة الكونية والإنسانية على حد سواء، من صراعات وحروب وتلوث وأوبئة وتغير المناخ وأزمات غذاء وطاقة وغلاء.. وغيرها مما لا يصلح معها سوى التكيف والتعايش واللجوء للحلول البديلة؛ فهذه الأزمات لم تكن وليدة الأمس ويحتاج علاجها لسنوات.. 

لكن جهود الدول الصديقة للبيئة أيضا لم تتوقف، وأولها مصر وفرنسا، حيث تعد مصر فى طليعة الدول التى تلتزم بمبادرات حماية البيئة والتنمية المستدامة والتوجه نحو الطاقة النظيفة، مثل تعزيز الاعتماد على الطاقة الشمسية والرياح والكهرباء والهيدروجين الأخضر، وزيادة مساحة الرقعة الخضراء، بجانب مبادرات لخلق متنفس للجمال مثل "100 مليون شجرة"، والتخلى عن استخدام الأكياس البلاستيكية الملوثة فى المدن الساحلية مثل شرم الشيخ والإسكندرية.. كما تتعهد مصر بإنتاج 42% من طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2035، مما يؤكد جديتها نحول التحول للأخضر.

ورغم التحديات العالمية أيضا؛ فهناك أكثر من سبب يدفعنا للتفائل لإنجاح قمة المناخ هذه المرة، وهو الإقرار بحجم التحدى المناخى واستعداد بعض المؤسسات الصناعية الكبرى للإسهام فى مشروعات الطاقة النظيفة وتأثير المنظمات البيئية الفعّالة والداعلية للسلام تجاه قضية حياة وجودية تجعل الكوكب عرضة للمخاطر بشكل متزايد، وفى ظل توجّه جماعى لإظهار قدر كبير من المسؤولية بجانب كون مصر دولة محايدة تستطيع تحقيق التوازن وتعزز دور السلام العالمى.

وهناك أيضا إدراك ويقين بخطورة قضية المناخ التى طالت الجميع، بما فى ذلك الدول المتقدمة المعرضة لخطر الكوارث الطبيعية والخسائر الاقتصادية.. و أثرت على جودة الحياة فى القارة العجوز الخضراء بسبب ظاهرة "الاحتباس الحرارى" الناتجة عن زيادة الانبعاثات الدفيئة لمستويات عالية وكثافة نسبة ثانى أكسيد الكريون فى الغلاف الجوى وطبقات الجو العليا؛ وارتفاع درجة حرارة الأرض بنحو 1.5 درجة مئوية عن عصر ما قبل الصناعة، وهو ما تسبب فى حدوث ظواهر مناخية متطرفة، مثل الجفاف والتصحر وشدة الأعاصير والفيضانات الكارثية وكثرة الموجات الحارة فى مناطق غير معتادة مثل دول جنوب أوروبا، وفى الصيف الماضى تسببت الموجات الحارة والجفاف فى "فرنسا وإسبانيا والبرتغال" إلى ارتفاع درجات الحرارة لتصل إلى نحو 37 درجة مئوية مثل دول شمال أفريقيا، فضلاً عن حرائق الغابات وخسائر اقتصادية أخرى.

كما يحذّر العلماء من أنّ استمرار تجاهل دول العالم-خاصة الدول الـ20 الكبرى الأكثر تلويثا للبيئة مثل الصين وأمريكا والهند وروسيا- قد يؤدى لمضاعفة نسبة ثانى أكسيد الكربون فى الغلاف الجوى، وزيادة حدة المخاطر والكوارث.

فضلا عن أن الوضع المناخى العالمى يتزايد خطورة عاما بعد عام، فكان متوسط درجة الحرارة العالمية على مدى السنوات الخمس الماضية من أعلى المعدلات المسجلة والأكثر سخونة على الإطلاق، ويتوقع العلماء أنه في السنوات الخمس المقبلة سترتفع درجات الحرارة مؤقتًا لتتجاوز عتبة الارتفاع فوق 1.5 درجة لعصر ما قبل الصناعة.

وهناك مدنا ساحلية عديدة فى مختلف بقاع العالم تواجه كل عام مشاكل فيضانات كارثية بسبب ارتفاع منسوب البحار وأعاصير بسبب دفء مياه المحيطات وذوبان جليد أنهار وجبال القطب الشمالى وتفكّهها بنسب ملحوظة قد تؤدى فى نهاية القرن الحالى إلى سيناريو غرق 10% من المدن الساحلية بالعالم، وأولها نيويويورك الأمريكية، ولندن البريطانية، وسيدنى الأسترالية.

كما واجهت أنهار أوروبية لأول مرة مشكلة الجفاف خلال الصيف الماضى، مثل نهر الراين فى ألمانيا، وانحسار المياه عن أنهار "بو" بإيطاليا و"لورا" الفرنسى و"مينو" البرتغالى، مما ينذر بمستقبل بائس للقارة العجوز، والتى تعرف دائما بأنها "القارة الخضراء" أو جنة أوروبا.

هناك مناطق أخرى فى الشرق الأوسط تعانى من ندرة المياه مثل سوريا والعراق، وأخرى تدخل فى نطاق الخطر المائى مثل مصر، التى تعتمد على نهر النيل بشكل رئيسى فى الشرب والزراعة مقارنة بحجمها السكانى الكبير والاعتماد على المياه فى عملية التنمية المستدامة.

وهناك محاصيل زراعية أخرى تضررت من ارتفاع درجات الحرارة، مما أثّر على انخفاض قيمة المحصول الذى يحتاج لمناخ أكثر برودة، مثل انخفاض كمية إنتاج البن فى البرازيل.

كما يتخوف البعض من مخاطر أخرى محتملة مثل حرب المياه بسبب الجفاف والتصحر أو مشاكل أخرى وأوبئة مرتبطة بزيادة التلوث أو انقراض حيوانات وكائنات ومحاصيل تؤثر على التوازن البيئى.

ومؤخرًا، كشف الأمين العام للأمم المتحدة، بأنّ عدد الكوارث المرتبطة بالمناخ تضاعفت 5 مرات مقارنة بعام 1970، وتضاعفت الخسائر الاقتصادية بسببها 7 مرات.

لذا فإن الإدراك الحقيقى لخطورة قضية المناخ هو الذى يضمن نجاح القمة المرتقبة بمصر، وحصول دول العالم على التزامات دولية ومواجهة أكثر جدية لتلك الأزمة، قد تفرض على الدول الاستخدام الآمن للطاقة النظيفة الخضراء بنسبة متفق عليها، وأن تكون جميع الدول على نفس قدر المسئولية الكبيرة، فلا ينبغى بعد الأن أن يلتزم البعض من جهة ثم يفسد الباقى ما يبنيه الأخرون..

الحل الآن قد يبدو بسيطا وغير مكلف كثيرا؛ وهو التحول الأخضر والتخلى (بشكل تدريجى) عن استخدام الوقود الأحفورى والفحم والنفط والمازوت فى الصناعة، والتحول السريع نحو الطاقة النظيفة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح والكهرباء والغاز الطبيعى، والتوقف عن إزالة الغابات الخضراء التى تكون بمثابة متنفس للعالم، التوسع فى الاستثمار الزراعى ومشاريع تحلية المياه واستخدام التكنولوجيا فى الزراعة لتوفير المياه وزيادة المحصول.