تراجعات الحكومة البريطانية تصل بها أسرع إلى محطة التنحي

شيرين هلال
شيرين هلال

مر قطار الحكومة البريطانية  في رحلته الأخيرة على عدد من المحطات الشائكة بالرغم من قصرالرحلة التي لم تكمل الشهرين. يحاول هذا المقال التعرف على أبرز تلك المحطات من التراجعات في القرارات التي اتخذتها الحكومة البريطانية مؤخرا. مما لا شك فيه أن الحرب الروسية الأوكرانية أثرت على استقرار عدد من الحكومات الأوروبية و أطاحت بالعديد من رؤساء تلك الحكومات ، لكن عدم الإستقرار السياسي والإقتصادي في المملكة المتحدة كانت الأكثر حضورا والأعنف انحدارا .

 قطع وزير الخزانة البريطاني رحلته إلى واشنطن لحضور إجتماع صندوق النقد عائدا إلى لندن والتي كان مفترض أن يعود منها لاحقا. ليتفاجأ الجميع بنشر الوزير كوازي كوراتينج تنحيه عن حقيبته الوزارية على موقع التدوينات الصغيرة "تويتر" قائلا: "طلبتي مني التنحي وأنا وافقت". ومن جانبها عينت رئيسة الحكومة ليز تراس ، جيرمي هانت (وزير الصحة السابق) خلفا لكورتينج ليصبح رابع وزير مالية لبريطانيا هذا العام. جاءت الحكومة البريطانية في السادس من سبتمبر الماضي وسط أجواء غاضبة في الشارع البريطاني. إستهلت أعمالها بالإعلان عن مساعيها نحو تحقيق ثلاثة أهداف: الأول ضبط الأسعار والحد من إرتفاعات تكلفة الطاقة والهدف الثاني يخص تخفيض الضرائب والثالث يخص إستعدال الإقتصاد في خلال الشهر الأول. ولكن ما حدث في الشهر الأول كان بخلاف المعلن فهل تنجي إستقالة وزير الخزانة رقبة الحكومة من مقصلة البريطانيين؟

بدأت الإحتجاجات على الحكومة الحالية لعدة اسباب ولكن اهمها ارتفاع تكلفة المعيشة بسبب اسعار الطاقة المتزايدة. طرحت ليز تراس بعد أيام قليلة من وصولها خطة الطاقة بقيمة 60 مليار جنيه استرليني ، شاملة الأفراد والشركات. واستطاعت تهدئة الأسواق والرأي العام لبرهة ، ولكن سرعان ما عاد الإحتقان للشارع و تحديدا في الثالث والعشرين من سبتمبر عندما أعلن وزير الخزانة عن خطة الحكومة لتخفيض الضرائب أو ما يسمى بالميزانية المصغرة. شملت الخطة تخفيضات ضريبية بقيمة 45 مليار جنيه استرليني ممولة من الدين العام، الأمر الذي فجر فتيل الذعر في وجه الوزير وحكومته. تراجعت على إثر هذا الإعلان قيمة الجنيه الإسترليني وارتدت الأسواق واشتعل التضخم. دفعت تلك الخطوات لتدخل بنك انجلترا على غير العادة بطرح برنامج لشراء السندات  الحكومية طويلة المدى ما بين عشرين إلى ثلاثين عاما،  قيمته 65 مليار جنيه استرليني بعد أن ألقت أزمة الميزانية المصغرة بظلالها على صناديق التقاعد. ساهم هذا البرنامج في تهدئة الأسواق ، لكن الضغط ظل قائما بفعل العديد من التراجعات على شكل ردود أفعال بسبب حرب الغاز.

حرب الغاز التي أشعلها الرئيس الروسي بداية من أوكرانيا على حدود روسيا الإتحادية امتدت إلى كافة دول أوروبا، بما فيها جزيرة المملكة المتحدة التي خرجت عن إتحادها الأوروبي وبقيت تحمل شعلة حلف الناتو بقوة. حرب لا تقوم على إطلاق النيران من فوهات البنادق والمدافع، ولكن على إغلاق محابس مواسير الغاز المتقدة إضاءة للظلام، وتدفئة للبيوت، وتغذية للمصانع، وتأميناُ للغذاء. دفعت احتياجات تأمين الطاقة المملكة للتخلي عن قرارات حظر تراخيص استخراج الغاز الصخري التي كانت قد أقرتها في 2019. وقد لا تتوقف المملكة عن التراجع عن قرارات بل قد يتمد أثر الحرب لدفعها للتخلي عن مبادئ لا طالما حاربت من أجلها وتخلي الحكومة عن كراسيها.

الزيادة المتوقعة في فاتورة الطاقة وضعت الحكومات الأوروبية كافة بين خيارين أحلاهما مر؛ إما النور والدفئ  وإما الغذاء. أزمة ذكرها تقرير لبي بي سي، والذي قَدًر ارتفاع أسعار الطاقة التدريجية بدأ من أكتوبر المقبل، لزيادة قد تصل إلى 80% ووضح التقرير أن الأسرة البريطانية تدفع حاليا فاتورة مقدراها 164 جنيها، في حين سترتفع القيمة في أكتوبر لتصل إلى 300 جنيها لتواصل الزيادة في يناير من عام 2023 إلى 450 جنهيا، متوقعا أن تصل في أبريل إلى 550 جنيها. ولم يذكر التقرير أيه بوادر قد تلوح في الأفق لإنحسار أزمة الطاقة، حتى مع الوعود من الحكومة بضخ حزمة دعم تبلغ 15 مليار جنيه استرليني للأسر.

تسببت توقعات التقرير في ضجة واسعة بعد أن تكبد البريطانيون زيادة في اسعار الطاقة بنسبة 50%  في إبريل الماضي ، الأمر الذي دفع الناس للإحتجاج في الشوارع، مطالبين بتجميد أسعار الطاقة في أغسطس الماضي. إعترض البريطانيون على الزيادة التي قد تصل إلى 130% من ابريل الماضي و حتى أكتوبر المقبل،أي في خلال سبعة أشهر فقط، مع عدم تقديم توقعات مقابلة لوقف قطار زيادة الأسعار السريع والذي يبدو أنه لا يجد محطة للوصول.

ومع بداية الدراسة في المملكة المتحدة، حضرت أزمة الطاقة على طاولة الدروس وفرض شبحها برده القارس داخل الفصول، فأجبرت الجميع على إرتداء معاطف إضافية. وبحسب وكالة الأنباء الفرنسية، الدراسة بدأت بميزانيات للمدارس كان قد تم وضعها قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ، فقد كانت تكلفة تدفئة مدرسة بريطانية تصل إلى 289 ألف يورو سنويا، لكنها اليوم إرتفعت لتصل إلى 1.27 مليون يورو مما يضع مديرين المدارس في مأزق كبير لأن الميزانية المقررة للغاز والكهرباء قبل الحرب لا تتحمل تلك الزيادات ولا توجد بنود يمكن تأجيلها أو إستبدالها منها. حتى مع خطة تخفيض الاستهلاك بنسبة 20 إلى 30% والتشديد على إرتداء ملابس شتوية ثقيلة، وزيادة عدد الطلاب داخل الفصول للتمكن من خفض التدفئة درجتين بالفصل الواحد، التي اوصت بتعميمها وزارة التعليم ، تظل تلك الإجراءات هزيلة مقارنة بـأزمة إرتفاع اسعار الطاقة. كما ربطت بعض التقارير باحتمالية إلغاء الزيادة المرتقبة بنسبة 5% على رواتب المعلمين لتعالج التضخم الذي وصل إلى 10%، بحجة الحاجة إلى التقشف الحكومي في الانفاق. توقع المحللون أن تلك الحاجة للتقشف بسبب ارتفاع اسعار الطاقة الجنوني قد يكون سببا مباشرا في تدني مستوي التعليم في المملكة.

ولنشهد في 22 سبتمبر الماضي كسرا من بريطانيا لتعهداتها في قمم المناخ ، حيث أعادت فتح تراخيص التنقيب عن الغاز الصخري الذي كانت قد منعته في عام 2019 ، بعد ضغط نشطاء البيئة وأزمات الزلازل التي كان يسببها هذا النوع من استخراج الطاقة. حتى وإن صرحت الحكومة بأنه إلغاءا مؤقتا وستتبع نتائج المسح الجيولوجي وخاصة الدراسات التي ترصد انعكاسات هذا الأمر على البيئة وقال البيان أيضا بأن هناك تكنولوجيا الأن ممكن أن  تتيح خفض الإنبعاثات الناجمة عن عملية التكسير الهيدروليكي إلى أقل مستويات ممكنة. واستندت الحكومة على ما تتبعه الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وقالت بأن هناك زلازل بقوة 3 ريختر تحدث بنسبة 1% فقط خلال عمليات التكسير وبالتالي هم يستندون على هذه النتائج واعتبروا ان هذا الأمر ليس نهائيا ولكن يتوقف على موافقة سكان تلك المناطق .

اوروبا اليوم تقول: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة  "الطاقة". فالميجاوات في الساعة كان يكلف 37 دولارا قبل الحرب أصبحت تكلفته 489 دولار. تعني تلك الأرقام بحسب الدكتور حسني الخولي الخبير الإقتصادي ضرورة تنويع مصادر الطاقة مهما كلفها الأمر. المواطن يضغط على حكومته للتدخل فالتالي لا صوت يعلو فوق صوت الطاقة، بشكل أصبح جليا أن البلد التي تستطيع أن تحصل على الطاقة هى بلد مستقر ومن لم يستطع فهوبالتبعية بلد معرض لعدم استقرار سياسي واقتصادي هائل. واذا تركنا الاحصائيات ، فسنجد أن الشارع الأوروبي يتحرك مدفوعا بزيادات في أسعار الطاقة تفوق نسب الألف في المئة. يصبح من المقبول لدى الحكومات أن تقبل بمزيج من الطاقة داخل سلتها ولو على حساب الحياد الصفري في قضايا المناخ. لا يوجد مخرج من هذا المأزق إلا بتخفيف العقوبات على روسيا في مقابل الحصول على الغاز أو التضحية بمصداقية الوعود البريطانية امام المجتمع العالمي.

تبشر درجة الحرارة في أوروبا، بذهابها لصالح الموقف الروسي الذي تتحداه بريطانيا. فالدول الكبيرة التي لوثت البيئة كانت هي الدول الغربية، ولم تفي بالكثير من وعودها و على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، مبرهنين على عدم جديتهم حيال تلك القضايا وكانت بريطانيا أحد أكبر الداعمين لقضايا المناخ والبيئة على عكس الكثيرين. وظهر احكام العقل في موضوعات البيئة بعد جفاف للأنهار وحرائق للغابات وتوسونامي وأجبر العالم على  اتخاذ موضوعات البيئة بأكثر جدية وتنفيذ الوعود التي سبقت كوب 27 والعودة إلى الحياد الصفري وتقليل النفط الأحفوري وتكثيف استخدامات الطاقة النظيفة والمتجددة. تجعل تلك الأمور بريطانيا مجبرة على تقدييم مزيدا من التراجعات.

تتصدر بريطانيا الدول المأزومة هذا الشتاء بسبب أزمة الطاقة نظرا لأن الغاز الروسي يسهم بـ43% من مزيج الطاقة و يشكل نسبة 40% من إنتاج الكهرباء، أما الطامة الكبرى بالنسبة لبريطانيا فتكمن في أن الغاز يحتل نصيب الأسد من التدفئة بحيث تعتمد عليه في التدفئة بنسبة لا تقل عن 80%

من أين يأتي الغاز إلى بريطانيا؟

تمد حقول بحر الشمال إحتيجات بريطانيا بـ 42% من احتياجاتها محليا لكن توقفت تلك الإمدادات في العام الماضي بسبب اعمال الصيانة والحصة الباقية من احتياجاتها بحسب أرقام الحكومة البريطانية المعلنة فتأتي من خط أنابيب النرويج بنسبة 63% ويأتي غاز مسال من هولندا وبلجيكا بنسبة 8%، وقطر والولايات المتحدة وروسيا مجتمعين بنسبة 29%. وهى بتلك النسب ثالث أكبر مستورد للغاز في أوروبا بعد إسبانيا وفرنسا، ولا تملك قدرات تخزين كبيرة ولذلك تتجه إلى شراء الغاز من الأسواق الفورية، التي بدورها تشهد منافسة قوية من أوروبا وأسيا، وسط إرتفاع قياسي للأسعار، مما يفسر أسباب إرتفاع اسعار الطاقة والكهرباء عموما في بريطانيا.

كما تعد تكاليف عدم الحصول على الغاز باهظة وتمس جميع المواطنين في بريطانيا و تداعيتها قد تُسقط الكثيرين من السكان في الفقر الطاقي ، حيث تتوقع شركات الطاقة إنعدام قدرة ما يقرب من 40% من الأسر عند رفع سقف الأسعار في أكتوبر كما أعلنت الحكومة. ولا تشكل أزمة الطاقة تهديدا فقط على الكهرباء ولكن من المتوقع أن تكون لها أبعاد أكثر خطورة على التدفئة والغذاء؛ فهيئة الخدمات الصحية تحذر من أن العديد من البريطانيين سيتعين عليهم  الاختيار بين دفع ثمن الطعام او دفع ثمن تدفئة منازلهم. مما يجعل بريطانيا تقف على خط المواجهة نفسه مع أوروبا حتى بعد إنفصالها عنها بالبركسيت في مواجهة تداعيات أزمة الطاقة بعد الحرب الأوكرانية. وهو ما يفسر ترحيب وزير المالية البريطاني ناظم الزهاوي بقرار نظرائه في مجموعة الدول السبع بوضع خطة لتحديد سقف سعر الغاز.

احتجاجات البريطانيين ضد ارتفاع تكاليف المعيشة صاحبها رفض قاطع لخطة الحكومة الهادفة لتخفيض ضريبة الدخل على الأثرياء ، وإضطرت للتراجع عن قرارها تاركة الأسواق في حالة من الفوضى بسبب ذلك التراجع. لم يكن تراجع الحكومة هو التراجع الوحيد التي شهدته لندن، لكن تراجع الجنيه الإسترليني تحت وطأة الدولار بنسبة قاربت الـ 20%  والتي وصفته صحيفة الجارديان بـ "المهين"، له أثرا كبيرا على حركة الأسواق البريطانية وتسبب في إرتفاع تكلفة المعيشة. واجبرت التراجعات اعتراف الحكومة البريطانية؛ بأن خططها قد تسببت في الإضطرابات على حد قول وزير المالية. كشفت تلك التراجعات عن ضغوط كبيرة تمر بها الحكومة البريطانية قد تعصف بها في المهد ،ودعم ذلك الزعم أن إستطلاعات الرأي التي كانت قد أظهر رفض 55% لأداء الحكومة الجديدة.

توافق الكثير من المحللين على أن معاناة الإقتصاد البريطاني أكبر بكثير من الوقوف عند محطة تراجعات الحكومة وقرارتها المتخبطة، فالإقتصاد البريطاني يتعرض لتضخم غير مسبوق منذ أكثر من 40 عاما، ووصول الجنيه الإسترليني للقاع للمرة الأولى في تاريخ التاج البريطاني. ارتفاع اسعار الطاقة بهذا النمط السريع ، أخذ البلاد إلى حقبة الثمانينات حيث كانت تقود نقابات العمال الإضرابات كل البلاد وهي نفس الأجواء التي تشهدها البلاد الأن والتي من شأنها أن تجبر أي رئيس وزراء إلى الإستماع واتباع سياسية "اليوتيرن" كما لقبتها الصحافة البريطانية. ولذلك فإن رئيسة الوزراء ليز تراس اختارت أن تطرح ميزانية قصيرة الأجل، لكي تحل مشكلة ارتفاع اسعار الطاقة والمواد الأولية، كما أنها خفضت الضرائب على الموظفين ومحدودي الدخل.

 دفعت تلك القرارات وكالة التصنيف الإتماني ستاندرد أند بورز إلى تخفيض نظرتها المستقبلية للديون السيادية البريطانية من "مستقرة" إلى "سلبية آيي آيي"، الأمر الذي قد يؤدي هو الأخر إلى إرتفاع تكلفة الديون. كما تسبب القرار في تعرض بريطانيا لبيان شديد اللهجة من صندوق النقد الدولي بشكل علني، لأول مرة في سجل تاريخ تعاملاتها النقدية، إنتقد فيه الصندوق خطة خفض الضرائب وطالبها بالتراجع عنها كما أوصى قائلا "فإننا لا نوصي بحزم مالية كبيرة وغير موجهة في هذه المرحلة.. لأنه من الضروري ألا تعمل السياسة المالية لأغراض تتعارض مع السياسة النقدية" وبرغم اقرار الصندوق بتفهم اهداف خفض الضرائب وتصورها أنها تقوم بدفع عجلة النمو الإقتصادي ولكن من شأنها أن تسرع أيضا من إنفجارالأسعار، التي يكافح البنك المركزي البريطاني من أجل خفضها. وأضاف الصندوق أخيرا في بيانه أن تلك القرارات من شأنها الوصول بالبلاد إلى مزيدا من التضخم وإنعدام العدالة.

حجم الخط

ليست المعارضة وحدها التي تتهم ليز تراس ووزيرخزانتها بالتسبب في انهيار الجنيه الإسترليني وتراجع الإستثمار ، لكن حزب الحكومة؛ حزب المحافظين يحملهم المسؤولية وبضغط من داخل الحزب أيضا. قد تؤدي حسابات التحالفات داخل الحزب المقسم حاليا، بالإقتصاد إلى مزيدا من التذبذب . رئيسة الحكومة ترى أنه من الضرورة إعطاء الضمانات للمستثمرين عن طريق خفض الضرائب، بينما التيار الأخر من حزب المحافظين يرى أنه لا يوجد مفر من فرض الضرائب لكي تتوفر موارد مالية إضافية للحكومة ، تعطي طمأنة لصندوق النقد الدولي لمساعدتها في أزمة الديون، خصوصا وأنها تنتهج سياسة الإقتراض بعنف غير مسبوق. تنوي الحكومة إقتراض 100 مليار جنيه استرليني سنويا مما يصعب الأمور على مدى قصير جدا. فخلال السنتين المقبلتين يتوقع أن يرتفع الدين الحكومي إلى 500 مليار جنيه إسترليني.  ولا يريد حزب المحافظين أن تتسع جعبة مشاكله أكثر مما هو فيه من انقسامات داخليه وتوليه الحكومة في مرحلة إقتصادية صعبة تجعله مشاركا في دفع فاتورتها من رصيده السياسي.

وتعود ليز تراس ووزير خزانتها الجديد بتراجع إضافي، وهذه المرة يتراجعان عن الخطة التي لم تنفذ ولكنها استطاعت إضعاف الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوياته. وصرحت تراس للصحافة بأن الخطط ذهبت أبعد وأسرع مما كانت تتوقعه الأسواق ولقد استمعت وفهمت. لا يمكننا تمهيد الطريق لإقتصاد منخفض الضرائب وعالي النمو ووعدت بأن جيرمي هانت سيضع خطة لتخفيض الدين العام على المستوى المتوسط". لكن هانت الذي يحسب على معارضي تراس داخل الحزب، في أولى تصريحاته للإعلام لم يُظهر أي ملمح من التفاؤل أو التعاون بحيث قال: "إن تراس وكوارتينج ارتكبا أخطاء وسيكون علينا اتخاذ مزيدا من القرارات الصعبة" . ويأتي هذا التراجع متزامنا مع تقرير صادر عن هيئة الرقابة المالية المستقلة في بريطانيا نقلته صحيفة صنداي تايمز؛ يتوقع بأنه قد تحدث فجوة بقيمة 72 ميار جنيه استرليني  في المالية العامة للدولة بحلول عام 2027-2028، مما يجعل توقعات الهيئة الرقابية للإقتصاد البريطاني أسوء مما توقعه الإقتصاديون.

تبخرت وعود ليز تراس كاملة وانطلق صفير رياح التغيير يطن في الأذن البريطانية  كما يعبء سماء عاصمة الضباب بغيوم من توقعات السقوط المدوي مع وصول قطار ليز تراس  وحكومتها إلى محطته الأخيرة. في أقل من شهرين استطاعت هذه الحكومة أن تحقق أعلى معدل تراجعات في تاريخ القرارات الحكومية، وأعلى نسب هبوط للجنيه الإسترليني، وأسرع تآكل للشعبية، وأكبر ارتعاشات في ردود الفعل الرسمية في الشوارع الغاضبة. وفتحت باب القفز من القطار وزيرة داخليتها  سويلا برفرمان كما ساهم تصويت البرلمان العارم ضد قرارات منح تراخيص الغاز الصخري في سحب كل احتياطي الغاز الذي كان يغذي قطار تراس لقيادة الحكومة.

                                                                  

حكومة حزب المحافظين الذي يتمتع بأغلبية البرلمان لا يحتاج إلى الدعوة لإجراء انتخابات عامة قبل عاميين من الأن وسيقوم بانتخاب رئيس وزراء جديد بحلول 28 اكتوبر الجاري. وسيتجنب الحزب انتخابات جديدة بسبب تقدم حزب العمال في استطلاعات الرأي بشكل ملحوظ، وبذلك تكون الإنتخابات المبكرة بمثابة تسليما للعماليين، إلا إذا نجح المحافظون على تقديم خليفة للتراس يستطيع قيادة الأزمة. تتركنا استقالة ليز تراس بعد 44 يوما فقط مع مشهد يصور حجم الإضراب السياسي التي تشهده بريطانيا منذ خروجها من الإتحاد الأوروبي في  2016 . ونرى قبل أن تتم رئيسة الوزراي المستقبلة كان الطنين عن خلفها بالمنصب قد بدأ وانطلقت بعد ظهر الخميس في بريطانيا معركة خلافة ليز تراس في زعامة حزب المحافظين ورئاسة الوزراء ، وتوقع الكثيرون إسم بوريس جونسون رئيس الوزراء السابق وعدد من الوزراء السابقون مثل وزيرة الدفاع السابقة بيني موردونت ، ووزير المالية السابق ريشي سوناك الذي خسر امام ليز تراس في الإنتخابات، كما طرح اسم وزيرة الداخلية المستقيلة في وزارة تراس، سويلا برلفرمان. وبحسب الحزب لن يسمح إلا بترشح ثلاثة أسماء فقط من كل الأسماء المطروحة يحتاج كلُ منهم إلى ترشيح من 100 عضو برلماني.  ومع كل تلك التحركات السريعة تشير استطلاعات الرأي وتصريحات المحللين بإستمرار حالة عدم الثقة في المستقبل القريب لأي سياسي لا يقدم حلولا تساهم في خفض الأسعار وحلا جذريا لأزمة الطاقة التي من المستحيل حلها في الظروف الراهنة ولا توقع سقف لزيادتها او وضع خطة زمنية لذلك خصوصا مع مشاركة بريطانيا القوية في الحرب الدائرة في أوكرانيا ضد الروس. لكن المؤكد الأن، أن جزيرة المملكة المتحدة ستشهد اضطرابا سياسيا واقتصاديا مشمولا بشتاء شديد القسوة يتطلب من القادم الخروج من عباءات الماضي وتراجع أخيرمهم قد يوقف قطار الإنهيار.