هبة سلامة تكتب : «اذكريني».. وسواس الروح 

هبة سلامة
هبة سلامة

غفا الجميع إلى مضجعه.. الأفكار والهواجس تستغل فرصتها وتنفرد بضعفي وتسكن عقلي، متكاسلة مررت صوب غرفتي، ألقي بجسد مثقل بهموم الروح على أقرب كرسي، حتى يرضى عني مضجعي ويصفح عني، وفي رحلة انتظار الرضا، وعلى طاولتي الصغيرة، يسامرني فنجان قهوتي المعتاد بعد منتصف الليل، يقاسمني أحلامي بدلا من مضجعي، الذي خاصم جسدي..
أستعين بالتفكير في كل شيء يحيط بي، محاولة طرد وسواس الروح الذي لا يمل من السيطرة على الهدوء الذي أنشده لروحي، لكن هيهات.. ينتصر في كل مرة انفرد بي وحيدة في غرفتي، وتبدأ عذابات النفس المشتتة، تؤجج نار الصراع بداخلي، والتي لا تهدأ إلا بدمعات ساخنة تصنع أخاديدًا على وجهي..
أعود بسرعة من رحلة الشتات الداخلي، وبمجرد أن لمحته عيناي، شاخصًا أمامي، بصري منجذبًا نحوه بشدة، متأملة كل تفاصيله ولمحاته، دون أن يرف جفني لمرة، حتى لا أضيع من الوقت البسيط المتاح لي معه لحظة واحدة، يخفت من جديد ويتلاشى من أمامي لكنه يسكن داخلي، تعودت على زياراته الخاطفة ليروي ما بداخلي من عطش نحوه..
صوت أثير يأتيني، بمشهد من فيلم اذكريني، لـ «منى».. تلك الفتاة الرقيقة الحالمة، كزهرة برية، تتنازع الفراشات على صُحبتها، تلجأ إلى عمها كي تعيش معه بعد وفاة والديها، وتقع منى في حب الكاتب الكبير والمشهور محمود حسين، وهو بدوره يبادلها نفس المشاعر، لكن ما يعيق قصتهما زواجه من ليلى التي تعاني من مرض ألزمها الفراش، فتتزوج منى بدورها من رجل آخر وتنجب منه، لكن كل شيء يتغير بعد أن تقع حادثة ويموت حبيبها محمود..
لم يكن مجرد عمل فني أتابعه بشغف واهتمام شديدين، بل كان حالة، حالة انتابتني لدرجة توطدت بها علاقتي به فأصبحت دون أن أشعر مشدوهة نحوه باندفاع جنوني، كم من المشاعر والأحاسيس التي تتدفق إلى قلبي كلما شاهدت هذا الفيلم، ربما لأنه قريب من قلبي أو لأنه أنا!!
لم أكن أدرك وأنا أتابع هذا العمل وأخبئ له داخلي كل هذه الخلجات أنني سوف أتوحد معه، وهل من الممكن أن يتوحد إنسان بعمل فني؟! أم أنه توحد بالحالة ؟! 
لم تكن مجرد رواية برع أبطالها في تجسيد أدوار أصحابها، بل كانت حكايتي أنا.
مرات ومرات.. تابعت هذه المشاهد، وفي كل مرة يكتوي قلبي وتنعصر روحي ويجثم على صدري، ليغلق علي نوافذ العالم حتى أظن بأنها تلاشت، وأنه لا يوجد في هذا الكون إلا أنا وروايتي «اذكريني».
نعم إنها تلك الحالة التي تغازل نفسي، وتثير النزاعات داخل روحي، وتترك بقايا الحزن الممزوج بالحنين على قلبي، أحببت هذه المشاهد، ووقعت في عشقها لدرجة جعلتني أتوحد بها، وأهرب من الدنيا لأختبئ بين ثناياها، أو أتطلع أن تكون هى قصتي، بداية وعقدة ونهاية، لكى أطلع على ما خبئه الزمن لي فيما هو آت، أصبحت كل لحظة في روايتي بمقدار عمر من عمري، لا أبحث عنها، ولا أفتش عنها حتي ألتقي بها، بل ربما كان على العكس.. أهرب منها حتى لا نلتقي، رغم أن كل حركاتها وسكناتها محفورة بداخلي، فعندما ألتقيها وتذهب يدي في كل مرة لأبعدها عني لا تطاوعني نفسي، ولا أجرؤ لأفعل..
ففي كل مرة يدفعني للابتعاد ما توشمه روايتي على روحي من أنين، ولكن يجبرني الحنين للانغماس في معارك نفسي للالتحام بها من جديد، لأذوب في تفاصيلها واتحادي ببطلتها، تلك الفتاة التعيسة التي أصدر القدر حكمه النهائي عليها أن تكون تعيسة، تنشد الحب لكنها لا تقابله أبدا، تعيش بجسد منهك منزوع الروح، يزدحم كونها بالأشخاص لكنهم جميعًا غرباء..
ماذا تنتظر؟ أو بالأحرى ماذا أنتظر؟!
لم أكن أنتظر رحمة من قدري، الذي لم يعد يملك أن يهديني إلي توبة عن حبي، أو يمنحني عتقا من آلامي، أو يعطيني مكافأة نهاية خدمتي في موجات حنيني التي أحسبها بعدد أيامي، لم أكن لأجد مهما حاولت ملجأ من الأطلال التي تحاصرني، وكأنها قررت أن تقيم سجنًا على روحي لتظل هائمة به حتى آخر العمر..
أناشد مضجعي العفو والسماح، وأن يشاركني أحلامي مقابل أن يتيح لي النوم بعد الهروب لجسد منهك من التفكير، وروح معذبة من آلام الهجر والشوق، أتحايل عليه وألقي بجسدي على أطرافه، وكأني أغازله باحتوائي، ليطمع في ما بقي من أحلام يمكن أن أعيشها بين أحضانه..
تغمض عيناي لكن لا تغمض روحي وتظل عالقة مع رواية عمري..
أما أنت يا توأمي وظلي ونفسي ستظل ملامحك محفورة بداخلي حتى آخر أنفاسي.. لتظل كلمات روايتي تعكس ظلا من مرآة أيامي معك، "وأنت يا منية النفس الدائمة الخالدة، يا توأم الروح في كل زمان ومكان، مهما نأيت ومهما هجرت.. فاذكرني..".