فيفان دينون يكتب | بلا غد

فيفان دينون يكتب | بلا غد
فيفان دينون يكتب | بلا غد

«الحرف يَقْتُل، أما الروح فَتُحيى» الرسالة الثانية إلى أهل كونثوس 

عشقتُ الكونتيسة «دى...» إلى حد فقدان الوعى. كان عمرى عشرين عاما، ولم أكن خبيرا، فخدعتنى. أثَرتُ مشهدا عنيفا، فتركتنى. لم أكن خبيرا وندمتُ على ذلك، ولكن كان عمرى عشريـن، فصفحتْ عنى. ولأن عمرى كان عشرين.

ولا أملك الخبرة: فقد خُدِعْتُ كسابق عهدى، ولكننى لم أُهْجَر. واعتبرتُ نفسى عشيقا سعيدا. وبالتالى أسعد الناس. كانت صديقة لمدام «دى ت...» التى كانت، بكل الشواهد، قد علَّقَتْ بعض الآمال على شخصى، ولكن بما لا يمس كرامتها. وكمـا سنرى، فمدام «دى ت...» كان لديها مفاهيم حازمة عن اللياقة والاحتشام تلتزم بها فى دقة متناهية.


ذات مرة كنتُ أنتظر الكونتيسة فى مقصورتها، وإذا بى أسمع فجأة من المقصورة المجاورة، أحدا ينادينى. هل من المعقول أن تكون الفاضلة مدام «دى ت...»؟
ما هذا! أهو أنتم، هكذا مبكرا؟ ألا تدرون ماذا تفعلون؟ إذاً، تعالوا هنا، لعندى.


لم أتصور، أو حتى أُخَمِّن أى مغامرات عاطفية وغير عادية يحمل لى هذا اللقاء. عقل المرأة سريع ومبتدع وذو دهاء. وفى هذا المساء هبط على مدام «دى ت...» وحىٌ خاص. وسمعتها تقول:
لا يمكننى أن أسمح لكم بإثارة سخرية الناس ببقائكم هكذا وحدكم فى مقصورتكم. وبما أنكم قد أصبحتم بالفعل هنا، فمن الضرورى... فكرة رائعة! الرب وحده هو الذى أرسلكم لى. هل لديكم مشاريع لهذا المساء؟ لن تتحقق، هكذا عليكم أن تعرفوا. بدون أى أسئلة، وبدون أى اعتراضات، استدعوا خادمى. أنتم فى غاية الرقة!.


انحنيتُ مُحييا ومُلبيا. يطلبون منى عدم الإبطاء، وأنا أمتثل.
قالت السيدة للخادم الذى ظهر:
اذهبوا إلى بيت هذا السيد، وأبلغوا بأنه لن يأتى الليلة للمبيت...
بعد ذلك تهمس فى أذنه بشىء ما ثم تصرفه. أحاول أن أقول كلمة، ولكن الأوبرا تبدأ وتطلب منى عدم التشويش: تسمع أم تتصنع هيئة وكأنها تسمع! وبمجرد انتهاء الفصل الأول يظهر نفس ذلك الخادم ويسلم مدام «دى ت...» ورقة وهو يقول بأن كل شىء جاهز.

فتبتسم وتتأبط ذراعى، ثم تقودنى إلى أسفل وتدعونى إلى الركوب فى مركبتها. أما أنا، فلم أكد أعود إلى وعيى حتى وجدتُ نفسى خارج المدينة دون أن أدرى إلى أين تنقلنى ولماذا.
الإجابة عن جميع محاولاتى بتوجيه أى سؤال كانت بالضحك.


لنفترض أننى لا أعرف أنها ذات طبيعة عميقة وَلِعة وملتهبة، وأن قلبها فى هذه اللحظة مشغول، إلا أنه لا يمكنها ألا تكون على علم بأن هناك من أخبرنى بذلك. وبالتالى، فمن الممكن أن يظهر لدىّ وسواس بأن كل هذا هو بداية مغامرة عاطفية.

هى أيضا كانت على علم بجميع أحوالى العاطفية، لأنها كما قلتُ كانتْ على علاقة صداقة وطيدة بالكونتيسة. ولذلك قررتُ فى حزم ألا أعلل نفسى بآمال باطلة، وأن أنتظر تطور الأحداث.

وبعد أن بدَّلنا الأحصنة راحت تمرق إلى الأمام بسرعة السهم. هنا بدا لى أن الأمور قد ذهبت بنا إلى حد بعيد. سألتُ، بشكل أكثر إصرارا هذه المرة، إلى أين تقودنا مزحتها؟
إلى مكان رائع، احزروا إلى أين... أوه، أراهن أنكم لن تحزروا... إلى زوجى. هـل تعرفونه؟


لا أعرفه إطلاقا.
أعتقد أن ذلك سيسركم: يحاولون مصالحتنا. أصدقاء الأسرة يجرون مباحثات طوال نصـف عام، وقريبا سيتم شهر ونحن نراسل بعضنا البعض. ولذا فقد قررتُ أنه، ربما، سيكون من اللباقة من ناحيتى أن أقوم بزيارته. 


من ناحيتكم- نعم. ولكن قولوا لى من فضلكم، ما شأنى أنا هنا؟ أى فائدة منى؟ 
سأحكم أنا بنفسى على ذلك. إننى أخشى اللقاءات المثيرة للانقباض والألم بمفردى، وأنتم متحدِّث لطيف. أنا سعيدة جدا بأنكم ستذهبون معى. 


يدهشنى أنكم تنوون تقديمى فى نفس يوم مصالحتكم. أنتم تجعلوننى أظن وكأن شخصيتى لا تستحق إطلاقا أى اعتبار، إضافة إلى أن ذلك سيكون، ولابد، أمر غير لائق فى أول لقاء... لا. وفى الحقيقة، فأنا لا أرى فيما تفكرون فيه أى شىء سار لأى من ثلاثتنا.


أوه، لا حاجة إلى الأخلاقيات، أتوسَّل إليكم! إننى فى الحقيقة لم آخذكم معى لهذا الغرض. والأحرى بكم أن تسلونى بدلا من أن تقرأوا علىَّ مواعظ أخلاقية. 


كانت فى غاية الحزم لدرجة أننى استسلمت. وأخذتُ أسخر من دورى فى مزحتها هذه، ورحنا نلهو ونتسلى.


بدَّلنا الأحصنة مرة أخرى. أضاء القمر السماء الصافية، وراح فى غموض وسرية يريق من حولنا غبشته المثيرة. أخذنا نقترب من المكان الذى يجب أن تنتهى فيه خلوتنا. كانت تدعونى بين الحين والآخر لإبداء إعجابى وافتتانى بالمنظر الجميل، وسكون الليل.

وهدوء الطبيعة الرقيق. ومن أجل أن نستغرق معا فى النظر والتأمل، كان من الطبيعى أن نميل نحو نفس النافذة، فكانت وجوهنا تتلامس من جراء الركض السريع والاهتزازات. وفجأة اهتزت المركبة واندفعت إلى أعلى، ومن أثر المفاجأة أمسكتْ بيدى.

وإذا بى وبشكل عَرَضى تماما أحتضنها. لم أعد أعرف إلى أى شىء بالضبط كنا نحاول فى هذا الوضع أن ننظر. كل ما أعرفه أن كل شىء قد انصهر أمام عينىَّ، وأصبح غامضا ومبهما. فى تلك اللحظة شعرتُ بدفعة حادة، فى حين ابتعدت رفيقتى إلى عمق المركبة.


هل كنتم - قيل لى ذلك بعد تفكير طويل- تنوون إقناعى بعدم حصافة سلوكى؟


أصابنى الارتباك.
إن محاولة حتى التفكير فى حياكة أى شىء... بخصوصكم... أمر فى غاية السخافة! لأنه بإمكانكم كشف كل نواياى. ولكن ما حدث الآن كان عفويا، مجرد نزوة لا إرادية... فهل هذا لا يغفر لى أو يصفح عنى؟


إذاً فأنتم تأملون فى هذا، أليس كذلك؟
خلال هذا الحوار لاحظنا كيف دخلنا إلى ساحة القصر. كان كل شىء مضاء بحدة وسطوع. وكان كل شىء ينطق بالفرحة ماعدا وجه صاحب البيت الذى لم يستطع إطلاقا التعبير عن أمارات الفرح. واستنادا إلى المظهر الكئيب لهذا السيد، يتضح أنهم أرغموه على المصالحة.

وفقط، من أجل مصالح العائلة. بيد أن آداب اللياقة لا أكثر هى التى أرغمته على الاقتراب من باب المركبة، والشروع فى التعارف. فمد يده إلىَّ. ورداً على ذلك، فعلتُ نفس الشىء، وأنا أفكِّر، فى أى شىء يكمن دورى بالضبط- دورى منذ قليل.

والآن، وفيما بعد. أخذوا يقودوننى عَبْرَ الصالات حيث الأناقة والجمال تتبارى مع الفخامة والجلال لتشهد كلها على ذوق صاحب البيت فى علاقته بالبهاء والأبهة والأناقة. أخذ يُظهِر فى تصميم ومثابرة حذاقة أنيقة ولبقة ساعيا، على ما يبدو، إلى إحياء القوى البدنية الجاسية على نحو شبق وشهوانى.

وعندما لم أجد ما أقوله، رحتُ أنقذ نفسى بعبارات الإعجاب والانبهار. فالإلهة تعرض فى مهابة واحتفالية معبدها، وتود أن تسمع عبارات الثناء والمديح التى تستحقها.
أنتم لم تروا شيئا بعد، يجب الذهاب بكم إلى أجنحة زوجى الفاخرة.


سيدتى، لم تعد موجودة. لقد أمرتُ بإزالتها منذ خمس سنوات مضت. 
فصاحت بصوت عالٍ:آه، معقول!.


وأثناء تناول العشاء، أخذت تدعو فى اهتمام بأن يضعوا له لحم العجل، ولكنه قال: 
- لقد أصبحتُ أعيش منذ سنوات طويلة على منتجات الألبان، يا سيدتى.
فكررتْ: آه، معقول! .
سأترك لكم تَخَيُّل حديث يدور بين ثلاثة أشخاص فى غاية الدهشة والذهول، حيث وجدوا أنفسهم يجلسون فجأة، وبالصدفة، حول مائدة واحدة!


وأخيرا، تناولنا طعام العشاء. ظننتُ أننا سنذهب على الفور إلى النوم. ولكن الصواب لم يجانبنى فقط بخصوص الزوج الذى قال:
- أنا ممنون لكم بشدة، يا سيدتى، على بُعْدِ نظركم وحصافتكم الشديدة فى إحضار ضيفنا إلـى هنا- ثم التفتَ نحوى، وأضاف فى سخرية: 
- أأمل، يا سيدى، أن تسامحونى وتأخذوا على عاتقكم التكفير عن ذنبى فى حق السيدة.وانصرف.


تبادلنا النظرات، ومن أجل التخلص من الانطباع غير المريح، دعتنى مدام «دى ت...» إلى التنزه قليلا فى الحديقة ريثما يتناول الخدم عشاءهم. كان الليل فاتنا، شفافا: لم يخف الأشياء المحيطة عن العين.

وإنما نشر عليها ستاره كى يمنح بعد ذلك فضاء للخيال. البساتين، مثل القصر، تمتد على تل وتهبط فى سلسلة من المنحدرات نحو نهر السين الذى راح يجرى من الأسفل مُكَوِّناً ثنايا ومنعطفات كثيرة، وجزر جميلة مليئة بالغابات والأحراش الباهرة منحت تلك الزاوية المدهشة منظرا متنوعا وأضفت عليه روعة وبهاء. 


فى البداية رحنا نتجوَّل على أطول منحدر من هذه المنحدرات تحت ظلال الأشجار الكثيفة. تمالكنا أنفسنا وهدَّأنا من روعنا بعد تلك السخرية التى تعرَّضنا لها منذ قليل.

وأخذتْ هى تكاشفنى بثقة واطمئنان ببعض أسرارها. والمصارحة تدعو إلى المصارحة المتبادَلَة، ومن ثم فتحتُ صدرى لها ببعض الأشياء. ورويداً رويدا أصبحت مصارحاتنا أكثر حميمية وخصوصية، وأكثر متعة وجاذبية. تجوَّلنا أكثر مـن اللازم. فى البداية سارت معتمدة على ذراعى.

وبعد ذلك- لا أدرى كيف حدث هذا- التفَّتْ ذراعها من حولى. أما أنا فلم أعد أسندها، وإنما كنتُ تقريبا أحملها. كان ذلك لذيذا وممتعا، ولكنه كان يتطلَّب توتيرا ما للقوى، وكلما تقدَّمنا، زادت الأمور أكثر.

وأصبحنا فى حاجة ملحة بعد إلى قول الكثير لبعضنا البعض. وفى الطريق صادفنا مقعدا، فجلسنا دون أن نغيِّر الأوضاع. وعلى هذا النحو أخذنا، بأيدينا المتشابكة، نُبَجِّل ونُمَجِّد بكل ألفة ووئام حلاوة الثقة بين الأصدقاء. وقالت:


آه... مَنْ يستطيع أن يستمتع بها بأقل الهواجس والمخاوف غيرنا نحن وأنتم؟ إننى أعرف جيدا كيف تحرصون على رضاء الشخص الذى أعرفه حتى أنكم لا تسمحون لأفكاركم بأقل القليل من عدم الحشمة أو مجانبة الحياء.


لعلها كانت ترغب فى أن أرفض كلماتها أو أعترض عليها، ولكننى لم أفعل ذلك. وأخذنا نؤكد لبعضنا البعض أنه من غير الممكن أن تحدث بيننا علاقة أخرى غير تلك الموجودة الآن.
أما أنا، وأعترف، فقد خشيتُ أن يكون عدم التقصُّد المفاجئ الذى حدث فى الطريق قـد أفزعكم.


أوه، أنا لستُ إلى هذا الحد خوَّافة. 
ومع ذلك يقلقنى أن أكون قد ضايقتكم. أنا نفسى لا أتمنى ذلك.
ماذا يمكننى أن أفعل حتى تطمئنوا وتهدأوا.


ألا تحزرون؟
كنتُ أتمنى لو قلتم أنتم. 

أود أن أثق تماما بأنه قد تم الصفح عنى.


وماذا أفعل من أجل ذلك؟
يجب أن تهدوننى تلك القُبْلَة التى بالصدفة المحضة.


أنا على أتم استعداد، لأننى لو رفضتُ ستفخرون بأنفسكم، وسيصيبكم الغرور، وستتصورون أننى خائفة منكم. 
ولكى لا أغرق فى الغرور، حصلتُ على قبلة. 


هناك تلك القُبَل التى تُقرِّب المكاشفات بين الأصدقاء وتجعلها أليفة وحميمية: إنها تجر وراءها القُبَل الجوابية المتعجِّلَة، التى تصبح ملتهبة ومشبوبة. وفى الحقيقة، فبمجرد أن أُهديَتْ القُبْلَة الأولى حتى تلتها الثانية، ثم الثالثة: تسارعت واحدة تلو الأخرى قاطعة أوصال الحديث.

ومُغَيِّرة إياه تماما حتى إنها كانت تسمح لنا بالكاد بالتقاط أنفاسنا. ساد السكون. كنا نسمعه (لأنه أحيانا يمكن سماع صوت السكون)، وقد أثار وَجَلَنَا. وبدون أى كلمة نهضنا، وسرنا.
قالت مدام «دى ت...»:


آن أوان العودة. لا يجوز إساءة استخدام الهواء الليلى. 


فأجبتُ:
يبدو لى أنه لا يستطيع أن يسبب لكم أى أذى.

نعم، البرودة ليست مزعجة بالنسبة لى إلى هذا الحد، مثلما هى مزعجة للبعض، ومع ذلك سوف نعود.


أعرف، أنكم قلقون بشأنى، وتسعون إلى حمايتى من مخاطر مثل تلك النزهات... ومن آثارها التى يمكنها أن تسبب لى شيئا ما. 


إنكم تتمنون أن تعثروا فى رغباتى على رقة وعطف. ما العمل؟فليكن الأمر كذلك... ومع ذلك فسوف نعود. أنا أريد ذلك. 
بصعوبة شديدة اعتصرنا من أنفسنا تلك الردود والملاحظات الحرجة، غير اللبقة، التى يمكن الصفح عنها لأولئك الناس الذين يحاولون بكل قواهم التحدث عن أى شىء عدا ما يدور فى أذهانهم. 


أرغمتنى على العودة إلى القصر. 
لا أدرى- وعلى أى حال لم أكن أدرى آنذاك- هل كانت فى حاجة ملحة للعودة رغما عنها، وهل اتخذتْ قرارها من دون تردد، أم كان الأمر مؤسفا لها مثلما كان مؤسفا لى؟ حيث انقطع فجأة ما كان قد بدأ بشكل طيب. ومهما كان، فنحن الاثنان، وكأنما قد تواطأنا، أخذنا نبطئ من خطواتنا بصورة تلقائية.

ونسير إلى جوار بعضنا البعض فى تثاقل وكآبة غير راضين عن بعضنا أو أنفسنا. لم نكن نعرف مَنْ نلوم، وماذا نلوم. لم تكن تملك الحق، ولا أنا أيضا، فى الإلحاح على شىء أو طلب أى شىء: لم يكن لدينا الحق حتى فى العتاب.

فكم كان النقاش الآن أو الشجار سيخفف الأمر علينا! ولكن من أين نأتى بالسبب؟ وفى غضون ذلك، رحنا نقترب أكثر فأكثر من القصر، وكل منا مستغرق تماما فى نفسه يبحث عن سبب لتفادى الافتراق الذى لابد منه، والذى فرضناه على أنفسنا بأنفسنا من دون حذر.


كنا تقريبا عند الباب حينما بدأت مدام «دى ت...» فى النهاية كلامها:
أنا غاضبة منكم قليلا... بعد كل تلك الثقة التى أوليتها إياكم، فمن الحمق، الحمق الشديد، أن تكون هكذا كتوما! طوال الوقت الذى قضيناه معا لم تتفوهوا بكلمة واحدة عن الكونتيسة! بينما الحديث يكون هكذا حلوا عندما يدور عمن نحبهم! ولعله ليس بوسعكم أن تشكوا فى أننى سوف أستمع إليكم بتعاطف ومشاطرة، وهذا أقل ما يمكننى أن أفعله بعد أن كدتُ أختطفكم منها. 


ولكن ألستُ أملك أنا أيضا الحق فى توجيه نفس هذا اللوم إليكم؟ ألم يكن بوسعكم أن تحولوا دون بعض تصرفاتى إذا كنتم، بدلا من مصارحتى بتفاصيل صلحكم مع الزوج، قد حدثتمونى عن صديق أكثر وقارا واحتراما، عن الصديق الذى.


كفى، ولا كلمة واحدة أكثر... تذكروا أن تلميحا واحدا بسيطا يمكنه أن يثير غضبنا. ومع ما يبدو من قلة معرفتكم بالنساء، فأنتم بلا شك تعرفون أنهن غير متعجلات فى مثل هذه الاعترافات... من الأفضل أن نتحدَّث عنكم: كيف تسير أموركم مع صديقتى؟ هل أنتم حقا سعداء؟ آه، أخشى ألا يكون الأمر كذلك، فهذا يحزننى لأن مصيركم ليس سيان بالنسبة لى! أجل، يا سيدى، ليس سيان... بل وبدرجة أكثر، ربما، مما تتصورون.


 آه، يا سيدتى، هل علينا أن نصدِّق أن الناس، من أجل التسلية، يبالغون ويصنعون من الأمور التافهة قصصا ضخمة؟
- دعكم من ضرورات التكلف! أنا أعرف عنكم كل ما يمكن معرفته عن شخص آخر. الكونتيسة ليست هكذا متحفظة فى الأحاديث بين الأصدقاء مثلكم. النساء اللاتى على شاكلتها لا يحافظن على أسرار المعجبين بهن، خاصة وإذا كانوا من هؤلاء الكتومين، مثلكم.

والذين بحذرهم وحرصهم يحرمونها من انتصاراتها. أنا بعيدة تماما عن اتهامها بالغنج والتدلل، ولكن ما لدى التَقِيَّات من زهو وغرور ليس أقل مما لدى الغنجات المتدللات. قولوا لى بصراحة: ألا تعانون أحيانا من الاضطراب والمعاناة من عجائب شخصيتها الغريبة؟ هه، تكلموا، تكلموا.


ومع ذلك، يا سيدتى، فأنتم كنتم تريدون العودة... الطقس أصبح باردا.


لقد صار أدفأ.
تأبَّطَتْ مدام «دى ت...» ذراعى مرة أخرى، وواصلنا نزهتنا. لم ألحظ إلى أين نسير. ما روته لى عن عشيقها الذى أعرفه، وعن عشيقتى التى تعرفها هى، ونزهتنا الليلية، وما حدث فى المركبة.

ومشهد المقعد فى الحديقة، والوقت المتأخر- كل ذلك أثار قلقى واضطرابى، ورحتُ أرخى العنان للآمال والرغبات اللذيذة تارة، وتارة أخرى أرغم نفسى على التفكير العاقل. غير أننى كنتُ متوترا جدا كى أدرك ما جرى بالذات فى داخلى. وريثما كنتُ تحت سطوة تلك الاضطرابات الداخلية.

واصلت هى الحديث عن الكونتيسة. وتم فهم تفكيرى وتأملى كموافقة صامتة. بيد أن بعض الملاحظات اللاذعة التى تناهت إلى سمعى، أرغمتنى على الإنصات، حيث كانت مدام «دى ت...» تقول:
إنها داهية، بارعة! بإمكانها أن تسمى الدهاء مزحة لبقة، وتُصَوِّر الخيانة على أنها المخرج الوحيد العاقل، وأنها تضحية فى سبيل المحافظة على اللياقة والاحتشام. لا توجد لديها أى عفوية إطلاقا، رابطة الجأش على الدوام، لطيفة ومهذبة دائما، نادرا ما تكون رقيقة.

وليست صريحة أبدا أو مخلصة. شهوانية بطبيعتها، مفرطة فى التأدب، ملتهبة، حذرة، محنكة، هوائية، حساسة، مثقفة، مغناجة وفيلسوفة فى شخصية واحدة: مُعَمِّرة مثل بروتوس، وفاتنة مثل جراتيا- تجذب وتفتن ثم تتملـص وتنسل، كم بدَّلَتْ، على ما أذكر، من أدوار! وكم من ناس حولها.

وهذا بينى وبينكم، لعبت بعقولهم وخدعتهم! وكيف سخرت من البارون «ن»! وكيف تسلَّتْ بالماركيز «ن. ن»! وقد اتجهت إليكم لكى تجذب اهتمام اثنين من المتنافسين اللذين فقدا الاحتراس والحذر وجازفا بإيصال الأمر إلى حد العلانية. أبقتْ عليهما طويلا إلى جانبها.

واستطاعا بطبيعة الأمر أن يعرفاها جيدا، وفى نهاية الأمر هتكا سرها وفضحاها. لقد دَفَعَتْ بكم إلى خشبة المسرح، وشغلتْ عن طريقكم أفكارهما، ووَجَّهَتْ شكوكهما فى اتجاه آخر، وأوقعت بكم فى اليأس، ثم تعطَّفت عليكم وخففت قليلا عنكم.

وفى النهاية بقى أربعتكم فى حالة رضاء. آه، كم من السهل على المرأة الحاذقة أن تلعب بكم، أيها الرجال! وكم ستعيش سعيدة لأن كل شىء بالنسبة لها مجرَّد تَصَنُّع، وهى لا تضع فى هذه اللعبة ذرة روح واحدة!


أطلقت مدام «دى ت...» كلماتها الأخيرة بتنهيدة ذات مغزى. وكان ذلك خطوة ماهرة.
أحسستُ أنهم رفعوا الغمامة عن عينىَّ، ولكننى لم ألحظ كيف وضعوا غيرها. ظهرتْ عشيقتى أمامى كأكبر كاذبة بين النساء، وسعدتُ بأننى أرى أمامى فى النهاية امرأة بقلب صافٍ ومخلص. تنهدتُ أنا أيضا، دون أن أعرف، أنا نفسى، إلى من بالضبط أوجه هذه التنهيدة.

ودون أن أعرف هل استدعاها الأمل أم خيبة الأمل. بان الحزن والأسف على ملامح مدام «دى ت...» لأنها أثارت ضيقى وحزنى، وباستسلامها للانفعال ذهبت إلى حد أبعد من اللازم فى مصارحاتها التى يمكن أن تبدو، نظرا لأنها تقال على لسان امرأة، خالية من الإنصاف والنزاهة. 


لم يكن بإمكانى الحكم بوعى وتيقظ على ما قيل لى. لقد دخلنا إلى طريق المشاعر والأحاسيس، اقتربنا منه من منطقة بعيدة حتى صار من المستحيل التنبؤ إلى أين ستقودنا. وفى وسط حديثنا الفلسفى أشارت رفيقتى إلى ذلك الجناح الذى ظهر فى نهاية أحد المنحدرات.

والذى صار شاهدا على أسعـد اللحظات. جرى وصف تفصيلى لبنائه وفراشه وأثاثه، وكم من المؤسف أن مفتاحه غير موجود! وفى غضون حديثنا، رحنا نقترب رويداً رويدا، واتضح أنه مفتوح. الإضاءة فقط هى التى كانت تنقصه. ومع ذلك فالعتمة فيه كانت لها روعتها، وخاصة عندما أدركتُ كم هى رائعة تلك التى يجب أن تضفى عليه أيضا جمالها وروعتها. 


بمجرد أن اجتزنا العتبة حتى اعترتنا رعشة، واستولى علينا القلق. كان ذلك معبدا. معبدا مُكَرَّسا للحب. استولى علينا وامتلكنا، فخضعنا واستسلمنا. تشابكت أيدينا الضعيفة الوَجِلَة، وحينما لم نعد نملك القوة على إسناد بعضنا البعض، سقطنا على الأريكة التى احتلت القسم الأكبر من المعبد. 


القمر يبدأ فى الأفول، وسرعان ما ستتلاشى آخر أشعته حاملة معها ستار الخجل الذى أصبح من الواضح أنه لم يعد لازما. اختلط كل شىء فى العتمة. اليد التى كانت تحاول دفعى، راحت تلتقط خفقان قلبى، تحاول التملص من بين أحضانى، ثم تعود ثانية لتسقط على صدرى فى هناء ونعيم أكبر. تلاقت أرواحنا وتضاعفت، لم تعد اثنتين، وإنما أكثر: من كل قُبْلَة كانت تُولَد واحدة جديدة. 


وبالرغم من أن سورتنا قد بدأت تهدأ، إلا أن نشوة مشاعرنا لم تذهب تماما. ولم يعد الصوت يمتثل لنا أو يطيعنا. فأخذنا نتحدث فى السكون بلغة المشاعر والأحاسيس. اختبأت مدام «دى ت...» بين ذراعيىَّ، وأخفت رأسها فى صدرى. تنهَّدَتْ، ثم هدأت من ملاطفاتى ومداعباتى. تملَّكَها الشجن، ثم استكانت وراحت تطلب حُبَّاً بقدر ما يأخذه الحب منها.


ذلك الحب، الذى أخافها وروَّعها منذ قليل، أصبح الآن ملجأها وملاذها. وإذا كنا نريد، من جهة، أن نمنح بإرادتنا ما سمحوا صدفة بانتزاعه، ومن ناحية أخرى- الحصول على ما انتزعوه على سبيل الهدية، ففى هذه الحالة وفى تلك ينبغى أن نسرع لإحراز النصر الثانى لكى نتيقن نهائيا مـن انتصارنا. 


جرى كل شىء على نحو سريع إلى حد ما. وقد عرفنا خطأنا... والآن بدأنا كل شىء من جديد لكى نعوِّض ما فات. فالاتِّقاد وازدحام الأحاسيس عدوَّان للرقة والبراعة. وحينما نتعجل لتحقيق اللذة نقضى بذلك على السعادة التى تسبقها: حين تتكسَّر المشابك وتتمزق الدانتيللا- وتترك الشهوة آثارها على كل شىء وفى كل مكان. وفى النهاية يكون معبودنا قد صار أشبه بالضحية. 


عندما هدأنا قليلا، بدا الهواء أكثر نقاء وطزاجة. الآن فقط بدأنا نسمع خرير مياه النهر بجوار جدران الجناح، وهو يعكِّر سكون الليل بطبطباته الهادئة المتوافقة مع خفقان قلبينا المسموع. كان الظلام كثيفا ومن الصعب رؤية أى شيء.

ولكن تحت الستار الشفاف لليلة الصيفية الصافية، تحوَّلَتْ الجزيرة المجاوره لنا إلى مرج رائع. وبدا وكأن العالم كله قد أصبح مسكونا بالعشَّاق. لم يحدث أن كان هناك فى ظلال غابات كنيد هذا العدد من العشَّاق مثلما رأينا على ضفاف السين. بدا العالم كله مليئا بالعشَّاق، ولم يكن بينهم مَنْ هو أسعد منا. كنا على وشك التماثل مع آمور وبسيكيا.

كنتُ أنا أيضا شابا مثله، ومدام «دى ت...» كانت أيضا رائعة. وبدتْ لى فى استرخائها وسكينتها أكثر سحرا وفتنة. كل لحظة أخذت تكشف لى فى جمالها عن معجزة جديدة. وضعها نور الحب فى مجال رؤية الروح، وهى أدق الحواس التى أكدت لى سعادتى. 


عند التغلب على الهواجس والمخاوف، تلبى الملاطفات والمداعبات نداء بعضها البعض بصورة أكثر رقة وحنانا. وتتصاعد الرغبة فى ألا تفلت ولو حتى لمحة عطاء أو إشارة حب واحدة إلا وتخطفها على وجه السرعة. ولكن إذا أبطأنا فى قطفها، فهذا رقة وأناقة.

الإعراض الخفيف الوَجِل أيضا يجعلنا أكثر لطفاً ورقة وحنانا. كانت تود لو، ومع ذلك فلا، لا داعى. التقديس والإجلال شىء عذب ولذيذ... الرغبة تؤجج المتعة... تلهب الروح... ونحن نتعبَّد... لن تتخلى أو تتنازل مهما كان... ولكنها تَخَلَّتْ. وقالت بصوتها الساحر:


 آه! لنذهب من هذا المكان الخطر! كل رغبة تلد هنا رغبات أخرى جديدة، وأنا لا أحتمــل ذلك. 


وسحبتنى من هنا.
انصرفنا بأسف، بينما أخذتْ تلتفت وراءها مرارا. بدا وكأن النار المقدسة لا تزال مشتعلة على أطناف المعبد الذى غادرناه. وقالت:
- لقد كرَّستَه من أجلى. مَنْ مِنْ البشر الزائلين يمكنه أن يتفوَّق عليك؟ ما أقدرك على الحب! كم هى سعيدة!.


صِحتُ فى ذهول:


مَنْ؟ لو كنتُ حقا قادرا على تقديم السعادة، فمن يمكنه مقارنة بكم أن يكون أهلا لها؟
وبينما كنا نسير بمحاذاة مقعدنا، توقَّفنا بشكل لا إرادى فى توتر وصمت.


يُخَيَّل لى أن خلوداً أبدياً يمتد بين هذا المقعد والجناح الذى كنا فيه لتوِّنا! روحى مفعمة بالسعادة حتى إننى لا أدرى كيف واتتنى الجرأة على صدِّكم. 
فأجبتها:


آه، هل من المعقول أن يكون قد حُكِم بالتشتت هنا على الأحلام التى ملأت قلبى هناك؟ أم سيظل هذا المكان دوما قدرا محتوما بالنسبة لى؟


هل هذا ممكن الآن، وأنا معكم؟
- أوه، نعم، لأننى الآن فى غاية التعاسة، فكم كنتُ سعيدا هناك. الحب متعطش دوما إلى براهين... وبراهين أخرى جديدة: ويخيَّل له أنه لم يحصل على أى شىء مادام لم يحصل على كل شىء.


أكثر من ذلك... لا، لا أستطيع أن أسمح... لا، هذا مستحيل- وبعد فترة صمت طويلة، أضافت. 
- إذاً، فأنتَ حقا تحبنى! 


أرجو من القارئ أن يتذكَّر أن عمرى آنذاك كان عشرين عاما. فى غضون ذلك غيَّر حديثنا مجراه، وأصبحتُ أقل جدية. بل وحتى تجاسرنا على السخرية من مسرات حبنا، وعلى تحليله، وفصله عن الأخلاق، والنزول به إلى أبسط الحدود.

وإثبات أن جوهره هو مجرد ضمان المتعة، وضمان المتعـة (إذا فكَّرنا على نحو فلسفى) لا يُلْزِمنا بأى شىء إذا لم نُلزِم بعضنا البعض علناً بكشف أسرارنا للناس والتخلى عن الحذر فى وجودهم.


قالتْ.
- أى ليلة رائعة قضينا. وذلك فقط بفضل تلك المتعة الوحيدة التى كانت لنا درسا وعذرا. وإذا اضطرتنا، مثلا، الظروف غدا للافتراق، فإن سعادتنا التى لم ير مثلها إنسان فى العالم لن تترك أى آلام أو أثقال.

اللهم عدا الحزن الخفيف، الشجن، الذى يمكن أن تعوِّضه حلاوة الذكريات... ذكريات اللذة... بدون التمهلات المضنية والحرص واستبداد الملابسات. 


كم لدينا الكثير مما لدى الآلهة (وأنا أخجل من ذلك)، فبدلا من الأحاسيس والمشاعر المركبة والشكوك التى سيطرت علىَّ قبل هذا الحديث، صرتُ موافقا على نصف هذه الأفكار الجريئة: وجدتُها جديرة بالإعجاب، وأصبحتُ قريبا جدا من تقويم مزايا وأفضليات الحرية. 


قالتْ.
- ليلة جميلة، وأماكن رائعة! لم آت إلى هنا منذ ثمانى سنوات، ومع ذلك فهى لم تفقد روعتها السابقة، بل على العكس- اكتسبتْ فى نظرى روعة وبهاء جديدين. ولعلنا لن ننسى أبدا ذلك الجناح، أليس كذلك؟ فى القصر توجد حجرة كهذه بالضبط.

وهى فى الحقيقة رائعة. بيد أنه ليس هناك ما لا يجوز أن أُريكم إياه: أنتم مثل الطفل الذى يريد أن يلمس كل شىء، ويكسر كل ما تمسه يده. 


وفى نوبة فضول مفاجئة، أدهشتنى أنا نفسى، أجبرتنى على إعطاء وعد بأن أسلك سلوكـا حسنا، وأن أطيعها وأمتثل لها فى كل شىء. وأقسمتُ بأن أكون عاقلا. راحت تتحدث معى عن شىء آخر قائلة.


- كان ممن الممكن أن تكون الليلة أسعد ليلة فى حياتى لو لم أَلُمْ نفسى على خطأ واحد. وعبثا، فعلا من العبث، أننى قد تحدَّثتُ معكم هكذا عن الكونتيسة. الأمر ليس فى أنكم ضايقتمونى بشىء ما. ولكن المسألة، ببساطة، هى أن الشىء الجديد يمتلك دوما قوة جذب خاصة. فأنتم تعتبرون أننى جديرة بالحب.

وأنا أود أن أُصَدِّق أنكم لا تخدعوننى. بيد أن تَسَلُّط العادة أمر ضخم لدرجة أننى أعترف بعدم إمكانية التغلب والانتصار عليه حتى النهاية. إضافة إلى أننى قد استنفدتُ كل ما يمكنه أن يسحر قلوب الرجال. فأى شىء يمكن أن تنتظروه منى؟ وأى شىء يمكن أن تتمنوا؟ ماذا يمكن عمله بجوار امرأة لم يعد لديها رغبات أو آمال! لقد منحتكم كل شىء.

ولم أدَّخر شيئا. وكم يصبح جميلا إذا لم تلومونى على هذه الليلة التى لم تكد تنقضى فيها لحظة اللذة حتى بَثَّتْ فيكم برودة التأمل المتجهم. بالمناسبة، ما رأيكم فى زوجى؟ كئيـب جدا، أليس كذلك؟ ما العمل، العيش على منتجات الألبان لا يُحَسِّن الطِبَاع. لا أظن أنه تَقَبَّل مجيئكم بطيب خاطر. صداقتنا تثير لديه الشكوك.

لا يجوز إطالة مدة زيارتكم الأولى هنا: هذا يثير غضبه. بمجرد أن يظهر هنا ضيوف، وهُم بالطبع يظهرون... ولكن أنتم أيضا لديكم دواعٍ للحذر... هل تتذكَّرون بأى مظهر وَدَّعَنَا بعد العشاء؟ 
صارت على يقين تام بأن هذه الكلمات قد قامت بتأثيرها المطلوب علىّ، فأضافت مسرعة.


 لقد كان أكثر مرحا وبهجة عندما كان يُجَهِّز، بذلك القدر من الدِّقة والإتقان، تلك الحجرة التى حدَّثتَكم عنها. كان ذلك قبل زواجنا. إنها متاخمة لمخدعى. كنتُ أراها على الدوام مجرد وسيلة عون اصطناعية يجد فيها زوجى أداة لتقوية أحاسيسه، وكدليل على بروده نحوى. 


وهكذا، من وقت لآخر، راحت تؤجج فى نفسى الرغبة لرؤية هذه الحجرة. فقلتُ لها:
 إذا كانت مجاورة لمخدعكم، فكم سيكون من الممتع الانتقام هناك للإهانة التى تم توجيهها إلى جمالكم- وتعويضه بحق عن كل ما انتزعوه منه. 


تَمَّ فهم ذلك وإدراكه، وتقبُّله بعين الرضا. فواصلتُ حديثى:
- آه! كم كنتُ أتمنى لو وَقَع الاختيار علىّ للقيام بتنفيذ مهمة الانتقام. وكم أرجو لو استطاعت اللحظات السعيدة أن تمحو وتزيل من ذاكرتكم خيبات الأمل... قاطعتنى قائلة:
- لو أقسمتم أن تكونوا متعقِّلين وحريصين.


فى الحقيقة، لم أشعر فى نفسى بالحماسة المطلوبة، أو الرغبة الحارة والضرورية، لزيارة معبد آخر. إلا أنه قد تملَّكتنى نوبة فضول شديدة: لم تعد مدام «دى ت...» تهمنى كثيرا بقدر ما كانت تهمنى تلك الحجرة نفسها.


عُدْنَا إلى القصر. كان الضوء قد أُطْفِئ على الدرج وفى الممرات. سِرْنَا فى الظلام عَبْرَ الدهليز، فحتى صاحبة القصر لم تكن تعرف جميع المداخل والمخارج. وفى النهاية وصلنا إلى الباب المؤدى إلى مخدعها- حيث تم إخفاء المخبأ السرى الذى تُطرى عليه وتُبجِّله.


سألتُها.
كيف ستقررون مصيرى؟ إلى أين أذهب الآن؟ هل من المعقول أن تصرفونى وحدى فى هذا الظلام؟ وهل تخاطرون بإثارة الضجة، والكشف عن أنفسكم، وافتضاح أمرنا معا، فتفسدوا كل شىء، وتهلكوا أنفسكم؟


كانت هذه المبررات حاسمة.- إذاً، فأنتم تعدوننى.


نعم، نعم، فى كل ما تريدون! 
صَدَّقَتْ وعودى. فتحنا الباب فى تمهل وهدوء، وجدنا خادمتين نائمتين: واحدة شابة، والثانية أكبر منها. كانت الأكبر تتمتع بثقة خاصة، ولذا أيقظناها. همستْ لها بشىء ما فى أذنها. وسرعان ما رأيتُ كيف تخرج من باب سرِّى أُخفِى بمهارة فى النقوش الخشبية الجدارية.

اقترحتُ أن أقوم بعمل الوصيفة النائمة، وتَمَّ تَقَبُّل خدماتى. وهكذا رحتُ أُجَرِّدها من ثيابها وأخلع عنها حُلِيّها. لم يتبق سوى شريط رفيع يربط شعرها الذى سقط مسترسلا على كتفيها فى خصلات حرة طليقة زَيَّنَتْها فقط بإضافة تلك الوردة التى كنتُ قد قطفتها من الحديقة وظلت، نظرا لسهوى وشرودى، حتى الآن فى يدى. استبدَلَتْ الفستان المفتوح برداء بسيط.

لم يكن هناك أى رباط، ولا حتى مشابك، فى هذا الرداء، فبدت مدام «دى ت...» فيه أكثر روعة وجمالا. كانت أجفانها ثقيلة من شدة الإرهاق، واكتسبتْ نظراتُها رقة جديدة وفتورا ممتعا. وأبرز لون الشفتين، الذى أصبح زاهيا وبديعا على غير العادة، تلألؤ الأسنان وعَكَسَ ابتسامة أكثر رقة وحساسية.

وكانت الحُمْرَة الخفيفة هنا وهناك تبوح بلمعان الجلد وتشهد على رهافته ورقته، وذَكَّرَتْنى تلك الآثار المتبقية من المغامرة التى جرت منذ قليل بحلاوة جلدها وعذوبته. باختصار، فقد ظهرت أمامى أكثر فتنة وسحرا مما رسمتُها فى مخيِّلَتى فى أرق وأعذب لحظاتنا. انفتح الجدار الخشبى من جديد ودخلتْ منه كاتمة الأسرار الأمينة، وما لبثتْ أن اختفتْ تماما.


بعد دخولنا، أوقفتنى مدام «دى ت...» قائلة فى أهمية ومهابة.
تَذكَّروا أنه لا يجب أن يشك أحد إطلاقا فى أنكم رأيتم هذه الحجرة أو حتى تصوَّرتم وجودها. احذروا حتى التمتمة بذلك أثناء شرودكم. أما بشأن باقى الأمور، فأنا مطمئنة.


الحفاظ على السر- أول الفضائل، ونحن مدينون لها بالكثير من اللحظات السعيدة. 
كان كل ذلك أشبه بطقوس التكريس. قادتنى وهى تمسك بيدى عَبْرَ دهليز مظلم. تعالت نبضات قلبى مثل شاب متهيِّج راح عرضة للتجربة قبيل تَقَبُّل السر العظيم.
ولكن كونتيستكم هذه- قالت، ثم توقَّفتْ. 


هَمَمْتُ بالرد، ولكن الباب انفتح- تجمَّدتْ الكلمات على لسانى من شدة الانبهار والدهشة. أصابنى الذهول والعجب، طار عقلى وآمنتُ تماما بالسحر. انغلق الباب خلفنا، ولم أعد أذكر كيف دخلنا إلى هنا. لم يكن هناك حولنا سوى دغل فردوسى أخضر ليس له مخرج أو مدخل.

وكأنه يُحَلِّق فى الفضاء بدون أى دعائم أرضية. باختصار، كنتُ موجودا فى صالة شاسعة، وبدلا من الجدران كانت هناك فقط مرايا ممتدة ومستمرة نُقِشَتْ وزُيِّنَتْ ببراعة هائلة حيث ظهر فيها كل ما هو موجود وتضاعف فـى انعكاساته.

وصنعتْ عالما وهميا كاملا للواقع. لم تكن هناك أى قناديل أو شموع: من مكان ما بالداخل تدفَّق ضوء رقيق ضارب إلى الزرقة فانعكس على النقوش والزخارف بالقدر الذى يجعلنا فقط نراها. وفاح من المباخر شذى عطر طيب وغريب.

وتوارت الطُغْرَيات والعلامات عن عيون مصدر الضوء السحرى الذى ملأ ذلك الملجأ السرى المُكَرَّس للذة. وهناك، على ذلك الطرف الذى دخلنا منه، رُسِمَتْ أروقة متشابكة مُغطَّاة بالورود وفى كل فتحة منها تعريشة خضراء.

وفى الطرف الآخر- تمثال آمور الذى راح يوزِّع أكاليل الزهور وأمامه شُيِّدَ محراب تشتعل فيه النار. وعند أسفل المحراب تراءت الأقداح وأكاليل الزهور وضفائر الورود المتناثرة. وأضْفَتْ نقوش الجدران مسحة من الكمال على المعبد فى أسلوب رقيق وأنيق.

وفى المقابل شُيِّد كهف صناعى وافر الظلال يحرس مدخله إله سرى غامض، والباركيه المغطى بسجادة من القطيفة يبدو مثل مرج فسيح. والملائكة على السقف تعلق حول رقابها ضفائر الزهور، ومِشْكَاة هناك معلَّقَة على الجدار المقابل للأروقة. وفى أسفل مظلة، تحملها آلهة الحب، تناثرت الوسائد الكثيرة. 


نَزَلَتْ ربة تلك الأماكن على الوسائد فى هدوء. ألقيتُ بنفسى تحت قدميها. انحنتْ علىّ ومدتْ يديها. وفى نفس تلك اللحظة، وبفضل الحائط الزجاجى الذى انعكستْ عليه هذه اللوحة الحية من كافة الجوانب، امتلأتْ جزيرتنا بأزواج من العُشَّاق السعداء. 


الرغبة تشتعل بتأثير الشخوص المحيطة. قلتُ صائحا.

هل ستتركون رأسى بدون تاج؟ ألن تتفضلوا علىّ وتترفقوا بى فى ذلك الاقتراب من العرش؟ هل من الممكن أن تُنْطَق هنا كلمات الرفض؟ 


أجابتْ وهى تنهض وماذا عن وعودنا؟
عندما نطقتُ بها، كنتُ آنذاك إنسانا زائلا، ولكنكم صنعتم مِنِّى إلها: عليه أن يعبدكم- وهذا هو وعدى الوحيد.


فقالت.
هيا بنا. فالعتمة السرية يجب أن تخفى ضعفى. تعالوا معى.
فى هذه اللحظة كانت قد اقتربتْ من الكهف. وما كدنا ندخل حتى انتزعتنا قوة لولبية خفية، صُنِعَتْ بمهارة، وقذفت بنا إلى أعلى. وبعد أن طِرْنا معاً، انزلقنا بهدوء وسلاسة على الوسائد الوثيرة. خَيَّم الظلام والهدوء على ذلك المعبد الجديد. عَوَّضتنا التنهدات عن الكلام. راحت تتوالى سريعة، أصبحت أكثر رقة وحرارة.

وأصبحت هى المترجم الوحيد لأحاسيسنا ومشاعرنا وتأججاتها المتواصلة. وأخيرا حلتْ النهاية التى انتظرناها طويلا لتعلن عن وجوب الحمد والشكر لآمور. أما هى فقد راحت تضع على رأسى إكليلا من الزهور، ومن دون أن تُحَوِّل تقريبا عينيها الرائعتين المُخَضَّلَتين من تأثير الشبق، قالت.


هل يمكنكم فى يوم من الأيام أن تعشقوا الكونتيسة مثلما تعشقوننى؟
هممتُ بالرد، ولكن فجأة دخلت خادمتها- كاتمة الأسرار الأمينة فى عجلة، وقالتْ لى.

 
أخرجوا بسرعة! لقد طلع الفجر. وهناك ضجيج يُسْمَع فى القصر. 


تَبَدَّدَ كل شىء بسرعة كما يتبدد الحلم بمجرد الصحو. لم أكد أسترد وَعْىِّ حتى وجدتُ نفسى فى الدهليز. أردتُ العودة إلى غرفتى، ولكن كيف يمكن العثور عليها؟ أى سؤال الآن يمكنه أن يثير الشك. وأى خطأ يمكنه أن يكشف عنى.

كان الشىء الوحيد الأكثر أمانا هو النزول إلى الحديقة، وهذا ما فعلتُه، بنية البقاء هناك إلى أن يبدو ظهورى أمرا عاديا تماما مثل عودة أى شخص من جولته الصباحية. 


راح الهواء النقى وبرودة النهر تُهَدِّئ رويداً رويداً من أوهامى وهواجسى وتطرد منها الرؤيا المسحورة، وبدلا من الطبيعة الصناعية الفاتنة رأيتُ الطبيعة الحية. أحسستُ بالحقيقة تعود إلى روحى، وبالأفكار تسير فى ترتيب وانتظام وراء بعضها البعض.

وفى النهاية تنفَّستُ ملء صدرى. أول ما فعلتُه هو أن سألتُ نفسى، هل أنا فعلا عشيق تلك التى غادرتُها منذ قليل؟ وأدركتُ فى دهشة أننى لا أعـرف ذلك. هل كان بإمكانى حتى يوم الأمس، فى الأوبرا، تَصَوُّر أننى سوف أُوَجِّه لنفسى مثل تلك الأسئلة؟ إننى على يقين راسخ بأنها طوال عامين تعشق الماركيز «دى...» بشدة.

وأنا نفسى الذى كنتُ إلى هذا الحد أعشق الكونتيسة، لدرجة أن فكرة الخيانة فى حد ذاتها لم يكن من الممكن أن تخطر على بالـى! كيف؟ كل ذلك كان بالأمس فقط؟ هل مدام «دى ت...»… هل من الممكن أن يحدث.

وتكون قد قطعتْ علاقتها بالماركيز؟ وقررتْ أن تجعلنى خليفته؟ أم كانت تحاول فقط أن تعاقبه؟ أى مغامرة! وأى ليلة! أم أننى ما زلتُ نائما بعد؟ كنتُ مُرتابا. لم أود التصديق. ثم صَدَّقْتُ وعثرتُ على الدلائل.

ولكننى بعد ذلك لم أعد أعرف ثانية بماذا أُفكِّر. وبينما كنتُ مستغرقا تماما فى حل تلك الألغاز، سمعتُ فجأة صوت خطوات قريبة تماما: رفعتُ عينىَّ، فركتهما، لم أصَدِّق نفسى... كان هذا هو... مَنْ تتصورون؟ الماركيز. 


لم تكن تتوقع حضورى فى هذا الوقت المبكر، هه؟ كيف سارت الأمور.


سألتُه:
إذاً، فأنت كنتَ تعرف أننى هنا؟
طبعا! لقد بعثوا إلىَّ بالأمس ليبلغونى بذلك، قبيل رحيلكما. هل أتقنتَ دورك؟ هل كنتَ مَسْخَرَة بشكل كاف أمام الزوج؟ متى يرسلون بك إلى البيت؟ لقد دبَّرتُ كل شىء- خدمة مقابل خدمة- أعددتُ لك مركبة محترمة، إنها فى انتظارك. مدام «دى ت...» كانت بحاجة إلى مرافق يسلِّيها فى الطريق- وهذا كل ما كان مطلوبا منك. أنتَ قمتَ بذلك، أما شكرى.


أوه، من فضلك، دعك من ذلك. أنا سعيد تماما بخدمة السيدة... ومدام «دى ت...» يمكنها أن تؤكد بأن غيرتى واجتهادى أرفع وأسمى، فى الحقيقة، من أى شكر. 
لقد منحنى مفتاح سر الأمس، وساعدنى على فهم كل ما جرى. وفى لحظة واحدة تَقَمَّصـتُ الدور، وأخذتُ أُجيب بقوانين هذا الجنس الفنى. 


قلتُ.
ولكن لِمَ الحضور هكذا مبكرا. لعل الأكثر أمانا كان...
كل شىء محسوب! إننى هنا بالصدفة: كنتُ أمر بالقرب منكم فى طريق عودتى من الأنحاء المجاورة. هل من المعقول ألا تكون مدام «دى ت...» قد أخبرتك بخططنا؟ أنا مستاء منها على عدم ثقتها هذا بعد كل ما فَعَلْتَه من أجلنا. 


ربما لديها أسباب لذلك. بل وربما لم أكن أُوَفَّق فى إتقان الدور إذا كنتُ قد عرفتُ كل شىء مسبقا.أوه، يا صديقى، هل كان ذلك مسلا إلى هذا الحد؟ احكِ لى كل شىء بالترتيب... هيا، هيا احك!.
آه، انتظر. إننى لم أكن أعرف أن هذه مجرد مسرحية، على الرغم من أن دورى فيها لم يكن الأخير، كان دورا- ولنقل بصراحة- سيِّئا.لا توجد أبدا أدوار سيئة بالنسبة للممثلين الجيدين. هل تَصَرَّفتَ بشكل جيد؟
بشكل لا مثيل له. 


ومدام «دى ت...»؟

لم يكن لها مثيل. وفى كل شيء. 
تَصَوَّر ماذا يعنى أن تُدَجِّن مثل هذه المرأة؟ لم يكلفنى ذلك جهودا قليلة، ولكننى فى المقابل ربيتُها بذلك الشكل الذى ربما لا توجد عليه فى باريس كلها واحدة من جنس النساء يمكنها أن تباريها فى الإخلاص. 


برافو!
آنئذ كنتُ ذكيا، لأن طيشها وتقلباتها كلها كانت وليدة الرعونة والنزق وكثرة الأوهـام والخيالات. وبالتالى، فقد كان من الضرورى امتلاك روحها.


حقا، إنها الوسيلة الوحيدة الصحيحة. 
أليس كذلك؟ إنك لا تستطيع حتى أن تتخيل كم هى مخلصة لى. إنها بالفعل رائعة، وأعتقد أنك متفق معى بهذا الشأن. لديها فقط، والكلام بيننا، عيب واحد: المسألة أنه بالرغم من أن الطبيعة قد حبتها بكل شىء، إلا أنها لم تستطع أن تمنحها النار المقدسة التى تُتَوِّج كل مظاهر الكمال الأخرى.

هذه المرأة توقظ جميع الرغبات، تسمح بتذوق كل شىء والاستمتاع به، ولكنها هى نفسها لا تحس بأى شىء. مجرد تمثال من المرمر!


أنا مضطر لتصديقك، لأننى أنا شخصيا لم... ولكنك تتحدث عنها هكذا بشكل جيد، كما لو أنك زوجها. برافو، أنت فى غاية الدقة. ولكن لو لم أجلس بالأمس خلف المائدة مع رجل.
هل استقبلكما بشكل جيد؟

أوه، إنه زوج حقيقى.. من شعر رأسه إلى أخمص قدميه.
- والمغامرة! إنك لا تضحك بشدة. إذاً، فأنت لا تعرف أن دورك كان مسخرة؟ وافِقْنى على أن هناك أشياء كثيرة غريبة تحدث أحيانا على مسرح الحياة، فهنا يؤدون أدوارهم بدون خشبة. لنذهب إلى القصر، لا أستطيع أن أصبر على أن أضحك مع مدام «دى ت...».

لعلها استيقظت الآن. لقد أخطرتُ بأننى سوف أحضر مبكرا. ولكن من أجل اللياقة لابد من زيارة الزوج فى البداية. لنذهب إلى حجرتـك أولا، فأنا أريد وضع بعض البودرة على وجهى. معنى ذلك أنه استقبلك على أنك عشيقها؟
سوف تحكم على نجاحى من الاستقبال الذى سيستقبلنى به السيد «دى ت...». الساعة الآن صارت التاسعة، لنذهب الآن إليه.


لم أكن أود الذهاب إلى حجرتى لأسباب مفهومة. إلا أننا اصطدمنا بها صدفة فى طريقنا: كان الباب مفتوحا، ورأينا خادمى الذى كان نائما على المقعد فى هدوء وإلى جواره شمعة قد احترقت. وعندما سمع وقع خطواتنا، هب من مكانه وهو ما يزال بين اليقظة والنوم وقَدَّم الروب الخاص بى إلى الماركيز مُوَبِّخَاً إياه على العودة هكذا فى مثل هذا الوقت.

شعرتُ بحرج شديد، ولكن الماركيز كان مستعدا تماما لخداع نفسه واعتبار ذلك مجرد سهو سخيف لأحد الناس الذين يحبون النوم. أمرتُ الخادم المرتبك بالإعداد للرحيل، واتجهنا إلى مخدع صاحب القصر. من السهل أن نُخَمِّن أى منا كان ضيفا مرغوبا: بالطبع ليس أنا.

وكان ذلك من طبيعة الأمور. وأخذ الرجل يطلب، فى إلحاح، أن يبقى صديقى ضيفا عليهم لفترة طويلة، بل وأراد أن يذهب به إلى صاحبة القصر على أمل أن تستطيع إقناعه بذلك. ولم يكن هناك من يجرؤ، كما قيل لى، على توجيه مثل هذه الدعوة لى. ولذا فقد امتقع وجهى بشكل لا يثير الشك فى أن ذلك من سوء طقس هذا المكان الذى أضر بصحتى. 


دعانى الماركيز لاستخدام مركبته. فوافقتُ، وسار كل شىء كما ينبغى. وكان الجميع فى حالة من الرضا. ولكننى كنتُ، مع ذلك، أتمنى رؤية مدام «دى ت...» قبل الرحيل: لم أكن أستطيع حرمان نفسى من هذه المتعة. وشاطرنى هذه الرغبة أيضا، الماركيز الذى كان فى غاية الحيرة والاندهاش لنومها هكذا طويلا، ولكنه كان بعيدا تماما عن التفكير الصحيح. 


حينما غادرنا الزوج، قال لي.
- أليس ذلك مدهشا؟ حتى إذا كان قد عرف دوره مسبقا، لِمَا كان بإمكانه أن يتقنه أكثر من ذلك! إنه، فى جوهر الأمر، من أنبل الناس. فحينما وَزَنْتُ الأمور كما ينبغى، وجدتُ أن صلحهما سيعود بالفائدة على الجميع. سوف يكون هذا البيت رائعا، وعليك أن تعترف أنه لا توجد أى امرأة أخرى يمكنها بهذا الشكل أن تعرض بيتها للضيوف، ومن أفضل جوانبه.
لم يكن هناك من هو أكثر منى موافقة على ذلك.


ولكن مهما كانت هذه القصة طريفة ومسلية، فأرجوك- ولا كلمة واحدة لأى إنسان. هذا أمر هام وخطير، وخصوصا فى هذه الفترة. وأعتقد أننى سأُوَفَّق فى إقناع مدام «دى ت...» بأن سرها فى أيد أمينة.


 لا تقلق، فهى لا تشك فى ذلك، والدليل هو نومها الهادئ اللذيذ الآن. - أوه، نعم، لقد نسيتُ أنه لا يضاهيك أحد فى فن تخدير النساء وتنويمهن.- ليس فقط النساء، وإنما أزواجهن أيضا، يا عزيزى، بل وأحيانا عشاقهن.


وفى النهاية أخطرونا بأن مدام «دى ت...» جاهزة لاستقبالنا، فدخلنا.بمجرد دخولنا، أعلن هذا المبتهج الطروب:- سيدتى، يأتى إليكم اثنان من أقرب أصدقائكم. توجَّهتْ مدام

«دى ت...» نحوى قائلة.


خشيتُ أن تكونوا قد رحلتم. أشكركم على أنكم أدركتم أن ذلك كان يمكنه أن يحزننى جدا. أخذت تُحَدِّق إلينا باهتمام ونفاذ، وراحت تنقل بصرها بيننا، ولكنها ما لبثت أن اطمأنت على الفور من غفلة الماركيز الذى استمر فى مداعبتى والمزاح معى. وأخذت تضحك معى لنكاته وطرائفه.

ولكن ليس أكثر مما يستدعى الأمر، كى تهدئ من روعى ولا تحط من قدرها فى نظرى. كانت تتحدث مع الماركيز برقة ولطف، ومعى- بلباقة ومجاملة وكبرياء. مَزَحتْ قليلا ثم صارت جادة.


قال الماركيز.
 سيدتى، لقد أنهى صديقنا دوره بشكل رائع كما بدأه. 


أجابت دون ابتسام:
 كنتُ واثقة من ذلك، كما أثق فى نجاح أى دور يمكن أن يُسنَد له.
أخذ يحكى لها عن زيارتنا لزوجها. فنظرتْ نحوى وراحت تثنى علىّ من دون أن تبتسم. ولكن الماركيز لم يتوقَّف.


 أما أنا، ففى غاية الإعجاب والانبهار: إننا، يا سيدتى، نحن وأنتم، كسبنا صديقا حقيقيا. وأُكَرر لكَ شكرنا وامتناننا... 
قاطعته مدام «دى ت...»:
- كفى، يا سيدى، لندع هذا الأمر. صَدِّقونى.. إننى أدرك جيدا كم أنا مدينة له بالكثير.
أخطرونا بقدوم السيد «دى ت...»، والتقى جميع شخوص المسرحية. السيد «دى ت...» يسخر منى، ويحاول إبعادى بأقصى سرعة. وصديقى استغفله، وأغاظنى. وأنا سَدَّدتُ له الدَيْن بنفس المكيال.. رحتُ أبدى إعجابى بمدام «دى ت...» التى لم تفقد ولو للحظة واحدة كبرياءها، واستطاعت أن تخدعنا جميعا.


رحتُ أستمتع بعض الوقت بهذا المشهد إلى أن شعرتُ بأن لحظة الوداع قد حانت. خرجتُ، فتبعتنى مدام «دى ت...» بحجة شىء ما أرادت أن تقوله لى.


- وداعا. لقد أهديتمونى لحظات رائعة، ولكننى كافأتكم عنها بحلم رائع. والآن يناديكم حبكم، وصديقتى جديرة به. لقد اختطفتُ منها بعض انفعالاتكم ونزواتكم، ولكننى فى مقابل ذلك أعيدكم إليها أكثر رقة وحنانا، وأكثر إحساسا وشفافية. مرة أخرى، وداعا، أنتم فى غاية الروعة.. لا تقلبوا الكونتيسة علىَّ.


صافحتنى وافترقنا.
صعدتُ إلى المركبة التى كانت تنتظر، ورحتُ أبحث عن مغزى تلك المغامرة... ولكننى لم أجد شيئا. 

اقرأ ايضا | بلا غد |القصة التى اعتمد عليها ميلان كونديرا فى كتابة «البطء»