«الدرويشة».. الأسطورة أداة تفكيك للمشهد المعاصر

كتب
كتب

منى العساسى

تنقلنا صفاء النجار فى مجموعتها «الدرويشة» إلى سندريلا الميثولوجيا التى وقفت على مسرح طفولتنا تقفز على نوافذ أحلامنا صغارا كعصافير الجنة، تشاركنا طفولتنا وأحلام صبانا،نقف على مسرحها بأقدام حافية،نبكى وننهنه لبكائها،نبتسم ونقهقه لفرحها وتجيش صدورنا المراهقة لرقصتها الأسطورية مع الأمير، ثم فجأة نجد أنفسنا على مسرح الحياة نكبر وتكبر أحلامنا معنا ويبقى فى قواصى ذاكرتنا حلم طفولتنا البرئ بالأمير الأسطورى مصحوبا بخيط رفيع من الأمل أنه سيأتى يوم ما، لتخطفنا اليوم «الدرويشة»بحرفها الفخم من الأسطورة القديمة برومانتيكيتها وتراجيديا أحداثها إلى ما يشبه السخرية السوداء،بكادر يتأرجح فوق حبال الواقع ينشد قارئ فطن يثب إلى ما وراء الحكاية بمشهد جديد وإسقاط كوميدى عصرى،وجهت من خلاله نقد لاذع لمجتمع لا يرأف بأحد فى تورية ذكية،حدثتنا سندريلا عن عدم تكافئ الفرص فتقول «كيف يتوقع وزيرنا الأكبر أن تحضر الفتيات المقيمات فى ضواحى المدينة وفى الأرياف..أم تركهن يركبن الميكروباص أو التوكتك». متهكمة من هزلية المشهد التى ظنت أن الملك لا يعرف عنه شئ وأنه جاهل بما يدور فى مملكته،فحدثت الملك بجراءة وندية عما يفعله الوزير المتهم الأول بنظرها وما يقوم به من تزييف للحقائق وكذب عليه فأردفت «حتى خطوط النقل العام والأتوبيسات والمينى باص والمترو لا تصل للعاصمة الجديدة..»، لتكتشف فى النهاية أنها الوحيدة الساذجة هنا «فـالجميع يتراقص كحبات كستناء فوق الفحم الملتهب. الجميع فى معية الملك وكل شئ يتم بمباركته»، وتطرح أمام الصدمة مجموعة من التساؤلات الوجودية حول الحقيقة فتسأل الحكيم «لماذا يبدو قلم الرصاص الموضوع فى كأس من الماء منكسر..تراه قطعتين..لا قطعة واحدة متماسكة..كيف أعرف الصواب من الخطأ..؟» تخرج منها بطلتنا بتبرير أن للحقيقة ألف وجه.
تتبدى قدرة الكاتبة على استغلال الأسطورة الطفولية التى نسجت أحلامنا الأولى وتحويلها إلى أداة ناعمة لرصد المشهد المعاصر، حلقت بنا لنجد أنفسنا خلف الكاميرا نتابع بشغف أحلامها وحكايتها مع الجدة من ثم نبدأ رحلتنا داخل «سنوات الظل والتيه» أمام حلم اختصرت فيه البطلة سنوات عمرها،حدثتنا عن زوجها الذى تظن أن كل محاولات مساعدتها له ليست سوى محض إعاقة «شعرت أن وجودى بلا فائدة..أو أننى أستدعى كل المعوقات فى طريق زوجى».
 كما تعتبر ثرثرتها حول ما يتردد على لسان الناس والجيران والأصدقاء عنهم محض تكرار ورتابة، ثم وضعتنا أمام صراع  الزوجة الأرستقراطية بنظرتها العلوية إلى الفلاحة التى شبهتها بخادمتها أو بالأحرى من لا تتخطى من وجهة نظرها أن تكون سوى خادمتها،  فتستهجن وقوفها أمامها وهى تنطق اسمها فى تجاهل واستنكار، وتتركنا أمام تساؤ:ل ما الذى قد يكون مشتركا بينى وبينها لترفع التكليف، طارحة بترفع شديد إشكالية الزوج ذو الجذور الريفية الذى يحن لصاحبة الثوب البرتقالى الفاقع التى ربما تمثل صورة الأم  بالنسبة له، فيكون الزوج ذاته هو القاسم المشترك بينها وبين الفلاحة.
ثم تقودنا «الدرويشة» فى سلاسة إلى بيت الجدة فى تناص مع روايتها «حسن الختام»، وهناك تظهر لنا ضحى الأخت المريضة بداء عضال عجز عن علاجه الأطباء حتى ظنت الجدة أن زوجة العم التى رفضت زواجها من ابنها الفلاح سحرت لها فى إشارة الى الثقافة الشعبية تجاه المرض النفسى.
وتنتقل بنا برشاقة من صورة الزوج الطيب الذى تحمد له أنه لطالما قدمها على نفسه إلى صورة شديدة التناقض نعتت فيها الزوج بالمتواطئ الذى لم يحرك ساكنا تجاه من حاول التحرش بها «نظر له الرجل نظرة غريبة، نظرة تحد، مقايضة، مساومة، قبض زوجى يده وضربها فى كفه الثانية،نظرت له وخرجت مسرعة...جريت غاضبة». لتهرب منه مفضلة المجهول على البقاء معه  فى دلالة على عدم الشعور بالأمان، من ثم تنسج من شال الجدة وسجادة صلاتها المزركشة  فى «الدرويشة والمريد» ملاذا آمنا فتحملها أغصانها وعصافيرها إلى الجنة،وتستخدم تقنية الفلاش باك لتبث لنا مشهد حى لرحلة الحفيد إلى البرزخ من خلال عقل الجدة التى فقدت وعيها حزنا عليه، تتخلى الدرويشة فى النهاية عن روحها الساخرة المرحة أمام الموت الذى فرد جناحية فغطى بسواده قرص الشمس دون شفقة،وعلى غفلة من الجميع خطف إيمان الأخت التى نهشها السرطان فبدت كحبة قمح فى حويصلة قومرية مهاجرة التقطتها خلسة من جرن الحياة وهربت دون اكتراث لما سيحدث لباقى حبات السنبلة «محمد وملك» والبقية، لينزلق معنى الفقد مرا فى حلوقنا، منهكين من زخم التجربة التى حملتنا ردهاتها من حكاية سندريلا التى تمثل الطفولة «المهد الأول فى الحياة» إلى النهاية الحتمية التى لا تعلن عن موعدها أبدا، فيأتى الموت من «فم تمساح فستقى يحتل مطبخها» متجاهلا تحذيرها له بأن لا يتبعها ليسرق خفية روح إيمان وجسدها المعتل لكنه لم يجرأ أبدا على سرقتها من ذاكرتها.
ينسدل الستار على خشبة المسرح وتنسحب سندريلا يتيمة من المشهد  إلى غرفتها مرددة ترنيمتها الخاصة: «ماذا لو أنك جئت كى يمتد الظل على الأرض..كى تكون شجرة ينتسب إليها اللقطاء، هواء يتنفسه المصدورون، أهداب تتباهى بها العجائز..ماذا لو أنك جئت فقط كى ترضى قاطعة طريق».
 فى النهاية أتت «الدرويشة» بصخب طفلة لتفصح لنا عن جانب من فلسفة الموت والحياة،فلسفة الحب والذاكرة، مؤكدة على أن ثمة حوادث تمر فى حياتنا تبقى كفواصل الكلام تعيد طرح نفسها خلف كل جملة، جروح حية تبقى تنزف مهما مر عليها الزمن، تؤلم كلما أجترتها ذكرى خاطفة...