مدارات

الصدق مع النفس!

رجائي عطية
رجائي عطية

ليس أوهم للآدمى، وخداعًا له من اعتقاده أن أقرب ما فى متناوله أن يكون صادقًا مع نفسه : أليس هذا الصدق −بينه وبين نفسه− التشخيص الحقيقى المأمون لكل مشكلة أو معضلة أو داء، ولكل مطلب أو أمل أو رجاء، ومنه تنطلق الرؤية لما هو واجب لازم لتحقيق المراد المنشود؟! فكيف إذن لا يكون الآدمى صادقًا مع نفسه؟!، وما الذى يخيفه أو يحجمه أو يرده أو يقلقه من هذه " المصارحة " " الداخلية " " الصادقـة " مـع النفس مـا دام لا يطلع على همساتها ولا خلجاتها أحد، ولا يكشف مكنون سرها أو يفك لغتها مخلوق؟!

ولا يخلص الآدمى من مواربته مع نفسه، وعدم صدقه معها، إن حديثه إليها حديث صامت لا يسمعه سواه، ذلك لأن مصارحة النفس تنطوى على إقرار وتسليم بالموجب وبالسالب أيضًا، ولا تستبعد من دائرتها الأخطاء والنواقص والنواقض والخطايا والآثام والجرائم، وكلها مما تحب نفوس العاديين من الناس أن تتجاهل الإقرار به حتى لنفسها، لأنه عسير على الآدمى العادى أن يصدق مع نفسه فيما وقع أو يقع أو ينوى الوقوع فيه من خطايا وآثام، وإنما هو يلوذ تخلصًا من وطأة وضغط الإحساس بالوضاعة والدونية يلوذ بما يسمى فى علم النفس الحيل والآليات الدفاعية، وفى مقدمتها حيلة "التبرير" وهو كذب فى اللا وعى يزين لصاحبه الباطل حقًا، ويبرر له الخطيئة بمبررات لا تنطلى على العقل الواعى، كمبرر اللص الشريف أرسين لوبين الذى يسرق من الأغنياء لبر الفقراء؟!!!

والمصادر التى تنحر فى المحيط، وتوالى ترقيع نسيج حياتنا بخيوط من عدم الصدق، مصادر قديمة جديدة، لا تكف قط عن التلون والتشكل والتبدل والتماس الأثواب، حتى فى أحوج الأمور إلى الصدق وأقربها إلى وجوبه.. لا يدرك الناس من فرط اعتياد البعد عن الصدق مع النفس، قدر ما فى ضياع هذه " البوصلة ∪ من مخاطر تنحر فى المحيط مجموعًا وأفرادًا .. يسهـم فـى هذا الضياع، أو العجز، أن الصدق مع النفس لا يكون إلاّ مطلقًا، لا نسبية فيه ولا مواربة، يختلف فى ذلك عن غيره مما لا يكون من البشر إلاّ نسبيًّا، ذلك أن الصدق مع النفس إما أن يكون أو لا يكون، لأنه أمر " داخلى "، عبارة عن حديث النفس إلى النفس، ومصارحة جوانية تفقد معناها وغايتها إذا داخلتها مراوغة أو خديعة، فإذا برئت من هذا فإن الصدق فيها مع النفس يكون صدقًا مطلقًا، أمّا إذا شابتها النسبية، فقد حديث النفس إلى النفس ما يجب أن يكون عليه من صدق ومصارحة لا تناور ولا تراوغ!!

يبدو أن مفتاح الصـدق مع النفس، هو احترام الآدمى لذاته، احترامًا بعيدًا عن التفريط أو الهوان، وعن العبادة أو التضخيم.. فمن تهون عليه نفسه لا يحفل قليلاً أو كثيرًا بالصدق وعدم الصدق، ولا يبالى إلاّ بجدوى هذا أو ذاك من حيث المنفعة الخارجية الملموسة المحسوسة التى تعود عليه فى المحيط، ولا ينجو من هذه الآفة من تضخمت ذاته فى عين نفسه وغلبه التيه بها وبمكانتها المعبودة عن سواء موازينه، فيختل ميزان الصدق لديه وينحرف إلى تمجيد نفسه فى كل مناسبة حتى فى الشدائد والأحزان..لا يخلو معظم الناس من قليل أو غير قليل من هذا الاختلال، فنرى احتفاءهم بذواتهم شديدًا، وعنايتهم بتقديم أعمالهم وانتصاراتهم وصفاتهم مقرونة بادعاء صفحات المجد وإقحام اسم هذا أو ذاك من المشهورين من الأحياء والأموات بحجـة الاعتـراف بفضله، والمقصد الحقيقى من ذلك إنما يتجه فى الواقع إلى تزكية النفس بإلحاقها بالكبار؟!! إن الآدمى إن أمسك بحبل احترام الذات، أمسك بمفتاح الصدق مع النفس، ذلك المفتاح الذى يفضى إلى مفاتيح لا غناء للآدمى عنها فى رحلة الحياة!