انتبه الأغنية ترجع إلى الخلف.. التكاتك تتحكم في الذوق العام

تصوير أحد المهرجانات أمام توك توك
تصوير أحد المهرجانات أمام توك توك

هيثم وحيد


ظلت الأغنية العربية بخير إلى أن سيطر عليها الدخلاء والعشوائيون، ليقف اللسان عاجزًا عن الإجابة على السؤال الأصعب: كيف انحدر المستوى الفني والفكري من ألمظ وعبده الحامولي إلى أغاني المهرجانات والتكاتك.

 

لم تكن الحكاية وليدة الصدفة بل هى ثقافة جيل تحدد ما تسمعه من غناء وما تشاهده من فن.. وبدلا من أن يرتقى الفن بالجمهور نزل إليه فى مستنقع أفكاره.. فبدلا من انتقاء ثقافات المجتمع واختيار منها الأحسن لنشرها فى عقول الجمهور لنرتقى بالمجتمع .. اخترنا الأدنى منها والأقبح لنعممه بشكل أدى إلى انهيار الذوق العام.

منذ بدايات الأغنية العربية وهى تهتم بالكلمة واللحن الذى يغازل وجدان الجمهور ويحترم عقليته ويحترم المجتمع؛ حيث كانت بداية الخروج عن الإطار مع ظهور أحمد عدوية الذى كان محظورًا، حينها كان نجوم الأغنية الشعبية هم محمد العزبى وقنديل ورشدى ومن على شاكلتهم.

 

ولأن المجتمع تغير بعد حروب 67 و73، وعادة ما تتغير ثقافات المجتمعات بعد الحروب والثورات وتتعرض لهزات فنية وفكرية، ظهر أحمد عدوية بـ(السح الدح امبو) و(كركشندى دبح كبشه) وغيرها من أغانى الفلكلور اللغوي الذى طفى بها من عمق الحارة إلى سطح المجتمع لتلقى إقبالاً جماهيريا كبيرًا خاصة من فئة الشباب فى ذلك الوقت سواء من باب الفكاهة أو السخرية أو البحث عن أى جديد ومختلف كطبيعة الشباب الباحث دائما عن غير المألوف.

 

آنذاك، تم منع عدوية من دخول مبنى الإذاعة والتليفزيون ورفض اعتماده كمطرب شعبى بالإذاعة، ولكن السينما كان لها رأى آخر حيث أن المنتجين وخاصة التجاريين منهم دائما ما يبحثون عن كل ما يحقق لهم الأرباح بغض النظر عن مضمون ما يقدموه استعانوا به كظاهرة جديدة تحولت لموضة بين الشباب وقتها.

 

ومع الوقت أصبح عدوية أمرا واقعا؛ بل مع مرور الزمن تحول إلى أيقونة ورمز لجيل جديد من المطربين أمثال شعبان عبد الرحيم وعبد الباسط حمودة وحسن الأسمر، وظهرت ظاهرة ما يسمى بمطربي الميكروباصات وانتشرت أغانى عدوية وتلاميذه وسيطروا على (دماغ) راكبي الميكروباصات ولحق بهم رمضان البرنس وحمدى باتشان وتغيرت شكل الأغنية الشعبية التى كان يسمعها الشعب إلى أغنية أقرب إلى الحارة التى لا يفهما الكل ولكن يسمعونها من باب الجديد ولأن الأذن تتعود فمع الوقت فرضت أغانى الميكروباصات نفسها كأغانى شعبية.

 

 

كما تغير شكل ومضمون الأغانى الرومانسية والخفيفة والذى كان رائدها حميد الشاعرى الذى قلب حال الأغنية ونجح فى مغازلة عقول جمهور الشباب الجديد والذى كان قد تمرد على أغانى جيل العظماء من أم كلثوم والعندليب وفوزى وعبد الوهاب وغيرهم من نجوم الزمن الجميل.

 

وبدأت الأغنية الشبابية - كما أطلقوا عليها وقتها - فى الانتشار والسيطرة على الساحة الغنائية وعلى الجمهو، ولكن بشكل شيك.. وكل يوم يخرج علينا مطربين جدد يحققوا جماهيرية كبيرة سواء فى مصر أو الوطن العربى مثل عمرو دياب ومحمد فؤاد وفارس وهشام عباس وعلاء عبد الخالق وحنان ومنى عبد الغنى وسيمون وأنوشكا وغيرهم من نجوم الشباب وقتها.

 

ومع النجاح الساحق للأغنية المصرية والمطربين المصريين دخلت روتانا إلى السوق المصرية وبدأت بفرض سياسة الاحتكار الفنى.. وضخ مبالغ خرافية من أجل ذلك وتوقيع عقود احتكار مع المطربين المصريين بأرقام خيالية وإغراءات يصعب رفضها.. وفجأة يدخل المطربين المصريين إلى المخزن ويتم ركنهم على الأرفف فى الوقت الذى تم فيه تصعيد وتنجيم النجوم العرب من الخليج ولبنان وشمال أفريقيا.

 

 وبدأ تصعيد شباب جدد على حساب المطربين المصريين وبعيدًا عن فكرة المؤامرة والاحتكار تأثرت الساحة الغنائية فى مصر بشكل عنيف أدت إلى تقلص عدد المطربين النجوم.. فلم تجد فى الساحة سوى عمرو دياب النجم الذى لا يستطع أحدًا إيقاف قطار نجوميته وتألقه المستمر.. وعلى بعد خطوات كثيرة جدًا مازال تامر حسنى ومحمد حماقى فى (المقاوحة) من أجل الاستمرار على قمة النجومية.

 

 

ما بين هذا بقيت محاولات فردية تظهر كل فترة إلى أن قامت أحداث يناير.. وخروج التكاتك من الشوارع الجانبية إلى الشوارع والميادين الرئيسية وبسيطرة ثقافة التوكتوك، وقد ظهرت معها أغانى المهرجانات التى تعد هبوط حاد فى الدورة الغنائية.. وانتقلنا من مرحلة مطربى الميكروباصات إلى مرحلة جديدة من العبث الفنى والفكرى والثقافى بظهور مطربى المهرجانات والتكاتك وعلى رأسهم أوكا وأورتيجا الذين فتحوا الطريق لجيش من ذوى العاهات الفنية.

 

وكالعادة بعد الحروب والنكسات والثورات تحدث هزات تصيب المجتمع فنيا وفكريا وثقافيا.. ولأن الظاهرة تبدأ بنكتة وسخرية من الشباب وبتناولهم لهذه الأغانى من باب التغير والضحك تتحول مع الوقت فى ظل غياب الوعى إلى ظاهرة تنتشر فى المجتمع كالنار فى الهشيم وطبعا مع ظهور منتجى السينما التجار وسيطرتهم على الساحة فنجدهم يلهثوا وراء أى ظاهرة تحقق لهم الأرباح.. وأصبحت أغانى المهرجانات أمر واقع.

 

وأصبح نجوم المرحلة حمو بيكا وشاكوش والدخلاوية والمدفعجية ومحمد رمضان الذى نشر البلطجة والعشوائية عبر شاشات السينما بأفلامه.. ولن الواقع مع الاستقرار تغير وبدأ المجتمع يرفضه ويلفظه وجدها فرصة ليستكمل مشواره فى نشر الفكر العشوائى عن طريق غنائه لأغانى المهرجانات التى أصبحت تحقق نسب مشاهدة أعلى بكثير من متابعة أفلامه ومشاهدتها.

 

ومع انتشار أغانى المهرجانات والتكاتك التى تصدر عن مؤديين نشاذ لا يستطيعون حتى مجرد الكلام العادى، فتشعر وكأنهم مرضى بمرض التلعثم عديمى الثقافة لا يعرفون القراءة والكتابة.. فكيف لهؤلاء حمل راية الفن فى مصر إلى أى مستنقع يأخذون فيه الجمهور؟

 

 

المشكلة الأكبر أنه فى زمن السوشيال ميديا تحول هؤلاء إلى نجوم كبار يحققون أعلى نسب المشاهدة ليس على مستوى مصر فقط بل الوطن العربى أيضًا وأحيانًا بعض الأغانى مثل بنت الجيران تغزو أوروبا وأمريكا فهل هذا هو شكل الغناء الذى نريد أن نصدره للعالم على أنه هو الفن فى مصر.. وهل سنترك (دماغ) الجمهور لمثل هؤلاء من معدومى الثقافة والفن ليحولوها إلى مقلب للنفايات الغنائية، فالحل هنا ما تفعله الدولة حاليًا  عن طريق نقابة المهن الموسيقية بقيادة الفنان الكبير هانى شاكر.. وهى إصدار قرار منعهم من الغناء.

 

ولأننا فى زمن السوشيال ميديا والذى من خلالها يستطيع أى أحد أن ينشر ويشيع ويذيع  ما يريد دون رقيب أو حسيب، كما أن بعض الحفلات والاحتفالات تستعين بمثل هؤلاء دون مراعاة قرار النقابة.. فهناك أيضًا الاهتمام بالدفع بالمواهب الجديد والتى تتمتع بالموهبة الحقيقية والثقافة والشكل الفنى المحترم والشيك.. ففى ظل التغيرات والتطور الذى يمر به المجتمع ككل فالفن أيضا يمر بمثل هذا التطور.

 

 والأغنية المصرية حاليًا تحتاج تضافر كل الجهود لإعادة صياغتها من جديد لتعود إلى الريادة فى المنطقة مرة أخرى، وهذا من خلال تطوير فكر وعقلية الجمهور نفسه، وأيضا كما قال أحد الملحنين الكبار ما المانع من الاستفادة من فكرة موسيقى المهرجانات واستخدامها بعد تطويرها بشكل علمى وتحويلها إلى صبغة مصرية جديدة بشكل علمى محترم بدلا من تركها فى يد النشاذ وفاقدى العقل والموهبة.. واستخدام من يعرفون تفاصيلها ومفرداتها ولكن يتمتعون بموهبة وصوت حلو.. مثل عمر كمال مثلا هذا الشاب الذى يتمتع بصوت حلو وموهبة حقيقية ويغنى المهرجانات.