يوميات الأخبار

قد يهون العمر إلا لحظة

د. مبروك عطية
د. مبروك عطية

الفلاح  الشاطر هو الذى لا يغادر حقله بل يمكث فيه يعالج ضعيف زرعته ويمنع اعتداء عود على عود.

 السبت:
«قد يهون العمر إلا ساعة» هكذا قال شوقى، وقلت «لحظة» مراعاة لفارق التوقيت، فقد كانت الساعة فى زمان الشاعر متوافرة حيث لا إلهاب بسرعة، ولا سوء بمرور، والشاهد واحد أن العمر كله قد يهون ولكن وقتا ما منه لا يهون،، ترى لم عز على الحى أن تهون لحظة أو ساعة من عمره، بينما لم يعز عليه أن يهون عمره كله، فليذهب كل العمر سدى وهباء، ولتبق هذه اللحظة، وما من شك فى أن هذه اللحظة قد مضت كما مضى العمر كله الذى منه هذه اللحظة، لكنها مضت واقعا وبقيت خيالا أو واقعا جديدا، تسرى أنهاره أمام عين من لم تهن تلك اللحظة عليه، فلا مياهها براكدة، ولا شمسها المتوهجة بغائبة أبدا، ترى ما سوف تكون هذه اللحظة؟ وبم استحقت تلك القيمة العظيمة؟ والجواب يختلف باختلاف المشرب، والثقافات، فأهل التعبير بالدين صدقوا أو كانوا من الكاذبين يرون أن تلك اللحظة التى قد تكون يوما كيوم عرفة هى ما قضوه فى طاعة ربهم، فى صلاة وتسبيح، ولقاء أخ فى الله بلا غرض من أغراض الحياة الدنيا، وأهل الفن يرون تلك اللحظة هى ما قضوه فى ساعة تجلٍّ وكشف، وإلهام، فرسموا أو نحتوا أو عزفوا، أو نظموا، فأبدعوا، وأهل الهوى يرون هذه اللحظة لقاء حبيب، أو استمتاعا به فى غياب العزول والوشاة، وغياب الرقيب عموما، صفا الجو فكانت مناجاة الروح للروح، واستدعاء كوامن العشق التى حفرت قيمة هذه اللحظة فى سويداء الفؤاد، فمنها سرى الدم، ومنها كان النبض، فكانت الحياة، وأهل المعدة يرون أن تلك اللحظة كانت فى وليمة عظيمة، ولقمة شهية يقال فيها لا تعوض أبدا، وصدق من قال: كل يبكى على ليلاه، والجامع بينهم ليلى حروفا دون معنى، فلكلٍّ ليلى مختلفة عن ليلى أخيه.
وتهون الأرض إلا موضعا
الأحد:
والحق أن تتمة هذا البيت مهمة، وهي: وتهون الأرض إلا موضعا، وفى فكرى ووجدانى، بل وفى وجدان كل من ذاق معنى الانتماء: وتهون الأرض إلا وطنا.. ووطنا: فَعِلُنّ أصلها: فاعلن أو أيؤدى الى كسر البيت لكن أمير الشعراء أمير البيان، والمعنى أن أصغر شىء وهو الموضع الذى قد يكون موضع فنجان صغير فى مقابلة الأرض الواسعة تهون بوسعها تلك الأرض، وهذا الموضع الصغير الضئيل لا يهون، وذلك يدل على قيمته عند من لم يهن عنده، أو عليه.
ويمكن استثمار هذا المعنى تربويا واجتماعيا، أعنى أن نربى ابناءنا على أن يكون فى حياتهم وقت تهون القرون ولا يهون، أى لا تكون الحياة كلها سواء حتى لو كان بعضها أغلى من بعض، وهيهات أن يصلوا إلى مرادنا هذا إلا إذا رأوا منا ذلك أى إذا كنا أسوة لهم، فالحياة فى سياق التربية قائمة على المحاكاة، أكثر منها قائمة على التلقين، والنفس تميل الى المحاكاة بسهولة ونعومة أكثر مما تميل الى التلقين، لأن التقليد والمحاكاة بمثابة المشى على الجادة، والتلقين بمثابة التنقل فى الحفر وسط البنيات- أى الطرق المتعرجة المرهقة للسائرين فى جوف ليل بلا نجوم-، تتخبط بهم الخُطى وتتعثر بهم المراحل ولا دليل ولا رفيق وهؤلاء إن وصلوا فوصولهم عشوائية، وإن ماتوا فى الطريق فلا لوم إلا على أنفسهم، ولكن أين أنفسهم التى هى محل لهم وقد ماتوا؟! إنما ينفع اللوم اذا وصلوا متأخرين وسبقهم غيرهم ففاز وحده بما كانوا مشتركين فيه ومتطلعين اليه «اللى سبق أكل النبأ»، عندئذ يقتلهم الندم بلا سكين، ويصح أن تطلق عليهم «مساكين»، لكن من المساكين من لا يصعب عليك حالة لأنه فرط حيث حفظ غيره، وأهمل حيث اجتهد غيره، ونام فى غير أوقات النوم حيث صحا غيره وأفاق، فلا تقولن لولدك: احرص على صلاة الفجر، وهو يراك غير حريص عليها، إنما يحرص عليها ولدك حين يكون ذراعه فى ذراعك وأنت متجه لادائها فى المسجد، أو قائم تصليها فى بيتك وهو عن يمينك أو وراءك إذا كان معه إخوته، ونحن أمة غيّر أكثرها المعانى فهدموا بذلك المبانى، فقد صار معظمنا خطباء واعظين لا أئمة فاعلين، فأين نحن من قول الله تعالى: «واجعلنا للمتقين إماما»؟! وفى الحديث الصحيح يقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به»، ولا يؤتم فى بناء الأمم بخطيب وإنما يؤتمُّ بفاعل، ويذكر التاريخ أن عثمان رضى الله عنه حين خطب أول خطبة له فرّ منه الكلام فقال: «الناس فى حاجة إلى أمير فعّال لا إلى أمير قوال»، وقد كانت مصر أيام الراحل جمال عبدالناصر يجرى على لسانها: «متى سيخطب الرئيس؟»، لأنها تتطلع إلى خبر يسر كتأميم قناة السويس.
وحين خطب الرئيس عبدالفتاح السيسى إثر الحادث الأليم الذى راح ضحيته مئات الأبرياء على يد حمقى جهلاء خفف من آلامنا لتوعده لهؤلاء المجرمين الإرهابيين، والثأر لشهدائنا الأبرار، وهكذا تتطلع النفوس إلى الخطب التى تعلو بها الرايات فى سماء الإنسانية.
وذرفت عيناىّ الدمع
الاثنين:
على الشاطئ الأيسر لترعة قريتنا الرئيسية حقل فتحت عينيّ عليه، وعرفت خطاى إليه، فمن صلب دارنا إلى عمق حقلنا عرفت الحياة، لم ينشدنى أبى رحمة الله عليه قصيدة فى حبه، ولم يحك لى ذكرياته فيه، وإنما تعلقت أناملى الصغيرة بطرف جلبابه وهو متجه إليه بعد ركعتى الفجر، عاشقا ليس فى حياته معشوق سواه فأدركت معنى الحب بدون حروفه وقرأت كل شىء مجسدا أمام عينيّ دون أن أفتح صفحته فى كتاب، فقد كانت كل الصفحات مفتوحة أمامى حجرة ضيقة ملتصقة بحظيرة المواشى كانت أوسع -ومازالت- من الدنيا وما فيها، لأنها كانت تحوى كل شىء فيها، نومة لمن أراد أن يضطجع، وفوقه نافذة صغيرة تزف اليه نسائم كل الحقول وفيها زجاجة الزيت المباركة التى لا أنسى شكلها متربة من الخارج لكن زيتها بالداخل أنظف من النظافة وإلى جوارها حبات البصل والثوم والملح والفلفل الأسود وبرطمان الشاى، وأخوه برطمان السكر وعلبة الكبريت التى كانت تغنينى عن سؤال الناس عودا من الكبريت وشطاطة وأسفل هذه الحجرة مكان صغير زرع أبى كل شيء فيه النفس تشتهيه وهو على الترتيب كما رأت عيني: بامية، وفلفل أخضر، وباذنجان، وجرجير، وبصل، وحبات من الطماطم، وبطيخ كان يقال فيه شيطانى وقد عدلتها الى ربانى، فإن الشيطان لا ينبت طعاما وكان هذا المكان يسمى «رأس الغيط»، وأسفله الزراعات المعتادة من القمح والذرة والبرسيم فى الشتاء تزينه أعواد من الفول الحراتى «الأخضر»، وحين كنت أصل مع والدى الى هذا الفدان الذى كان والدى يستأجر فدانا إلى جواره أجد أنفاس أبى قد هدأت، فعرفت دون أن يشرح لى أن راحته فى هذا المكان.
ولما قرأ فى عينيّ سؤالا يقول: لماذا يا أبت تحرص كل هذا الحرص على بقائك فى الحقل لا تغادره أبدا؟ فأجابنى بقوله دون أن يسمع مني: لعلك تقول يا مبروك لماذا نعتكف على حقلنا؟  والجواب باختصار أنه سر حياتنا وموضع رزق الله لنا، والفلاح  الشاطر هو الذى لا يغادر حقله بل يمكث فيه يعالج ضعيف زرعته ويمنع اعتداء عود على عود فيرفع المعتدى عن المعتدى عليه، يسنده بطوبة فيستوى العودان وبالعدل يتجاوران فلا يميل قوى على ضعيف فإن مال بعد تعديله كان طعمة للجاموسة.
وشب مبروك عن الطوق وصار رغم دراسته فى الأزهر خير عون لأبيه.
لم أسأل أبى ماذا أفعل فقد علمنى كل شىء بالعمل لا بالخطب، وحين مات أبى وجدت رغبة عند اخوتى أن يبيعوه فذرفت عيناى الدمع، ولما  وجدت رسالة الدمع فى عينيّ لم تصل فتحت كيسى وأخرجت مدخراتى واشتريته، فكانت  وسيلة المال أسرع وتركته لهم يزرعونه وما بقى لى فيه إلا ذكريات تبعث من موات نفسى وتسقى بماء الطهر وجداني.
ومنذ حوالى ثلاثة أشهر زرته وبصحبتى أصغر رجالى عطية مبروك، فلم يلتفت الى شىء فيه، ولم يذكره حينما ذكرته به وأنا أكتب هذه السطور، وسبب واحد هو الذى جعل ولدى ينساه أنه لم يرنى كما رأيت جده أذهب إليه كل يوم.
وعلى باب الحارة وقفت ملهوفة
الثلاثاء:
كنا وسائر الفلاحين نعود إلى ديارنا بمواشينا مع غروب الشمس وكان يتحقق فينا قول الله تعالى: «ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون»، أى أن جمال المواشى يكون أعلى فى الرواح منه فى الخروج بها أول النهار وسر علو الجمال فى المواشى عند الرواح أنها قد شبعت، وعادت تسر أعين الناظرين، فلا جمال مع الجوع والعطش ولا حضارة مع التخلف والغباء.
ومن النادر أن يتأخر فلاح فى عودته بمواشيه بعد المغرب بساعة فالضرورة موجودة فى كل زمان ومكان حبل فى رقبة الجاموسة قد قطع أو ريّ للزرع لم يكتمل، أو جاءت ساعة المخاض لبقرة أبت إلا أن تلد فى الحقل، ولم تكن فى أيدى الفلاحين ولله الحمد موبايلات يتصلون من خلالها بمن ينتظرونهم، وأحمد الله على فقدان تلك النعمة وإلا لفسد الحرث والزرع والمواشى وتحولت أنغام السواقى وأصوات الطيور ومناجاة الفقراء ربّ الأرض والسماء أن يبارك لهم فى زرعتهم وذرياتهم إلى موسيقى ورنات ورغى وحكايات.
وعرضت لنا ضرورة كهذه فتأخرنا وحين عدنا وجدت أمى على باب الحارة واقفة ملهوفة ليس على لسانها إلا: يارب استر، فلما رأتنا من بعيد عرمت إلينا حافية القدمين من شدة فرحتها بعودتنا وقد تعلمت من هذه السيدة درسا لم أجده إلا فى صحيح البخارى وهذا الدرس أنها كانت لا تسأل عن سبب التأخير لأنها مشغولة بفرحة العودة ومن ثم كتبت فيها وأنا تلميذ فى الصف الرابع الابتدائى مخاطبا أبى:
«يا ليلة عدت فيها فى المساء، وناديت بعمق ما فيك وقلت: يا بت، أمى ست لكنها كانت تستعذب منك البنت، أين كنت؟ لا، لم تأخرت؟ لا، كل شىءكان فيها، كل معنى يحتويها أنك الآن جئت».
وفرحت أمى بعودتنا، ولم تلبث أن جاءت لنا بالعشاء الذى تناولناه على جوع وانقلبنا بعده كأنا أصحاب الكهف حين ذهبوا فى نوم عميق.