يوميات الاخبار

إلغاء الخلافة العثمانية

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

انتهت قصة الخلافة التركية، لكن لم تنته قصة الخلافة الإسلامية، فقد تطلع إليها كثيرون، ومنهم الملك فؤاد ملك مصر

هذا العام تحل الذكرى المئوية لإلغاء الخلافة العثمانية، على يد مصطفى كمال أتاتورك، وبإلغائها تغيرت أشياء كثيرة، فقد تحولت تركيا من دولة خلافة إلى دولة قومية، ومن سلطنة إلى جمهورية، ومن دولة دينية إلى دولة علمانية، كما ترتب على إلغاء الخلافة أيضاً أن الدول التى كانت تتبع الخلافة قد صارت حرة غير خاضعة لسيطرة تركيا، وعلى رأس هذه الدول مصر. وسنروى هنا لمحات من قصة الخلافة العثمانية، خصوصاً فيما يتعلق بمصر.
• نقطة البداية
نحن الآن فى عام ستمائة وستين للهجرة، الخلافة العباسية فى بغداد سقطت على يد هولاكو، منذ ثلاث سنوات ونصف. أخيراً تبين الظاهر بيبرس، حاكم مصر وبلاد الشام والحجاز، وجود أمير من الأمراء العباسيين يسمى الإمام أحمد، كان معتقلاً عند جماعة ببغداد. بالبحث تبين أن هذا الأمير هو ابن الخليفة الظاهر بالله، وعم المستعصم آخر الخلفاء العباسيين. أرسل فى طلبه، فجاء الرجل من بغداد، وحين اقترب من القاهرة خرج الظاهر بيبرس بنفسه لاستقباله. فرش له المصريون الأرض بالسجاجيد الحمراء. وحين وصل نزل الظاهر بيبرس عن فرسه احتراماً له، ونزل الرجل عن فرسه تقديرا للظاهر بيبرس. تعانقا. وركبوا جميعاً إلى القاهرة.


كان بصحبة الإمام أحمد حوالى عشرة أفراد، منهم الأمير ناصر الدين بن مهنا، شيخ العرب، وجماعة من العربان. ساروا جميعاً فى الركب. حين وصلوا القاهرة دخلوا من باب النصر. وشقوا القاهرة، وخرج أهل القاهرة يستقبلون آخر سلالة بنى العباس، وحمدوا الله الذى حفظ هذه السلالة العباسية.
بعد أيام من الراحة عقد الظاهر بيبرس مجلساً حافلاً، وجمع القضاة ومشايخ العلم وأعيان الصلحاء والزهاد والأمراء وأرباب الوظائف فى قاعة الأعمدة، وترك إدارة الجلسة لسلطان العلماء العز بن عبد السلام. أثبت العلماء الحاضرون والشهود الذين جاءوا مع الإمام أحمد من بغداد أنه ابن الخليفة العباسى الظاهر بالله، ثم تم تنصيبه خليفة للمسلمين، ولقب بالمستنصر بالله، وبايعه الظاهر بيبرس بالخلافة، وبايع الخليفةُ الظاهرَ بيبرس بولاية مصر والشام وما سيفتح على يديه من البلاد الكفرية.
من هذه اللحظة انتقلت الخلافة العباسية من بغداد إلى مصر، واستمرت بها حتى نهاية الدولة المملوكية.
• السلطان سليم يستولى على الخلافة
فى عام 1517 للميلاد، الموافق العام الثالث والعشرين بعد التسعمائة للهجرة، استولى العثمانيون بقيادة سليم الأول على حكم مصر، وبعد أن استقرت لهم الأمور، سار السلطان سليم إلى الخليفة. نهض الخليفة لاستقبال السلطان احتراماً. قال السلطان سليم للخليفة:
- ألم يشبع العباسيون من الخلافة؟ إن لكم الآن حوالى ثمانمائة عام فى الحكم. ألا تظن أن هذا يكفي؟
- لا أفهم قصدك يا حضرة السلطان.
- قصدى واضح. أريدك أن تتنازل لى عن الخلافة.


- هذا لا يجوز.
- لم؟
- المفروض أن الخلافة لا تكون إلا لرجل من قريش.
- سنغير هذا الشرط. منذ الآن ستكون الخلافة لمن غلب، وأنا غلبت.
- لكن الخلافة يجب أن تتم بالبيعة، أى يجب أن يبايعك أكابر الناس ووجوه الأمة، وهذا لم يتم.
- هذا كله لا يعنيني. لقد استوليت على حكم مصر بحد السيف، وسأستولى على الخلافة منك إما بالحسنى أو بحد السيف.
- يبدو أنك عقدت العزم على الفوز بالخلافة دون الاهتمام بأى شيء.


- فعلاً. ماذا قلت؟
- قلت: لك ما تريد. إننى اتنازل لك عن الخلافة.
- ليس عن الخلافة وحدها، فأنا أريد أيضاً ما لديك من الآثار النبوية.
- لك كل ما تريد يا حضرة السلطان، فأنا لا أرغب فى الوقوف فى وجه السلطان المنتصر الذى يرى أنه يستطيع أن يصل لما يريده بحد السيف.
وتنازل الخليفة للسلطان المنتصر عن الخلافة، فصار السلطان التركى منذ هذه اللحظة يجمع بين السلطنة والخلافة، واستمر الوضع هكذا أكثر من أربعمائة عام. والمهم أن السلطان سليم لم يكتف بالاستيلاء على الخلافة، بل أمر بخروج الخليفة نفسه من القاهرة إلى استانبول، لتنتهى بذلك الخلافة العباسية، وتبدأ الخلافة العثمانية.
• أعمار الدول
يرى ابن خلدون أن الدول مثل البشر، تولد، تكبر وتنضج، ثم تشيخ، وبعد ذلك تموت. وهكذا مرت الدولة العثمانية بهذه المراحل التى استغرقت مئات السنين. وحين وصلت الدولة العثمانية إلى أواخر القرن الثامن عشر كانت قد شاخت، وطمعت فيها الدول الأوروبية، وأسمتها «الرجل المريض». وحاول محمد على باشا وولده إبراهيم فى أوائل القرن التاسع عشر أن يقيما دولة جديدة بدلاً من الدولة التركية العجوز، لكن أوروبا وقفت فى سبيل الرجلين ومشروعهما الطموح، لأنها كانت تريد أن تستفيد من حالة الضعف التى تعيشها الدولة العثمانية، وأخيرا حانت لحظة الوفاة عند هزيمة تركيا فى الحرب العالمية الأولى، فلم تلبث الأمور بعدها أن سارت بحدة لاستخراج شهادة وفاة الخلافة.


• نوفمبر 1922
فى هذه الفترة لمع نجم مصطفى كمال أتاتورك، وتبنى فكرة أن تكون تركيا دولة مدنية، وجمهورية، بدلاً من الخلافة، وكانت أول خطوة فى تحقيق هدفه هى فصل الدين عن الدولة، أو فصل الخلافة عن السلطنة، فالسلطان هو الذى يحكم أما الخليفة فتكون سلطته اسمية، مثل الفاتيكان فى روما. وقد وافقت الجمعية الوطنية التركية على هذا الفصل فى أول نوفمبر 1922، فكانت هذه الخطوة ذات دلالة على ما هو قادم.


• 19 أكتوبر 1923
فى هذا اليوم أُعلن مصطفى كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية، فكانت هذه هى الخطوة الثانية نحو إلغاء الخلافة بعد أكثر من أربعمائة عام.
• 3 مارس 1924
فى هذا اليوم تقدمت مجموعة من الأعضاء للجمعية الوطنية التركية بمشروع قانون لإلغاء الخلافة، فوافقت عليه الجمعية، وأُعطى الخليفة عبد المجيد مهلة عشرة أيام لمغادرة البلاد هو وأسرته، وفى الموعد المحدد غادر عبد المجيد تركيا، ليطوى صفحة طويلة من التاريخ.


• القصة لم تنته
انتهت قصة الخلافة التركية، لكن لم تنته قصة الخلافة الإسلامية، فقد تطلع إليها كثيرون، ومنهم الملك فؤاد ملك مصر فى هذا الوقت، فالخلافة ستكون لها سلطة أكبر، وتتبعها الدول الإسلامية السنية كلها، وستمنحه نفوذاً أوسع من ملك مصر، لذلك رأى أن يسعى نحو استعادة الخلافة لمصر بعد خروجها منها لأكثر من أربعمائة عام (1517- 1924). ووجدها الأزهر فرصة للدعوة لجلالته، وتكوَّن فى القاهرة كيان تنظيمى يسمى «المؤتمر الإسلامى العام للخلافة»، تتبعه لجان فى كثير من المراكز والقرى داخل مصر، كما تكونت لجان للخلافة فى بعض الدول، مثل الهند وإندونيسيا. وكانت مجلة المنار تتبنى الفكرة، كما نشأت مجلة جديدة تسمى «مجلة الخلافة الإسلامية» كانت لسان حال أصحاب الفكرة. وقرر الداعون لهذه الفكرة عقد مؤتمر فى القاهرة فى مارس 1925 للبحث فى موضوع عودة الخلافة. لكنه لم ينعقد إلا فى مايو 1926، وكان انعقاده تحت رياسة شيخ الأزهر (الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى)، وحضر هذا المؤتمر خمسة وعشرون مندوباً، إلا أن نتائجه جاءت مخيبة للآمال، حيث قال مندوب الهند إن الخلافة خلافة أقوام لا خلافة فرد، وهذا رأى ابن كثير فى تفسيره للمقصود بكلمة «خليفة» فى القرآن. وقالت إحدى اللجان المنبثقة من المؤتمر إن مركز الخلافة قد تراجع بعد نشوء الحكومات الوطنية، وإنه لو فرض وتوافر الاستقلال للشعوب الإسلامية وعدم الخضوع لغيرها، فإن «أهم الشروط فى الخليفة أن يكون له من النفوذ ما يستطيع معه تنفيذ أحكامه وأوامره، وأن يدافع عن بيضة الإسلام وحوزة المسلمين طِبق أحكام الدين، هل من الممكن الآن قيام الخلافة الإسلامية على هذا النحو؟».
وأهم ما أسفرت عنه محاولة استعادة الخلافة هى المعركة الفكرية التى نشبت بين مجموعة من المفكرين، لعل أهمهم جميعاً الشيخ على عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى فجَّر هذه المعركة، ورفض الفكرة القائلة بأن الخلافة أصل من أصول الدين. وقد استطاع الكتاب وأد الفكرة، وظل فؤاد ملكاً لمصر فقط وانتهى حلمه بالخلافة.


• الإخوان وحلم الخلافة
ألغيت الخلافة عام 24، وفشلت محاولة الملك فؤاد فى استعادتها لمصر سنة 26، وأعلنت جماعة الإخوان سنة 1928، وكتب حسن البنا أن من أهداف الجماعة إعادة الخلافة، لكن سيد قطب هو الذى قدَّم تنظيراً للفكرة فى كتابه «فى ظلال القرآن» وكتابه «معالم فى الطريق»، وجعلها أصلاً من أصول الدين، ولا يكتمل إيمان المسلم إلا بالاعتقاد بالحكم بما أنزل الله، وكفر من يخالفه، ومن أفكار سيد قطب نبعت كل الجماعات التكفيرية والإرهابية التى تعلن بوضوح أنها تهدف لإعادة دولة الخلافة، مثل التكفير والهجرة، وكل فرق السلفية الجهادية، وغيرها.