من الفايكينج إلى المماليك

د. ريم بسيوني
د. ريم بسيوني

بقلم: د.ريم بسيوني

كنت أحكى لكم الشهر الماضي عن رحلتى للنرويج وعن ارتباط الهوية هناك بالمقاتلين الفايكينج. 

ولكن السؤال هو ماذا ترك لنا الفايكينج من آثار؟ 

للحق كنت اهتم بأمر الفايكينج منذ درستهم فى الجامعة. وكنت أود أن أرى آثارهم وأنا أسير في شوارع أوسلو، ولأننى بطبعي أحب العصور الوسطى، كنت أتصورهم يسيرون أمامي وأرى أهل البلد بملابسهم فى مخيلتى يحملون السيوف ويحاربون. جمح بى خيال الكاتب حتى وأنا ذاهبة إلى أوسلو كباحثة فى علم اللغويات الاجتماعية وليس كروائية. 

أخذتني صديقتي النرويجية بحماس لزيارة متحف الفايكينج. المتحف منظم جدًا وبه محل لبيع المجوهرات والملابس المستوحاة من العصر. ولكن ما تبقى من أثر للفايكينج قليل. هناك سفينة خشبية جمع الأثريون أخشابها لإعادة عرضها لأن الفايكينج كانوا يجيدون القرصنة والحرب البحرية. 

قارنت بلا إرادة بين هذا المتحف وبين آثار المماليك في مصر. وحزنت. 

 العصر المملوكي 

حزنت لأن صديقتي كانت تتكلم بحماس وفخر عن تأثير الفايكينج وما تركوه. حزنت لأنها اعتبرت أن الفايكينج جزء مهم من التاريخ لابد أن نفخر به.  بينما نحن فى مصر لا نعرف الكثير عن العصر المملوكى وقليل جدًا يفتخر به. بل يعرف قيمته المتخصصون فى الآثار والتاريخ وليس كل المثقفين أو الناس بوجه عام.

تسنى لى معرفة العصر المملوكي عندما بدأت البحث العلمى لمعرفة تاريخ مدرسة ومسجد السلطان حسن وكان هذا عام 2013 ومنذ ذلك الوقت والمماليك يستغرقون منى الكثير من الوقت. لأن آثارهم تملأ القاهرة، نعرفها وتنبض بالحياة حولنا، ولكننا فى معظم الأوقات لا نهتم أو لا نكترث. 

حزنت لأننى سمعت مثقفين وأساتذة غير متخصصين، يتهمون المماليك بأنهم محتلون، لم يفعلوا شيئًا ولم يتركوا سوى بعض المبانى. للعلم صديقتى غير متخصصة فى الفايكينج ولكنها تستطيع أن تروى تاريخهم بكل سهولة كأنه جزء من كيانها. لأن فكرة حراسة الأثر والتاريخ منقوشة فى ذاكرتهم وجزء من هويتهم. 

نحن بلد التاريخ، ولكننا ننتقى منه ما نريد دون دراية وقراءة وفهم ودون أن نجتهد لنعرف بلا تحامل أو ميل. كل أثر مملوكي في مصر يشهد على عظمة المهندس المصري والسلطان الذي طلب منه البناء. هذا عصر نهضة حقيقية وللعلم هذا ليس رأيي أنا، بل رأى المتخصصين من كل دول العالم. ومع ذلك الكثير منا ينظر إليه على أنه عصر احتلال وليس عصرًا مصريًا مهمًا. وهذا ليس دقيقًا تاريخيًا.

 أجمل مبان 

استمر حكم المماليك لمصر 267 عامًا تختلف فترات المماليك وتتباين، ولكن يتسم العصر بالاهتمام بالثقافة والتجارة والبناء. أجمل مبان في مصر من العصر المملوكي. ومع ذلك البعض يراهم جنودًا غير مصريين. مع أن كل بلاد العالم تفتخر بمن بنى بها ومن قرر أن يتخذها وطنًا ومن قرر أن يحيا بها. 

مثلًا اينشتين تتصارع عليه أمريكا وألمانيا ونحن نترك أشخاصًا ملهمة مثل بيبرس البندقداري وقلاوون الألفى وندعى أنهم لا ينتمون إلينا مع أنهم بنوا فى مصر واتخذوها وطنًا ولم يكن لهم وطن غيرها. 

المماليك كانوا أطفالًا كثيرون منهم من عائلات أو أبناء أمراء. مثل قطز الذى جاء من العائلة الحاكمة فى الدولة الخوارزمية، ثم تم بيعه وهو طفل بعد دخول المغول بلاده وأصبح بعد ذلك سلطان مصر فى العصر المملوكى. يتعلم المماليك فى الطفولة اللغة العربية والشريعة من حوالى سن 9 سنوات حتى 13 ثم يبدأ تعليمهم مهارات الحروب.  لو نظرنا فى إنجازات السلطان منصور قلاوون الألفى سنجد أنه أنشأ مستشفى استمر فى العمل لأكثر من خمسمائة سنة كان مستشفى تعليميًا يصنع فيه الكيميائيون والأطباء العقاقير ويوزعونها على المرضى مجانًا كما كان الأكل مجانًا أيضًا. قيل إن قلاوون عزم على بناء المستشفى عندما مرض فى الشام وأنقذته من الموت مستشفى هناك فأقسم أن يبنى مستشفى فى القاهرة. هل يمكن ألا نفخر بقلاوون؟ ألم يكن قلبه وهو مريض مع مصر؟ أليس هو جزءًا مهمًا من تاريخنا؟ عندما مرض فكر فى مصر ألا يعتبر مصريًا باختياره؟ هذا غير المدارس التى بناها واهتم بها.

 232 أثرًا 

لنعلم أولادنا ان الأثر جزء مهم من التراث والهوية. ترك لنا المماليك 232 أثرًا مسجلًا بينما الاثار الإسلامية المسجلة حاليا 548. أى ان حوالى نصف الاثار الإسلامية شيدت فى العصر المملوكي. ألا يحتاج منا هذا العصر إعادة قراءة؟ 

الدولة المملوكية حكمت مصر من عام ١٢٥٠ حتى دخول العثمانيين عام ١٥١٧. مماليك الدولة العثمانية يختلفون فى طبيعتهم وانتمائهم عن مماليك الدولة المملوكية. أو المماليك المصرية كما كان التجار الإيطاليون يطلقون عليهم. اي ان هناك خلطًا عند الناس بين المماليك الذين قضى عليهم محمد على فى مذبحة القلعة وهم مماليك الدولة العثمانية وبين مماليك الدولة المملوكية. ولابد من التفرقة بينهم تمامًا. لأن الدولة المملوكية كانت فى ازدهار وتقدم حتى تدخل البرتغالى واكتشف طريق رأس الرجاء الصالح. بل سيطر المماليك على طرق التجارة والبحور فى العصور الوسطى حتى انهم حاربوا البرتغاليين فى بحور الهند فى موقعة ديو البحرية عام (1509) 

اثناء البحث فى التاريخ الإسلامي الوسيط. وجدت كتابًا علميًا باللغة الإنجليزية يتكلم عن فكرة المصريين عن المماليك ويشرح اسباب الفكرة السلبية التى تنتشر بين  المتخصصين. يقول الكتاب ان اسرة محمد على فى مصر كانت بالطبع ضد كل المماليك سواء القدامى او من تم قتلهم من محمد على، لذا حتى قيام الثورة كانت الروايات والكتب تعطى نظرة سلبية عن المماليك كنوع من الدعاية لأسرة محمد على. وبعد قيام الثورة كان هناك ايضًا كتاب مصريون يريدون انتقاد نظام عبد الناصر بطريقة غير مباشرة فلجأوا الى تاريخ المماليك، كرمز سياسى مما أدى الى مزيد من التحامل على المماليك. لذا فالفكرة التى عند وجدان الناس لها أبعاد ايديلوجية وسياسية وتاريخية. 

 إعادة قراءة التاريخ 

نحن نحتاج إعادة قراءة تاريخ مصر بفخر. ففى العصر المملوكى المعمارى الذى بنى هذه الآثار العظيمة مصري، والشاعر الذى نسج بالكلمات مصري، والصانع الذى أنتج زجاج المورانو لأول مرة فى العالم، مصرى والتاجر الذى سيطر على البحور، مصرى والقاضى والشيخ مصري. للمصريين دور قوى ومؤثر فى كل الفترات التاريخية.  فلنقرأ تاريخنا للبحث بداخله عن الجمال لا لنقتطع فترات منه وندعى أنها لا تخصنا. 

فشعراء مثل «الشاب الظريف» و»صفى الدين الحلي» الذى غنى له عبد الوهاب قصيدة «قالت» كانوا فى العصر المملوكي. 

يعتبر المؤرخون العصر المملوكى آخر العصور الذهبية للدولة الإسلامية فى مصر واهم عصور الاستقلال بالنسبة لمصر.

نحتاج أن نعيد فهم تاريخنا كله ولا ننتقى منه ما يتماشى مع نظرتنا للأمور الآن فقط. نحتاج أن نعلم أولادنا أن تاريخنا كله يدعو للفخر لا يوجد فترات غير مهمة. نحتاج أن نحتوى ونستوعب هويتنا.

واترككم مع كلمات شاعر لابد من إعادة قراءته وهو «الشاب الظريف».

يقول الشاعر :
«لا تُخف ما صنعت بك الأشواق
وأشرح هواك فكلنا عشاق
يا رب قد بعد الذين أحبهم
عنى وقد ألف الرفاق فراق».