عبدالحليم قنديل يكتب: إذا تحدث «الهدهد»

الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل
الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل

كما "هدهد" النبى "سليمان" ، الذى عاد إليه بنبأ "بلقيس" وقومها فى مملكة "سبأ" القديمة ، عاد "هدهد العصر" إلى "حزب الله" فى لبنان ، وهو يحمل معه صورا صافية مفصلة عالية الدقة لكل شئ فى ميناء "حيفا" "الإسرائيلى".

وأصدر الإعلام الحربى للحزب مشاهد الحلقة الأولى من مسلسل "الهدهد" ، والإشارة "الهدهدية" هنا منصرفة إلى  طائرة مسيرة من صنع إيرانى ، تحمل اسم "الهدهد 3" ، طارت عبر 27 كيلومترا من حدود "لبنان" الجنوبية ، والتقطت صورا من فوق "كريات شمونة" و"نهاريا" و"صفد كرمينيل" و"العفولة" و"كريوت" وصولا إلى "حيفا" على شاطئ البحر المتوسط.

وفى الإصدار "الفيديوى" الأول، بدت "إسرائيل" عارية تحت نور الشمس ، وانكشفت الأسرار كلها فى شريط "هذا ما رجع به الهدهد"، من مصافى البترول وحاويات المواد الكيماوية فى محيط ميناء "حيفا" ، إضافة للقواعد العسكرية ومنظومات الدفاع الجوى و"القبة الحديدية" ومنصة "مقلاع داود" وشبكات الرادار ومصانع الأسلحة والصواريخ والسفن والغواصات ، ومصانع ومخازن شركة "رافائيل" للصناعة العسكرية، كذا حقول تجارب تصنع وتجمع فيها مكونات أنظمة الدفاع الجوى، وكل المراكز التجارية والسكنية ومنشآت مطار "حيفا" ومهبط الطائرات فيه ، وكذلك فى منطقة "كريوت" المجاورة ، التى يعيش فيها أكثر من 200 ألف "إسرائيلى"، يضافون لأكثر من نصف مليون يهودى "إسرائيلى" فى "حيفا" وضواحيها الأقرب.

وربما لا تكون من قيمة كبيرة ولا صغيرة لادعاءات المهونين والمستهينين بقدرات "حزب الله"، من نوع ادعاء أن صور "حيفا" يمكن الحصول عليها عبر تطبيق "جوجل إيرث" ، فلم يسبق لأحد أن حصل على مثل هذه الصور الحساسة، فوق ما هو معروف من تواطؤ بديهى لتطبيقات "جوجل" وأخواتها مع كيان الاحتلال "الإسرائيلى"، وحجبها الكامل لمنشآت "إسرائيل" الأكثر أهمية، ثم أن الصور التى حصلت عليها طائرة "الهدهد"، وعادت بها بأمان إلى قواعدها السرية فى "لبنان"، ليست الوحيدة الفريدة من نوعها عند الحزب، ويوجد لدى "حزب الله" ما هو أكثر وأخطر، ربما تكون أجرت مسحا كاملا لكل حجر وبشر فى فلسطين المحتلة، ربما وصولا إلى المفاعلات النووية فى "ديمونا" وغيرها ، فطائرة "الهدهد" يصل مداها إلى سبعين كيلومترا.

بينما يملك الحزب طائرات مسيرة ذكية أخرى استطلاعية وقتالية ، بينها "مرصاد" التى يبلغ مداها بحسب أجيالها مابين 50 و 150 كيلومترا ، ومسيرة "أيوب" التى يصل مداها إلى ما بين 1700 و 2400 كيلومترا ، و"أبابيل" و"حسان" ، التى يزيد مداها على 150 كيلومترا ، فوق عدد رهيب بمئات الآلاف من القذائف والصواريخ دقيقة التوجيه ، بعضها من صناعة إيرانية ، وأخرى من الصناعة والتطوير الذاتى لحزب الله ، وبناء على تقديرات "مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية" الأمريكى ، فإن "حزب الله" هو "الجهة غير الحكومية الأكثر تسليحا فى العالم" ، وبحسب تقرير حديث لمجلة "فورين بوليسى" الأمريكية ، يحصل حزب الله على أسلحته من إيران وسوريا وروسيا ، وتنقل "فورين بوليسى" عن "مايكل أورين" سفير إسرائيل السابق فى واشنطن ، أن "حزب الله" يشكل تهديدا استراتيجيا لدولة إسرائيل".

ويضيف "أورين" أنه "قرأ تقديرات مروعة لما يمكن أن يفعله حزب الله بإسرائيل خلال ثلاثة أيام ، نتحدث هنا عن تدمير بنيتنا التحتية الأساسية ومصافى البترول والقواعد الجوية وموقع ديمونا النووى" ، وفى تقديرات عسكرية "إسرائيلية"، فإن بوسع "حزب الله" إطلاق 2500 صاروخ وطائرة مسيرة يوميا فى أيام الحرب الأولى إذا نشبت، بعدها قد يهبط المعدل اليومى إلى الألف صاروخ ، وفى المعارك المحكومة بأسقف الاشتباك عبر التسعة شهور الماضية، بدا أن صواريخ "حزب الله" ـ مثل بركان" وغيره ـ تصيب أهدافها بدقة، فيما لم تستطع "القبة الحديدية الإسرائيلية" رصد ولا اعتراض طائرات الحزب المسيرة الانقضاضية، إما لأنها صغيرة وتطير لأهدافها على ارتفاع منخفض جدا، أو لأنها بلا بصمة حرارية ولا صوتية، على طريقة طائرات "الهدهد"، وفى جولة "الهدهد" الأخيرة، لم يستطع الدفاع الجوى "الإسرائيلى" التصدى لها أو حتى معرفة وجودها من أصله.

ووصفت القصة بأنها "حادثة خطيرة جدا"، بينما استطاع الدفاع الجوى لحزب الله إسقاط أغلى طائرات العدو المسيرة وأعقدها تكنولوجيا، على طريقة ما جرى لطائرات "هيرميس" بأجيالها المتتالية، وبينها إسقاط ثلاث طائرات "هيرميس 900" الأحدث جيلا، وهو ما يعنى ببساطة، أن "حزب الله" يتقدم فى صراع التجسس والاستطلاع الجوى التكنولوجى، وأن بوسعه تسديد ضربات موجعة، استنادا إلى بنك أهداف هائل الحجم والتنوع داخل كيان العدو، وبرغم أن الصدام بالنار بين "حزب الله" و"إسرائيل" يجرى حتى الآن على مساحة اشتباك محسوبة ومحدودة النطاق نسبيا ، وأغلبها من جهة العدو فارغة السكان والمستوطنين ، بعد اضطرارهم للنزوح والابتعاد هربا من خطر "حزب الله" ، بالرغم من ذلك الوضع المرئى ، فقد طالت صواريخ ومسيرات حزب الله مواقع وقواعد "إسرائيلية" عسكرية حساسة فى "ميرون" وغيرها ، ثم أنها أثارت فزع "الإسرائيليين" بآثارها التدميرية الكبيرة ، وبحسب تقديرات "الإسرائيليين" ، فقد دمر "حزب الله" ما يزيد على الألف منشأة وبيت فى شمال "إسرائيل" ، وأحرق ما تزيد مساحته على ثمانين ألف "دونم" فى الشمال الإسرائيلى و"الجولان" المحتل ، وهو ما يضع كيان الاحتلال "الإسرائيلى" فى مأزق غير مسبوق ، لا تجدى معه عمليات اغتيال لجنود وقادة عسكريين من "حزب الله".

فاغتيال القادة لا يطفئ جذوة المقاومة ، بل يزيدها اشتعالا ، وينمى حس الاستشهاد وطلب شرفه عند المقاومين والجمهور ، ولم يحدث أبدا ، أن أخفى "حزب الله" اسم قائد أو مقاتل أو مدنى جرى اغتياله "إسرائيليا" ، وقد بلغ عددهم مئات ، أقام لهم "حزب الله" جنازات حاشدة طافت قراهم الجنوبية وفى "بيروت"، وهو ما يضاعف غيظ العدوالذى يتخفى بخسائره البشرية ، ويدفع قادته إلى رفع وتيرة التهديدات بحرب دمار واسعة شاملة على لبنان ، يتجنب "حزب الله" المبادرة إليها ، وإن أعلن مرارا عزمه على دخولها إذا بادر إليها العدو ، وهو ما ينذر بسيناريو كابوسى فى "إسرائيل" ، التى قد تملك فرصا لتدمير همجى فى لبنان، لكنها لا تملك فرصا لتجنب دمار أخطر فى "إسرائيل" ، وهو ما دفع كاتبا صهيونيا يهوديا فى مكانة "توماس فريدمان" إلى تحذير إسرائيل من دمار وجودها ، فى مقال أخير بصحيفة "نيويورك تايمز".

وطالب الرئيس الأمريكى "جو بايدن" بتكثيف الضغط على حكومة "بنيامين نتنياهو" وصحبه المجرمين ، ودفعهم إلى الوقف الكامل للحرب على "غزة" ، والخروج منها والاكتفاء بعودة المحتجزين "الإسرائيليين" فى المقابل ، وترك "غزة" لحكم قادة "حماس" ، وهذه هى الطريقة الوحيدة برأى "فريدمان" لإنقاذ "إسرائيل" ، ولإقناع "حزب الله" بوقف النار والحرائق على جبهة الشمال "الإسرائيلى" .

 وقد تستمع "إسرائيل" لنصائح محبيها أو تصم الآذان ، وهى تعرف النتائج فى كل حال ، وتبدو حكومتها مندفعة إلى خطر لم تتحسب له ، تماما كما جرى بعد هجوم السابع من أكتوبر المزلزل ، واندفاعها الأعمى وانزلاقها إلى متاهات "غزة" والغرق فى رمالها ، والعجز عن تحقيق أى هدف عسكرى لحرب الإبادة ضد المدنيين الأبرياء العزل، واذلال جيش الاحتلال على أيدى المقاومين فى "حماس" وأخواتها ، وهم فى جملتهم أقل قوة بمراحل من قوة "حزب الله"، الذى سبق لمقاتليه المحترفين أن حاربوا الجيش "الإسرائيلى" فى حرب 2006، وحرموه من تحقيق أى هدف لحملته العسكرية وقتها ، ثم زادت قوة "حزب الله" أضعافا بعد حرب 2006، وصار الرقم الأصعب على جبهة "إسرائيل" الشمالية والشرقية ، وزاد عدد قواته إلى نحو المئة والخمسين ألفا، واكتسب خبرات قتالية متطورة فى حروب سوريا ، وصار يجمع بين تكوين الجيوش النظامية وجماعات حروب العصابات، ودخلت إلى ترسانته الحربية أنواع جديدة من الأسلحة ، قليلها معلوم وأكثرها مخفى، فوق قدرات استطلاع وتحديث علمى، ونخبة قوات عالية المهارات وشبكات خنادق وأنفاق فائقة الغموض والتجهيزات، كلها تنتظر أى غزو "إسرائيلى" جديد لجنوب لبنان، ربما ترد عليه بتوغل برى عاصف فى شمال فلسطين المحتلة.

وقد لا تتضرر قوات "حزب الله" كثيرا من توغل إسرائيلى مقابل حتى حدود نهر "الليطانى" ، ولدى قواته مرونة سحرية فى حروب الفر والكر ، ومقدرة مثبتة على إهلاك  الدبابات والمدرعات "الإسرائيلية" ، وإيقاع أعداد مهولة من القوات "الإسرائيلية" فى فخاخ القتل ، فحزب الله ـ رغم أى خلاف ـ هو مؤسس المقاومة العربية المعاصرة من نوع مختلف ، التى طورت ملامحها بدءا بثقافة الاستشهاد ، ثم طورت التكنولوجيا المتحدية لتفوق العدو التكنولوجى ، وعلى نحو ما شهدناه ونشهده فى حرب "غزة" ، وما قد نشهده أكثر وضوحا وفعالية ، إن خاطر العدو ، وقرر غزو لبنان مجددا .

[email protected]