«المجذوب».. قصة قصيرة للكاتب إبراهيم الديب

إبراهيم الديب
إبراهيم الديب

تستطيع تصنيفه من ذوي الاحتياجات الخاصة ولكن هذه التسمية الأقرب لحالة؛ هذا الشاب ذو النظرات الحادة الكاشفة لأعماق وأغوار من يحملق فيه، وكأنه يقول لمن يحملق فيه: أنا أعرفك واقف على دخيلة نفسك تماماً، فهذه فنظرات العميقة النافذة تسبب في كثير من الأحيان لمن يصوبها إليه: الحيرة الارتباك والاضطراب شبه إجماع لأغلب من تعرض لها.

عمله اليومي ينحصر بصفة أساسية في الدوران حول مدينة دمياط من الأطراف وكأنه يكتب رقم خمسة بالعربي، قبل أن يقرر ما هي وجهته بداخل المدينة، واتفاق شبه صامت أنه درويش، ويحمل اسما آخر وهو أنه من أهل الله وخاصته فلا يربطه بالواقع إلا وشائج واهية، في رحلاته المتواصلة يطوف بها الميادين والشوارع والأزقة، لا يقوم بها اعتباطا ولن يستطيع أحد من الناس يجبره الذهاب لمكان بعينه بل الاختيار له مع توقيت الزمان ، لا أحد يعرف ما هي وجهته المقبلة وعلى أي مقياس وليس من يستطيع التكهن رغبته، اختيار مكان دون غيره، ثمة تساؤلات كثيرة بعدد من يعرفه هل الاختيار للمكان نفسه، أم من أجل ناسه وقاطنيه، ثمة سر هناك. .

أما زيارته المفاجئة، أو سبب وجوده في المنطقة من أهل الحي؛ للمناقشة وجدل بينهم ثم شرح وتحليل، ينبئ البعض من الأهالي بأنه لابد؛ من أحداث غير عادية تعقب زيارة المجذوب، تخلف هذه النقاشات وجهات نظر متعددة تصل لدرجة الخلاف بين سكان المنطقة، ولكن الجميع متفق أن للزيارة هدفا، فليس هناك شيء في حياة المجاذيب والدراويش صدفه، فهذه الطائفة يملى عليهم. فلابد أن يكون الله أمره أن يأتي لهذا لمكان دون غيره لحكمة يعلمها الله قد تكون زيارته بشرى لهم يعقبها بركة تحل على أهلها بسبب رضى من الله بما يقدموه من أعمال خير وصلاح.

فتأخذهم الحيرة لوجوده بينهم هل هو لصلاحهم أو اختبارهم في استقبالهم له؟ أو حضوره رسالة مبطنة لحدوث شيء جلل؛ يخبر عنه قدومه؟ في هذه أسئلة كثيرة والناس في حيرة من أمرهم، ومنهم من علل وجوده في هذه المنطقة أن أهلها ليسوا صالحين بما يكفي وحضوره الآن تحذيراً لهم قبل أن يحل العقاب، فلم يتفقوا على شيء واحد منذ وصوله إلا عدم مغادرته غاضباً بتلبية كل رغباته، ولكنهم تذكروا أنه لم يحدث أن طلب من أحد شيئا قط من سكان المناطق التي تواجد فيها، ولكنهم كانوا يضعون أمامه طعام وشراب ، يظل صامت لفترات طويلة: نادرا ما يتحدث ، ويكون اقرب لأمر العالم على الجاهل بحنو ورفق وهدوء ونظره معلق بالسماء وكان حياته ليست على الأرض، وليس حديثاً كالذي يدور بين الناس بعضهم لبعض، فكان أحيانا ينطق حكمة في ألفاظ قليلة لم يتفوه اكثر الناس ثقافة ،،

وأحياناً أخرى يكون حديثه أقرب للهذيان وكل ذلك بأدب جم.... صمته مهيب وكأنه غارق منذ الأزل في: تفكير عميق يخاف منه الجميع أن يرمق أحدا منهم بنظرة غاضبة فيتوقع بعدها الأسوأ. لا يعرف النقود ولا يقف على سره أحد؛ هل تعبيرات ملامح عليها واحدة يستوي عنده الحزن والفرح، لا يتناول من الطعام الكثير الذي يوضع أمامه إلا عدة لقيمات بحياء، دون شره وإذا صوب أحدهم نظره إليه أثناء الطعام يتوق على الفور، لعلها رسالة ألا يكون لأحد عليه فضل ولا هو ممتن لغيره من الناس، نظراته مزيجاً من الشموخ والكبرياء وعزة النفس وتخبر أن كل ما أتناوله لقيمات تمسك على حياتي للغد تذوقتها.... ينصرف من المكان دون إذن من أحد، أقرب للمسير، المأمور بكل ما يأتيه من قول أو فعل. ولكن هناك اتفاق من الجميع غير معلن: أنه إذا تردد على منطقة، أو حي من المدينة، ومكث فيها أكثر من ثلاثة أيام فهذه علامة؛ أنه سيحل فيها ونصيب أهلها الرزق الوفير، وهو ما حدا بالجميع بأن يهش في وجهة لعله يمكث في المنطقة فترة أطول. 

اقرأ أيضا | «حرب الملاعق» قصة قصيرة للكاتب إبراهيم الديب