آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: الأرواح لا تموت .. لكنها الأنفس

حامد عز الدين
حامد عز الدين

الموت لغة: ضد الحياة، وهو بمعنى الوفاة. والموت شرعاً: «مفارقة النفس للحياة» فالنفس هى المعادل الموضوعي للبدن الحي. وحقيقة مفارقة النفس للبدن هى خلوص الأعضاء كلها عن النفس «الحياة» حيث لا تتبقى صفة حياتية في أي جهاز من أجهزة البدن. فالنفس فى لغة القرآن الكريم هى التى تحس وهى التى تقتل وهى التى تذوق الموت وهى التى تشعر بالألم والعذاب أو تشعر بالطمأنينة. وبالتالى يمكننا القول إن النفس هى التى تموت، ولا علاقة لذلك من قريب أو بعيد بالروح. فكل كائن حى له نفس، أما الروح فهى التى نفخها الله سبحانه فى البشر فأصبح إنسانا مؤهلًا لخلافته على الأرض بما وهبه من فطرة فيها قدرات لا تتوافر لغيره من المخلوقات الحية، ولذا جعل المولى سبحانه وتعالى علمها «لدنيًّا» لديه سبحانه وتعالى، فهو القائل جل وعلا فى الآية 85 من سورة الإسراء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا). 

(قل الروح من أمر ربي) أي: من شأنه، ومما استأثر بعلمه دونكم؛ ولهذا قال: (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) أي: وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. 

بل إن المولى سبحانه أمر الملائكة بأن تسجد لآدم أبى لبشر بمجرد نفخه الروح فيه: كما ورد فى الآيتين الكريمتين 28 و29 من سورة الحجر: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ). فهو قبل نفخة الروح كان مجرد كائن حى «بشرى لا اسم له» لا يملك شيئًا من قدرة الإنسان على الفهم والتعقل والتفكير والإبداع والتصور للمطلقات، وهى جزء من عشرات الصفات التى منحها الخالق البارئ المصور جل وعلا للإنسان حتى صارت لديه القدرة على أن يصل بالكون فيما بعد إلى أن يصبح قابلًا للنماء والازدهار «حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت»، وهو ما سيصبح الإنسان قادرًا على تحقيقه فى الأرض بفضل عشرات من الصفات التى منحها الله تعالى للإنسان بـ«نفخة الروح». بل إن روح الله التى نفخها فى السيدة مريم كانت كافية لتجعلها وابنها «معجزة للعالمين» وهى صيغة جمع الجمع لعالم أى المعجزة لكل عوالم الإنسن والجن وكل المخلوقات من دون استثناء. كما ورد فى الآية 91 من سورة الأنبياء: (وَالَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ). هذه الروح لن تموت، بل هى التى ستعيش مع الإنسان فى الحياة الآخرة بعد البعث والحساب. 

من هنا فإن الموت يرتبط فى القرآن الكريم بالنفس ولا شيء غيرها. والنفس لن تموت فحسب بل هى التى ستؤتى الثواب وتجزى بما كسبت. وفى الآية 145 من سورة آل عمران نقرأ: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ). وفى الآية 161 من آل عمران نتلو (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ). والوفاة فى حالتى النوم والموت ترتبط بوضوح بالنفس ولا غيرها ففى الآية 42 من سورة الزمر: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِى قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). 

والقتل كذلك وهو يعنى أخذ الحياة من البدن يرتبط بالنفس. فى الآية 32 من سورة المائدة: (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). وفى الآية 151 من سورة الأنعام: (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ). وكل نفس خلقها الله سبحانه مقدر لها أن تذوق الموت لأن قدرها أن ترجع إلى الله. وفى الآية 35 من سورة الإسراء: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). وفى الآية 57 من سورة العنكبوت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). 

النفس تجزى بما عملت، والنفس تجزى بما كسبت كما فى الآية 54 من سورة يس: (فاليوم لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).. وفى الآية 17 من سورة غافر: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ). والنفس لها أجل ولن يؤخرها الله إذا جاء أجلها، على حد ما جاء فى الآية 11 من سورة «المنافقون»: (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). والنفس المطمئنة هى التى ترجع فى النهاية إلى الله راضية مرضية، فتدخل فى عباده أى المؤمنين به وتدخل جنته، كما ورد فى سورة الفجر: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِى إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِى فِى عِبَادِى (29) وَادْخُلِى جَنَّتِى (30) . 

وإلى الأسبوع المقبل بمشيئة الله إن كان فى العمر بقية، نتدبر فى كتاب الله الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ونربط بينه وبين شهادات الذين عاشوا «الموات».. وهو التعبير الدال عن الموت غير المكتمل للذين عادوا بعد توقف أعضائهم الحية عن العمل فترة زمنية محدودة.