د.إلهام سيف الدولة حمدان تكتب .. الناس مقامات .. والموسيقا كمان

د.إلهام سيف الدولة
د.إلهام سيف الدولة

كثيرا‭ ‬مانسمع‭  ‬كلمة‭ ‬دارجة‭ ‬تتردد‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬الشعب‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬عدة؛‭ ‬مثلاً‭ ‬عندما‭ ‬يترك‭ ‬شاب‭ ‬مقعده‭ ‬في‭ ‬الحافلة‭ ‬لشيخ‭ ‬كبير‭ ‬السن؛‭ ‬ويقول‭ ‬لمن‭ ‬حوله‭ : ‬إنه‭ ‬احق‭ ‬مني‭ ‬بالجلوس‭ ‬لأن‭ ‬“الناس‭ ‬مقامات”‭ ! ‬والمقامات‭ ‬لها‭ ‬أوجه‭ ‬عديدة‭ : ‬مقام‭ ‬السن؛‭ ‬مقام‭ ‬العلم؛‭ ‬مقام‭ ‬المنصب؛‭ ‬مقام‭ ‬البطولة؛‭ ‬ولكل‭ ‬“مقام”‭ ‬صفة‭ ‬تلتصق‭ ‬به‭ ‬؛تترجم‭ ‬المعاني‭ ‬النبيلة‭ ‬المقصودة‭ ‬تبجيلا‭ ‬لصاحب‭ ‬المقام؛‭ ‬وكما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬“‭ ‬مقامات‭ ‬للناس”؛‭ ‬هناك‭ ‬أيضًا‭ ‬“مقامات‭ ‬المزيكا”؛‭ ‬التي‭ ‬تحرك‭ ‬النفوس‭ ‬والمشاعر‭ ‬والأفئدة؛‭ ‬وتتراقص‭ ‬معها‭ ‬كل‭ ‬القلوب‭ ‬طربًا‭ ‬وانتشاءُا؛‭ ‬ويستوي‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصغير‭ ‬والكبير‭.‬

والملحن‭ ‬“الشاطر”‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يستطيع‭ ‬أن‭ ‬يلعب‭ ‬على‭ ‬أوتار‭ ‬القلوب‭ ‬بكل‭ ‬الاحترافية‭ ‬في‭ ‬إبداع‭ ‬الأنغام؛‭ ‬لتنطق‭ ‬بها‭ ‬الأوتار‭ ‬بين‭ ‬اصابعه‭ ‬في‭ ‬آلاته‭ ‬الموسيقية‭ ‬التي‭ ‬يستخدمها‭ ‬في‭ ‬إيقاعاته‭ !‬

وسمعت‭ ‬أخيرا‭ ‬مقولة‭ ‬أعجبتني‭ ‬وأضحكتني‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه؛‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬كل‭ ‬معاني‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الملحنين‭ ‬للأغنيات‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأيام؛‭ ‬فيقولون‭: ‬إن‭ ‬“بعض”‭ ‬الملحنين؛‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬“موسيقا‭ ‬الأغاني‭ ‬“‭ ‬كما‭ ‬يتعامل‭ ‬“الكبابجي”‭ ‬مع‭ ‬“البقدونس”‭ ‬الذي‭ ‬يفترشه‭ ‬تحت‭ ‬“‭ ‬الكفتة‭ ‬“‭ ! ‬وياله‭ ‬من‭ ‬تعبير‭ ‬ساخر‭ ‬وقاتل؛‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬ضعف‭ ‬الألحان‭ ‬والاستهانة‭ ‬بما‭ ‬للموسيقا‭ ‬من‭ ‬أهمية‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬معاني‭ ‬الكلمات؛‭ ‬ولكنه‭ ‬الاستسهال‭ ‬الذي‭ ‬يلعب‭ ‬بالأغاني‭ ‬المستهلكة‭ ‬على‭ ‬أذهان‭ ‬وعقول‭ ‬“سائقي‭ ‬التوك‭/‬توك”؛‭ ‬وتستخدمها‭ ‬فرق‭ ‬الأفراح‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬قاع‭ ‬الحارة‭ ‬المصرية؛‭ ‬دون‭ ‬تحقيق‭ ‬إضافة‭ ‬حقيقية‭ ‬للتراث‭ ‬الموسيقي؛‭ ‬وتتبخر‭ ‬الأغنية‭ ‬بمجرد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬سماعها‭ ‬مرة‭ ‬واحدة؛‭ ‬وتصبح‭ ‬تلك‭ ‬“الدَرْبكَة”‭ ‬في‭ ‬خبر‭ ‬كان‭ !‬

عفوا‭ .. ‬أخذني‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬استخدام”المقامات‭ ‬الصوتية‭ ‬“‭ ‬للموسيقا؛‭ ‬وأدخلتني‭ ‬المقارنة‭ ‬في‭ ‬متاهة‭ ‬أغنيات‭ ‬سائقي‭ ‬التوك‭/‬توك‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ !‬

فلنتحدث‭  ‬الآن‭ ‬عن‭ ‬المقامات‭ ‬الموسيقية‭ ‬ــ‭ ‬بتصرف‭ ‬ــ‭ ‬في‭ ‬تعريف‭ ‬موجز‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬مقام‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المقامات؛‭ ‬التي‭ ‬برع‭ ‬في‭ ‬استخدامها‭ ‬أساطين‭ ‬الموسيقا‭ ‬في‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة؛‭ ‬وفي‭ ‬العالم‭ ‬الجديد‭ ‬بأسره‭ .‬

ولنستعرضهاــ‭ ‬دون‭ ‬ترتيب‭  ‬مسبق‭ ‬ــ‭ ‬لزيادة‭ ‬الثقافة‭ ‬المعرفية‭ ‬بالموسيقا‭ ‬وأنواع‭ ‬مقاماتها‭ ‬الصوتية؛‭ ‬فالموسيقا‭ ‬هي‭ ‬غذاء‭ ‬الروح‭ ‬والقلب‭ .. ‬والوجدان‭ ‬كما‭ ‬تعلمون‭ !  ‬والمقامات‭ ‬الرئيسة‭ ‬،‭ ‬هي‭ :  ‬الراست‭/ ‬النهاوند‭/ ‬سيكا‭/ ‬الحجاز‭/ ‬البيات‭/‬الصبا‭/ ‬العجم‭ / ‬الكرد‭ .‬

‭ ‬“‭ ‬الراست‭ ‬“‭ ‬و‭ ‬“‭ ‬النهاوند‭ ‬“‭ ( ‬واستخداماتهما‭ ‬شائعة‭ ‬في‭ ‬تلاوة‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ) :‬

الرست‭ .. ‬كلمة‭ ‬فارسية‭ ‬تعني‭ ‬الاستقامة؛‭  ‬ويمتاز‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬بالفخامة‭ ‬والاستقامة؛ويفضل‭ ‬استخدام‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬عند‭ ‬تلاوة‭ ‬الآيات‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬تبجيل‭ ‬لله‭ ‬عز‭ ‬وجل‭ ‬وتعظيمه؛‭ ‬والآيات‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬القصصي‭ ‬أو‭ ‬التشريعي؛‭ ‬لذلك‭ ‬نجد‭ ‬ان‭ ‬معظم‭ ‬أئمة‭ ‬المدينة‭ ‬المنورة‭ ‬والحرم‭ ‬الشريف‭ ‬يقرأون‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬الراست؛‭ ‬وأما‭ ‬في‭ ‬التجويد‭ ‬فمعظم‭ ‬القراء‭ ‬يبدأون‭ ‬بالراست‭ ‬بعد‭ ‬البيات‭ ‬مباشرة‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬المقامات‭ ‬وأجملها‭  .. ‬ويلُقب‭ ‬بـ‭ ‬“‭ ‬أبو‭ ‬المقامات”‭ .‬

والنهاوند‭ .. ‬يمتاز‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬بالعاطفة‭ ‬والحنان‭ ‬والرقة؛‭ ‬ويبعث‭ ‬إلى‭ ‬الخشوع‭ ‬والتفكر؛‭ ‬وهو‭ ‬مقام‭ ‬يمتاز‭ ‬بالهدوء‭ ‬ويُقرأ‭ ‬في‭ ‬آيات‭ ‬النعيم‭ ‬والسرور‭.‬؛و‭ ‬“نهاوند‭ ‬“‭ ‬مدينة‭ ‬إيرانية‭ ‬نُسب‭ ‬إليها‭ ‬هذا‭ ‬المقام؛‭ ‬ومن‭ ‬أشهر‭ ‬القراء‭ ‬لهذا‭ ‬المقام‭ ‬الشيخ‭ ‬المصري‭ ‬محمد‭ ‬صديق‭ ‬المنشاوي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ .‬

أما‭ ‬عن‭ ‬استخدام‭ ‬تلك‭ ‬“المقامات‭ ‬الصوتية’”‭ ‬في‭ ‬طريقة‭  ‬تلحين‭ ‬الأغاني‭ .. ‬فإنني‭ ‬سأورد‭ ‬نُبذة‭ ‬سريعة‭ ‬ــ‭ ‬بتصرف‭ ‬كمثال‭ ‬لتعريف‭ ‬غير‭ ‬المختص‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الموسيقا‭ ‬ــ‭ ‬عن‭ ‬كل‭  ‬مقام‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬المقامات‭ ‬الصوتية؛‭ ‬فمقام”الصبا”‭ ..  ‬يُعد‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬المقامات‭ ‬حزنًا‭ ‬ومثال‭ ‬هذا‭ ‬المقام‭ ‬أغنية‭ ‬كوكب‭ ‬الشرق‭ ‬السيدة‭/ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬“هوَّ‭ ‬صحيح‭ ‬الهَوَى‭ ‬غلاب‭ ‬؟”؛‭ ‬وكذلك‭ ‬مقام‭ ‬النهاوند‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬أغنية‭ ‬“دارت‭ ‬الأيام”؛‭ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬“‭ ‬مقام‭ ‬العجم‭ ‬“‭  ‬فيستخدم‭ ‬في‭ ‬غناء‭ ‬الكنائس؛‭ ‬والبياتي‭ ‬يمثل‭ ‬المقام‭ ‬الشعبي‭ ‬ومعناه‭ ‬الفرح‭ ‬والسرور؛‭ ‬والسيكا‭ ‬يُعد‭ ‬مقامًا‭ ‬يبعث‭ ‬السعادة‭ ‬للروح‭ ‬مثل‭ ‬أغنية‭ ‬“ليلة‭ ‬أمبارح‭ ‬ما‭ ‬جانيش‭ ‬نوم”‭ ‬من‭ ‬تلحين‭ ‬الشيح‭ ‬سيد‭ ‬مكاوي؛‭ ‬وهي‭ ‬من‭ ‬مقام‭ ‬الهزام‭  ‬ــ‭  ‬مقام‭ ‬فرعي‭ ‬مشتق‭ ‬من‭ ‬السيكا‭ ‬ـ‭ ‬؛‭ ‬ومقام‭ ‬الحجاز‭  .. ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬الدفء‭ ‬والفرح؛‭ ‬وهو‭ ‬سيد‭ ‬المقامات‭ ‬ومثال‭ ‬عليه‭ ‬أغنية‭ ‬أم‭ ‬كلثوم‭ ‬“‭ ‬أروح‭ ‬لمين”‭ !‬

ولعلي‭ ‬أكتفي‭ ‬بهذه‭ ‬النماذج‭ ‬للتعريف‭ ‬بالمقامات‭ ‬الصوتية‭ ‬في‭ ‬الموسيقا؛‭ ‬لأن‭ ‬المعلومات‭ ‬كثيرة‭ ‬وطويلة؛‭ ‬تضيق‭ ‬بها‭ ‬المساحة‭ ‬التي‭ ‬التقي‭ ‬فيها‭ ‬بالقراء‭ ‬الاعزاء؛‭ ‬وأذكر‭ ‬دائمًا‭ ‬ـ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مقالاتي‭ ‬ـ‭ ‬بريادة‭ ‬المصريين‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬معظم‭ ‬الآلات‭ ‬الموسيقية‭ ‬المستخدمة‭ ‬حاليًا‭ ‬؛‭ ‬ومنها‭ ‬“القيثارة‭/ ‬الهارب‭/ ‬الناى‭/ ‬الناى‭ ‬المزدوج‭ ( ‬الأرغول‭)/ ‬العود‭ ‬بكل‭ ‬أنواعه‭/ ‬الصاجات‭/  ‬الطنبور‭/‬السمسمية‭/ ‬والطبل‭ ‬والدفوف‭ ‬؛‭ ‬والمصريون‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬ابتدعوا‭ ‬وظيفة‭ ‬المايسترو‭ ‬الذي‭  ‬يوجه‭ ‬الفرقة‭ ‬بحركات‭ ‬يديه؛‭ ‬كما‭ ‬ابتدعوا‭ ‬“‭ ‬التخت‮»‬‭ ‬الموسيقى”‭ ‬والغناء‭ ‬الجماعى‭ ‬“الكورال”؛‭ ‬وهو‭ ‬الذى‭ ‬تصاحبه‭ ‬فرقة‭ ‬موسيقية‭ ‬كاملة‭ ‬؛‭ ‬وظهر‭ ‬الغناء‭ ‬الفردى‭ ‬والغناء‭ ‬الثنائى‭ /‬الدويتو؛‭ ‬وكان‭ ‬الغناء‭ ‬ملازمًا‭ ‬للحياة‭ ‬اليومية‭ ‬للمصريين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المناسبات؛‭ ‬حتى‭ ‬تذكر‭ ‬سطور‭ ‬كتاب‭ ‬التاريخ‭ ‬أن‭ ‬للمصريين‭ ‬اغنيات‭ ‬جنائزية‭ ‬حزينة‭ ‬؛‭ ‬مازالت‭ ‬نقوشها‭ ‬في‭ ‬البرديات‭ ‬وعلى‭ ‬جدران‭ ‬المعابد‭ ‬؛

وظهرت‭ ‬الأغانى‭ ‬المختصة‭ ‬بكل‭ ‬عيد‭ ‬من‭ ‬أعياد‭ ‬السنة‭ ‬وبكل‭ ‬محصول،؛ولكل‭ ‬شهر‭ ‬ولكل‭ ‬فصل‭ ‬من‭ ‬فصول‭ ‬السنة‭ ‬الثلاثة‭: ‬‮«‬فصل‭ ( ‬آخت‭ ) ‬الفيضان،؛فصل‭ ( ‬برت‭ ) ‬البذر‭ ‬والزرع؛‭ ‬فصل‭ (‬شمو‭) ‬الحصاد،‭ ‬وهذه‭ ‬الاغنيات‭ ‬مستمرة‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬القرى‭ ‬والنجوع‭ ‬حتى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ . ‬

‭ ‬وسيظل‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬مصرنا‭ ‬المحروسة‭ ‬يعزفون‭ ‬موسيقا‭ ‬الحرية‭ ‬والأمن‭ ‬والأمان‭ ‬والسلام‭ ‬لوادينا‭ ‬المقدس؛‭ ‬وبكل‭ ‬المقامات‭ ‬الصوتية‭ ‬الموسيقية؛‭ ‬ويتغنون‭ ‬للإنسان‭ ‬المصري‭ ‬العظيم‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬الأحقاب‭ ‬والأزمنة‭ .. ‬لأن‭ : ‬الناس‭ ‬مقامات‭ ..‬والموسيقا‭ ‬كمان‭!‬

;