كثيرا مانسمع كلمة دارجة تتردد على لسان الشعب المصري في مجالات عدة؛ مثلاً عندما يترك شاب مقعده في الحافلة لشيخ كبير السن؛ ويقول لمن حوله : إنه احق مني بالجلوس لأن “الناس مقامات” ! والمقامات لها أوجه عديدة : مقام السن؛ مقام العلم؛ مقام المنصب؛ مقام البطولة؛ ولكل “مقام” صفة تلتصق به ؛تترجم المعاني النبيلة المقصودة تبجيلا لصاحب المقام؛ وكما أن هناك “ مقامات للناس”؛ هناك أيضًا “مقامات المزيكا”؛ التي تحرك النفوس والمشاعر والأفئدة؛ وتتراقص معها كل القلوب طربًا وانتشاءُا؛ ويستوي في هذا الصغير والكبير.
والملحن “الشاطر” هو من يستطيع أن يلعب على أوتار القلوب بكل الاحترافية في إبداع الأنغام؛ لتنطق بها الأوتار بين اصابعه في آلاته الموسيقية التي يستخدمها في إيقاعاته !
وسمعت أخيرا مقولة أعجبتني وأضحكتني في الوقت نفسه؛ وهي تحمل كل معاني السخرية من بعض الملحنين للأغنيات في هذه الأيام؛ فيقولون: إن “بعض” الملحنين؛ يتعاملون مع “موسيقا الأغاني “ كما يتعامل “الكبابجي” مع “البقدونس” الذي يفترشه تحت “ الكفتة “ ! وياله من تعبير ساخر وقاتل؛ للدلالة على ضعف الألحان والاستهانة بما للموسيقا من أهمية في ترجمة معاني الكلمات؛ ولكنه الاستسهال الذي يلعب بالأغاني المستهلكة على أذهان وعقول “سائقي التوك/توك”؛ وتستخدمها فرق الأفراح الشعبية في قاع الحارة المصرية؛ دون تحقيق إضافة حقيقية للتراث الموسيقي؛ وتتبخر الأغنية بمجرد الانتهاء من سماعها مرة واحدة؛ وتصبح تلك “الدَرْبكَة” في خبر كان !
عفوا .. أخذني الحديث عن أهمية استخدام”المقامات الصوتية “ للموسيقا؛ وأدخلتني المقارنة في متاهة أغنيات سائقي التوك/توك هذه الأيام !
فلنتحدث الآن عن المقامات الموسيقية ــ بتصرف ــ في تعريف موجز عن كل مقام من هذه المقامات؛ التي برع في استخدامها أساطين الموسيقا في مصرنا المحروسة؛ وفي العالم الجديد بأسره .
ولنستعرضهاــ دون ترتيب مسبق ــ لزيادة الثقافة المعرفية بالموسيقا وأنواع مقاماتها الصوتية؛ فالموسيقا هي غذاء الروح والقلب .. والوجدان كما تعلمون ! والمقامات الرئيسة ، هي : الراست/ النهاوند/ سيكا/ الحجاز/ البيات/الصبا/ العجم / الكرد .
“ الراست “ و “ النهاوند “ ( واستخداماتهما شائعة في تلاوة القرآن الكريم ) :
الرست .. كلمة فارسية تعني الاستقامة؛ ويمتاز هذا المقام بالفخامة والاستقامة؛ويفضل استخدام هذا المقام عند تلاوة الآيات التي بها تبجيل لله عز وجل وتعظيمه؛ والآيات ذات الطابع القصصي أو التشريعي؛ لذلك نجد ان معظم أئمة المدينة المنورة والحرم الشريف يقرأون من مقام الراست؛ وأما في التجويد فمعظم القراء يبدأون بالراست بعد البيات مباشرة وهو من أفضل المقامات وأجملها .. ويلُقب بـ “ أبو المقامات” .
والنهاوند .. يمتاز هذا المقام بالعاطفة والحنان والرقة؛ ويبعث إلى الخشوع والتفكر؛ وهو مقام يمتاز بالهدوء ويُقرأ في آيات النعيم والسرور.؛و “نهاوند “ مدينة إيرانية نُسب إليها هذا المقام؛ ومن أشهر القراء لهذا المقام الشيخ المصري محمد صديق المنشاوي رحمه الله .
أما عن استخدام تلك “المقامات الصوتية’” في طريقة تلحين الأغاني .. فإنني سأورد نُبذة سريعة ــ بتصرف كمثال لتعريف غير المختص في مجال الموسيقا ــ عن كل مقام من هذه المقامات الصوتية؛ فمقام”الصبا” .. يُعد من أكثر المقامات حزنًا ومثال هذا المقام أغنية كوكب الشرق السيدة/ أم كلثوم “هوَّ صحيح الهَوَى غلاب ؟”؛ وكذلك مقام النهاوند في مطلع أغنية “دارت الأيام”؛ أما عن “ مقام العجم “ فيستخدم في غناء الكنائس؛ والبياتي يمثل المقام الشعبي ومعناه الفرح والسرور؛ والسيكا يُعد مقامًا يبعث السعادة للروح مثل أغنية “ليلة أمبارح ما جانيش نوم” من تلحين الشيح سيد مكاوي؛ وهي من مقام الهزام ــ مقام فرعي مشتق من السيكا ـ ؛ ومقام الحجاز .. يبعث على الدفء والفرح؛ وهو سيد المقامات ومثال عليه أغنية أم كلثوم “ أروح لمين” !
ولعلي أكتفي بهذه النماذج للتعريف بالمقامات الصوتية في الموسيقا؛ لأن المعلومات كثيرة وطويلة؛ تضيق بها المساحة التي التقي فيها بالقراء الاعزاء؛ وأذكر دائمًا ـ في كل مقالاتي ـ بريادة المصريين في صنع معظم الآلات الموسيقية المستخدمة حاليًا ؛ ومنها “القيثارة/ الهارب/ الناى/ الناى المزدوج ( الأرغول)/ العود بكل أنواعه/ الصاجات/ الطنبور/السمسمية/ والطبل والدفوف ؛ والمصريون هم من ابتدعوا وظيفة المايسترو الذي يوجه الفرقة بحركات يديه؛ كما ابتدعوا “ التخت» الموسيقى” والغناء الجماعى “الكورال”؛ وهو الذى تصاحبه فرقة موسيقية كاملة ؛ وظهر الغناء الفردى والغناء الثنائى /الدويتو؛ وكان الغناء ملازمًا للحياة اليومية للمصريين في كل المناسبات؛ حتى تذكر سطور كتاب التاريخ أن للمصريين اغنيات جنائزية حزينة ؛ مازالت نقوشها في البرديات وعلى جدران المعابد ؛
وظهرت الأغانى المختصة بكل عيد من أعياد السنة وبكل محصول،؛ولكل شهر ولكل فصل من فصول السنة الثلاثة: «فصل ( آخت ) الفيضان،؛فصل ( برت ) البذر والزرع؛ فصل (شمو) الحصاد، وهذه الاغنيات مستمرة حتى في القرى والنجوع حتى كتابة هذه السطور .
وسيظل الناس في مصرنا المحروسة يعزفون موسيقا الحرية والأمن والأمان والسلام لوادينا المقدس؛ وبكل المقامات الصوتية الموسيقية؛ ويتغنون للإنسان المصري العظيم على مدى الأحقاب والأزمنة .. لأن : الناس مقامات ..والموسيقا كمان!