تكوين.. القراءة.. الحرية!

ياسر عبد الحافظ
ياسر عبد الحافظ

ثمة تقليد متبع فى بعض المواقع الإلكترونية يحدد للقارئ قبل شروعه فى قراءة النص الوقت المفترض الذى سينفقه فى القراءة.. ثلاث دقائق، أربع، خمس، وهكذا. فإن زادت المدة عما يمكن تقديره تم الاستعاضة عن التحديد بالإشارة «نص طويل». 

على ما يبدو فى هذه الطريقة من فائدة ظاهرية فى الحفاظ على الوقت وتنظيمه لكنها أيضًا تشير بوضوح إلى ما آلت إليه الأمور بالنسبة للقراءة فى مواجهة الصورة، ذلك الجدل المحتدم الذى بدأ التحذير من أخطاره على العقل البشرى منذ عصر التليفزيون غير أن الأمر الآن مضى إلى آفاق منذرة بمآزق تتجاوز ما خلفته الشاشة الصغيرة!

غالبًا ما ينظر الناس، وبما فيهم المسؤولون المعنيون، إلى القراءة على أنها موضوع ثانوى مقارنة بأمور حياتية أخرى، هذا مع أننا لا نكف كشعب عن القول بأهمية القراءة: يقيم الوطن احتفاًلا ب اليوم العالمى للكتاب، ونُحفظ أولادنا أن أول آية أنزلت من القرآن: «اقرأ باسم ربك»، ولكن هذا لا ينتج أثرًا فى الحياة العامة، لا أكثر من ترديد مقولات عالقة فى الذهن منذ أيام الإذاعة المدرسية، فيما الواقع يشى بالعكس فلا يمكننا الزعم بأن القراءة أحد الهموم العامة، لا ترى الكتب بين الأيادى كما الهواتف المحمولة، ولن تقع أزمة إن نقصت الكتب فى مجال ما، أو ازداد سعرها أو تراجع عدد القراء، كما هو الحال مع المواد الغذائية، إن شح السكر مثلًا من الأسواق، فمع أن هناك أزمة بالفعل فى سوق الكتب حاليًا لكنها كما لو أنه لا وجود لها، لم يعلُ صوت الشارع كما جرى مع نقص السكر، ولم تتدخل الحكومة لتضع حلولًا عاجلة للمعالجة كما تفعل فى تعاملها مع أى سلعة أساسية.

لِمَ لا يحدث هذا مع القراءة؟ للتوصل إلى نظرية ما علينا الإجابة عن سؤال آخر: إن كنا نخاف من شبح الجوع إن نقصت المواد الغذائية، فما الذى نخشاه إن تراجعت مستويات القراءة؟ والإجابات من شأنها أن تمدنا بتصور ما عن عمق المشكلة، لأنه فى الأغلب لدينا اتفاق على أنه يمكن للإنسان البقاء من دون ماء أو طعام لفترة محدودة وبعدها يتهدد بفقد حياته، وهذا ما لا نستطيع قوله عن القراءة، فليس لها الأهمية ذاتها المرتبطة بالعمليات الحيوية للجسد، يمكننا الاستمرار بدونها، لهذا كان من الطبيعى بعد غلاء الأوراق والأحبار، جراء الأزمة الاقتصادية العالمية، أن نسمع استجابات من بعض الناس تقرر الاستغناء عن الكتب باعتبارها فعل رفاهية لا فعل ضرورة: «أكل أولادى أهم. ليس وقت القراءة على أى حال»، ولا يمكن لأحد مناقشة منطق كهذا خاصة وباعثه كأنما فرحة خفية بالخلاص من هذا العبء.. كأنه فعل تعليمى ثقيل الوطأة! 

يرتبط الحديث عن القراءة هنا بما أثاره مؤتمر مؤسسة «تكوين الفكر العربي» من ذعر لدى قطاعات من عامة الناس ومن رجال دين بل ومن بعض المثقفين الذين رأوا فيه تهديدًا، تبدى هذا الذعر على مواقع التواصل الاجتماعي، ومن خلال بعض البيانات والمقالات، وتحركات مناهضة، بل ومطالبات ودعوى قانونية بإغلاق المركز على اعتبار أن قرار التأسيس جاء مخالفًا للدستور والقانون واللوائح.

أنا لست الشخص المناسب للحديث عن القانون، لا علم لى إن كانت وزارة التضامن الاجتماعى قد راعت القانون أم لا فى منحها الموافقة على إنشاء «تكوين»، كما تستند الدعوى، لكن ما أنا أكيد منه أنه حتى لو انتصرت المحكمة الدستورية للدعوى المقامة أمامها، ولو تم إغلاق المؤسسة، فلن يمثل ذلك إلا انتصارًا إعلاميًا للمتحدثين باسم حماة القواعد والأعراف، لأنه على أرض الواقع ستستمر أفكار المنتمين إلى «تكوين»، ليس باعتبارات من يملك الحق كما يتصارع الطرفان الآن ودومًا، إنما على اعتبار أن «تكوين» ببساطة تعبر عن فصائل واتجاهات فكرية لطالما كانت موجودة داخل بنية الإسلام وحضارته. لا جديد فيما يقال إلا اختلاف التناول وإعادة طرحه وفق مقتضيات العصر، ولو أننا قرأنا تراثنا الإسلامى بالعناية الواجبة لم يكن لهذه الضجة أن تقوم من الأصل، لم تكن الأغلبية لتصاب بهذا الذعر فكل هذه الأفكار، بل والأكثر منها شدة وتطرفًا، قال به أجدادنا وناقشوه فى مجالس السلاطين، وفى الأروقة، وفى شوارع المدن العربية التى نشرت على العالم علمًا وفلسفة وأخلاقًا، قبل أن ينهار هذا بعدما انتصرت فئة على البقية وقررت أن التفكير قد انتهى بالوصول إلى النتائج الكاملة القابلة للتنفيذ أبدًا.

فيما يتصل بهذا، حدثتنى قبل أيام شابة حديثة التخرج تعمل على إعداد رسالتها للماجستير فى أحد فروع الإعلام، مهتمة بالأدب وبالشأن الثقافى ولديها الرغبة للكتابة فى «أخبار الأدب».

تنقصها الخبرة لكنها تعوضها بحماس للعمل وبثقة فيما تود أن تقدمه.

من بين ما اقترحت للكتابة موضوعًا عن مؤسسة «تكوين الفكر..». صوتها كان هادئًا وواثقًا فيما ترد على سؤالى عن منطلقها للمعالجة: 

سأكتب لأكشف عن إلحادهم!
انتابنى الفضول حقيقة، أردت معرفة لماذا ترى هؤلاء ملحدين! ما الأسباب التى تستند إليها؟ غير أنها لم تجبنى سوى بردود لا يمكننى تصنيفها صوابًا أم خطأ، بل المناسب لها وصفها بالسطحية، فهى لا تستند إلا على وجود «إجماع» حول التهمة الموجهة لـ«تكوين»، أما الأخطر حقًا من هذا فإنها، وعندما سألتها عما قرأته حول هذا، ردت بأن هناك من الأمور ما لا يجوز لنا التفكير فيه، أو القراءة عنه، أو مسايرة أصحابه فى دعواهم والأفضل ترك المسألة لمن نثق فيهم للرد والتسليم بما يقولون.

لم تعد الاتهامات المجانية بالإلحاد مخيفة من كثرة ما ألفناها، هى فى بلادنا كأنها قرينة الاشتغال بالفكر والثقافة، وعندنا تلك النظرة المتشككة التى أرست ما يشبه القاعدة بأن عمل المثقف يمنعه من الدين، والتى ترتب عليها قاعدة أخرى، هى التى تسير وفقها صديقتنا المشار إليها قبل قليل، بأن عمل المتدين يمنعه من التفكير، أو على الأقل أن لهذا التفكير حدودًا عليه ألا يتجاوزها فإن فعل فقد انتقل من هذه الخانة إلى تلك، وعليه فإنها لو عملت بالثقافة والصحافة فإن واحدة من أهدافها الانتصار لقضيتها، نصرة الإسلام، وأن هذا لن يكون إلا عبر التمسك بالثابت الأساسي: عدم ممارسة فعل القراءة!

لا أرغب فى رسم صورة كئيبة عن الواقع، فى النهاية لا أملك إحصائيات عن عدد القراء فى مصر، ولا اتجاهات القراءة، ولا عدد من يتبعون هذا الفريق أو ذاك، لكن مع ذلك فما أنا أكيد منه أنه غائب عن ثقافتنا الفهم الأساسى لفعل القراءة والنتائج المرجوة منه، لأن القراءة فى حقيقتها ليست دعوة لترك هذا الفريق والالتحاق بالفريق الآخر، هذا ما قلته لصديقتنا المكفرة الصغيرة، دعوتها لتقرأ تاريخ وتراث الإسلام: الفرق، علم الكلام، لماذا تم تحريمه ومنعه والنهى عنه، ما المسائل التى أثيرت فى تراثنا قبل دفنها، ثم أنها ليس عليها أن تأخذ بأى شيء من هذا، ليس عليها تقديم طلب للالتحاق بـ«تكوين» ولا أن تترك ما هى عليه، بل فقط أن تقرأ لتحصل على حريتها، لئلا تكون أداة فى يد أى فريق!