آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: وفوق كل ذي علم عليم

حامد عز الدين
حامد عز الدين

ليس هناك سوى الله سبحانه وتعالى الذي يوصف بأنه «العليم»، وهى الصفة التى وردت فى القرآن الكريم 157 مرة، منها قوله تعالى: فى سورة الأنعام : ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ٩٦﴾ «الأنعام: 96». والعليم بهذه الصيغة على وزن فعيل، تعنى أن العلم لدى الموصوف هو جزء من ذاته سبحانه يوم أوجد ذاته. أما عالم فى اللغة العربية فتعنى أن الموصوف كان جاهلا ثم أضيف العلم إليه.

واللافت أن نفس المعنى موجود فى اللغات الأجنبية. ففى اللغة الإنجليزية (Knowing) هى ترجمة عليم وتعنى مصدر العلم 
﴿إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ الأحزاب: 54 وتترجم الآية:
Whether you reveal a thing or conceal it, indeed Allah is ever, of all things, Knowing.
وهى ذاتها الترجمة فى اللغتين الفرنسية والألمانية. 

إن الله عليمٌ بما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، وأحاط علمه سبحانه وتعالى بجميع الأشياء ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها. ونؤمن نحن المسلمين بأن الخالق - سبحانه وتعالى - هو خالق كل شيء، والوكيل عليه، وقد خرج هذا الكون إلى الوجود بكلمة واحدة هى (كُنْ) قال تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
وقال تعالى: ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾. وعندما نصف ما قام به المولى سبحانه وتعالى فى ايجاد الكون من عدم نستخدم أفعال خلق وفطر وبدع، وجميعها تعنى الإيجاد من عدم. فالخلق تعنى الإيجاد من عدم بعد التقدير أى وضع القانون المنظم. فالله سبحانه وتعالى خلق الوجود ووضع قوانينه التى لا تبديل لها، ابتداءً من خلق الكون، وقوانين التطور، والتغير، بما فى ذلك دوران الأرض حول الشمس وما ينتج عنه من تغير للفصول، وكذلك دوران الأرض حول نفسها وبالتالى الليل والنهار، وقوانين الساعة والبعث، والحياة والموت، وهذه القوانين لا تتغير من أجل أحد، وليست مناط القضاء الإنسانى. 
والفرق بين الإبداع، والخلق: الإبداع هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة على غير مثال سابق، وهو لا يقتضى سبق المادة.. وأما الخلق فهو إيجاد الشيء بعد تقديره، وهو يقتضى شيئًا موجودًا يقع فيه التقدير. ومن هنا لا يقال: خلق الله السموات والأرض من العدم؛ وإنما يقال: خلقهما مسبوقتين بالعدم. وأما الفَطْرُ فهو أصل صحيح يدل على فَتْح شيء وإبرازه. وقيل: أصل الفَطْر فى اللغة: الشَّقُّ طولاً، وقيل للكمأة: فطر، من حيث إنها تفطر الأرض، فتخرج منها. يقال: فطر الشيء: أى: شقَّه طولاً، فهو فاطر، والشيء مفطور. والله تعالى:﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (الأنعام:14).
وعليه، فإننا نخلص إلى أن قوله تعالى :﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ (النحل:3) يعنى: أوجدهما بعد التقدير على غير مثال سابق. ولكى يبين أن خلقهما على غير مثال سابق، قال: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ (البقرة:117). ولكى يبين أن خلقهما وإبداعهما غير قديمين وأنهما كانتا كتلة واحدة ثم انفصلتا، قال: ﴿فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (الشورى:11). ويبين ذلك قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء:30). أما (بَدَعَ) الْبَاءُ وَالدَّالُ وَالْعَيْنُ أَصْلَانِ: أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءُ الشَّيْءِ وَصُنْعُهُ لَا عَنْ مِثَالٍ، فَالْأَوَّلُ قَوْلُهُمْ: أَبْدَعْتُ الشَّيْءَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا: إِذَا ابْتَدَأْتُهُ لَا عَنْ سَابِقِ مِثَالٍ. وَاللَّهُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. 
وورد لفظ (العلم) فى القرآن الكريم بتصريفاته المختلفة فيما يزيد على سبعمائة وخمسين مرة، مشفوعاً معظمها بالدعوة إلى التدبر فى آيات الله المسطورة، كما فى قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصلت:3)، والتفكر فى آياته المبثوثة، كما فى قوله سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام:97). ولفظ (العلم) جاء فى أغلب مواضعه فى القرآن بمعنى العلم بالشيء، ومعرفته على حقيقته، كقوله تعالى: ﴿أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ (البقرة:77)، وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة:216). 

وكما أسلفنا فى المقال السابق: فاليقين هو أن العليم سبحانه سبق العلم «المخلوق»، حيث لا يمكن أن يسبق المخلوق وجود الخالق «العليم الحكيم»، الذى خلق كل شيء بقدر بناء على أساس علمى متواصل حتى نهاية الكون بأمره سبحانه. أن الله بكل شيء عليم، وأنه تعالى وسع كل شيء علمًا، وأن علمه سبحانه قديم أزلى وقوله - سبحانه-: «هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ «الحديد:3»، وقوله: ﴿وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ «التحريم:2»، وقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ «سبأ:2»، وقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ «الأنعام:59»، وقوله: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ «فاطر:11». 

كانت هذه هى الرسالة التى بعثت بها الى البرفيسور شولتس - بناء على طلبه - عبر البريد الإلكترونى لتسليمها إلى صديقه عالم اللاهوت. أما ما جرى بعد ذلك بالنسبة إلى البرفيسور شولتس، فلا أستطيع البوح به لأنه أمر يخصه شخصيا ولم يأذن لى بالإفصاح عنه. وإن كنت أظن أنكم قد تكونون عرفتموه. وإلى مزيد من التدبر فى آيات القرآن الكريم الأسبوع المقبل إن كان فى العمر بقية.