أستاذ بجامعة الأزهر: المواساة خُلق إسلامى وضرورة اجتماعية

د. صفوت المتولي، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية،
د. صفوت المتولي، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية،

من الأخلاق الضاربة بأطنابها فى عمق الدين الإسلامي خلق المواساة، فالمجتمع فى حاجة ماسة إلى أن يداوى بعضه بعضا، وأن يؤازر بعضه بعضا، فما أحوج المسلم إلى يد حانية، وقلب متفاعل، وعقل متكاتف، حتى يعبر بسلام إلى شاطئ الله رب العالمين.

يؤكد د. صفوت المتولي، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الأزهر أن الله جل وعلا قد واسى رسوله الكريم، عندما حمل قسرا على الخروج من وطنه، والنأى عن أرضه، قال جل وعلا: (إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو فى ضلال مبين) فرده الله إلى مكة ظافرا منتصرا، حتى أتته القبائل مذعنة، مؤكدة صدق كلام رب العالمين. ومن صنوف المواساة الوقوف بجانب أصحاب العاهات وذوى الهمم، فقد عاتب الله جل وعلا نبيه فى ابن أم مكتوم قائلا: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى) فيا عجبا كيف يدرك الرجل الأعمى القطوب والعبوس! ولكن لا غرو فهو كلام العلى القدوس.

قضاء الديون
ويوضح د. المتولى أن من ضروب المواساة كذلك الوقوف بجانب المدين إلى أن يقضى دينه، فقد دخل النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: (يا أبا أمامة، مالى أراك جالسا فى المسجد فى غير وقت الصلاة؟ قال: هموم لزمتني، وديون يا رسول الله، قال: أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك، قلت: بلى يا رسول الله؟ قال: قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللهم إنى أعوذ بك من الهم، والحزن، وأعوذ بك من العجز، والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين، وقهر الرجال، قال أبو أمامة: ففعلت ذلك، فأذهب الله عز وجل همى وقضى عنى دَيْني» سنن أبى داود. ومن صنوف المواساة كذلك جبر خاطر الضعفاء الذين لم يرزقهم الله بسطة فى الجسم والرسم، فقد كشفت الريح يومًا عن ساقى ابن مسعود- رضى الله عنه- فضحك القوم منه، فجبر النبي- صلى الله عليه وسلم- خاطره، وأعلى شأنه وبيَّن مكانته عند ربه، فقال: «والذى نفسى بيده لهما أثقل فى الميزان من أحد» (رواه الإمام أحمد).

والمواساة لا تحتاج إلى كبير عمل، فقد يحصلها الإنسان بكلمة طيبة، أو دمعة صادقة، تدل على المشاركة والانفعال، وحسن الخصال والخلال. ففى الصحيحين، قالت عائشة -رضى الله تعالى عنها-: «وقد بكيت ليلتين ويومًا لا يرقأ لى دمع، ولا أكتحل بنوم، حتى إنى لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواى جالسان عندى وأنا أبكى فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكى معي» يا الله !! ما صنعت المرأة شيئًا إلا أنها قاسمت السيدة عائشة كمدها فقط بدمعة حانية.

مواساة الصغار
ويتابع د. المتولى أنه حتى الصغار كان لهم من رحمة النبى ومواساته نصيب على الرغم من أعبائه الثقال، التى تنوء بحملها الجبال. ففى مسند الإمام أحمد عن أنس -رضى الله تعالى عنه- قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل علينا، وكان لى أخ صغير، وكان له نغر (طائر صغير) يلعب به فمات، فدخل النبى صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأه حزينًا، فقال: «ما شأن أبى عمير حزينًا؟» قالوا: مات نغره الذى كان يلعب به يا رسول الله. فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير» وعلام العجب وهو الرحمة المهداة والنعمة المسداة!!

ثناء إلهي
ويشير د. المتولى إلى أنه من صور المواساة التى يقف بإزائها الذهن حائرًا والعقل ذاهلًا: مواساة الأنصار للمهاجرين بالغالى والثمين، حتى مدحهم الله تعالى، وأثنى عليهم بأحسن الثناء وأجمله قائلًا: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون﴾. ولما وجد الأنصار يوم فتح مكة فى أنفسهم شيئًا مما أعطاه النبى لنفر من قريش يتألف به قلوبهم إلى الإسلام؛ أدرك النبى صلى الله عليه وسلم ذلك فى قسمات وجوههم، فطيب خاطرهم، وأسال الماء البارد على قلوبهم الملتهبة فقال: «يا معشر الأنصار... لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، لسلكت وادى الأنصار وشعبها». وجدير ألا تغيب عنا ضرورة مواساة المرضى،  والتخفيف عن الثكلى والعجائز، فضلا عن اتباع الجنائز، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- يومًا لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائمًا، قال أبو بكر: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة، قال أبو بكر: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينا قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن فى امرئ إلا دخل الجنة». وإن كان بذل المواساة للجميع ضرورة شرعية وقيمة اجتماعية، فهى فى حق ذوى القربى آكد، فما أجمل أن يواسى الزوج زوجته والمرأة زوجها، فقد بلغت السيدة خديجة فى هذا الباب شأوًا عظيمًا عندما واست النبى صلى الله عليه وسلم للوهلة الأولى من حياة النبوة قائلة له:» كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا فوالله إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق».