آخر صفحة

حامد عز الدين يكتب: سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة

حامد عز الدين
حامد عز الدين

لفظ «الرحمة» مفهوم إسلامي أصيل ورد ذكره في القرآن الكريم 268 مرة، وقد ورد في أكثر مواضعه بصيغة الاسم، نحو قوله سبحانه: (إنه هو التواب الرحيم) -البقرة- 37.. وورد في 14 موضعًا بصيغة الفعل، نحو قوله سبحانه: (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) الأعراف -149. وفي اللغة العربية (رَحِمَ) الرَّاءُ وَالْحَاءُ وَالْمِيمُ أَصْلٌ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى الرِّقَّةِ وَالْعَطْفِ وَالرَّأْفَةِ. يُقَالُ مِنْ ذَلِكَ رَحِمَهُ يَرْحَمُهُ، إِذَا رَقَّ لَهُ وَتَعَطَّفَ عَلَيْهِ. وَالرُّحْمُ وَالْمَرْحَمَةُ والرَّحْمَةُ بِمَعْنًى. وَالرَّحِمُ: عَلَاقَةُ الْقَرَابَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ رَحِمُ الْأُنْثَى رَحِمًا مِنْ هَذَا، لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَكُونُ مَا يُرْحَمُ وَيُرَقُّ لَهُ مِنْ وَلَدٍ. 

وصفة الرحمن وردت في القرآن الكريم في 57 موضعًا اقترن في ستة منها باسم الرحيم ولم يقترن بغيره في بقية المواضع . فالرحمن اسم خاص بالله سبحانه وتعالى ولم يسم به غيره مطلقًا. كما قال تعالى في الآية 110 من سورة الإسراء: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) . والملفت أن الرحيم وردت في القرآن 114 مرة أي ضعف الرحمن التي وردت فقط في 57 موضعًا. وعلى رغم أن كلا الصفتين هي صيغة مبالغة فإن الرحمن أشد مبالغة في الرحمة، لعمومها في الدارين «الدنيا والآخرة» لجميع خلقه فهو يرزق المؤمن والكافر وينعم عليهم ويذكرهم بنعمه. أما الرحيم فهو من جهة المؤمنين. قال تعالى في سورة الأحزاب الآية 43: «وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا». 

وفي الآية 54 من سورة الأحزاب: «وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ». فربكم أي خالقكم جميعًا كتب على نفسه الرحمة لكل مخلوقاته. لكن الله بوصفه المعبود أيضًا كتب على نفسه الرحمة قال تعالى في الآية الرقم 12 من سورة الأحزاب: (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) . ذلك أن الله واجب الوجود بذاته المعبود لصفاته- كتب الرحمة على نفسه، أليس هو سبحانه جل وعلا القائل: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ َأيًّا مَا تَدْعُوا). كتب ربكم على نفسه الرحمة أي: أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ. 

ثم يعود سبحانه وتعالى  في الآية 156 من سورة الأنعام ليوضح مفهوم ونطاق رحمته جل شأنه: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ). إنها رحمة وسعت أي اتسعت لتشمل كل شيء، وكل تعني الشمول والإحاطة. إنها رحمة الله التي سبقت غضبه والتي سبقت عدله، فلولا هذه الرحمة ما بقي للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض، فالله جل جلاله يقول: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَيَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ» {النحل:61} فالإنسان خلق ضعيفا، وخلق هلوعا، وخلق عجولا وجزوعا وكنودا ويئوسا وكفورا - وغيرها من الصفات السيئة في جيناته كما خلقه الله - لهذا فذنوب الإنسان في الدنيا كثيرة، وهي ذنوب نرتكبها بدرجات متفاوتة، ولا يمكن لأحد منا أن ينسب الكمال لنفسه حتى هؤلاء الذين يبذلون أقصى جهدهم في الطاعة لا يصلون إلى الكمال، ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلى كل عمل باسم الله، فعلَّمنا أن نقول: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لكي نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله، وأن المعصية لا تمنعنا من الاستعانة في كل عمل باسم الله، لأنه الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى.

وبصفة عامة، فإن لفظ (الرحمة) من الألفاظ العامة والشاملة، التي يدخل في معناها كل خير ونفع يعود إلى الإنسان في دنياه وآخرته. فالرحمة التي هي (صفة) الله جل وعلا، تثبت له على ما يليق بجلاله وعظمته، من ذلك قوله عز وجل: «ورحمتي وسعت كل شيء» وقوله سبحانه: (وربك الغني ذو الرحمة). و(الرحمة) كـ(صفة) لله سبحانه هي الأكثر وروداً في القرآن الكريم. 
. وهناك - الرحمة بمعنى (المغفرة والعفو)، من ذلك قوله تعالى: «كتب ربكم على نفسه الرحمة». ومن ذلك أيضاً قوله تعالى في الآية 53 من سورة الزمر: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله» أي: لا تيأسوا من مغفرته وعفوه. 

وهناك الرحمة بمعنى (العطف والمودة)، من ذلك قوله سبحانه في الآية 29 من سورة الفتح: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم). ونحو هذا قوله عز وجل في الآية 27 من سورة الحديد: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة). 

وفي الأسبوع المقبل نستكمل بمشيئة الله. إن كان في العمر بقية محاولتنا لمزيد في التدبر في كتاب الله الكريم.