منى عبد الكريم.. أثير الأرض وروح الفنان

لوحه من لوحات نازلي مدكور
لوحه من لوحات نازلي مدكور

فى اختيار «أثير الأرض» عنوانا لمعرض الفنانة نازلي مدكور الذى استضافه مؤخرا جاليرى بيكاسو بالزمالك، ثمة دلالات عدة، فلطالما ارتبطت الفنانة بالطبيعة، فالطبيعة بالنسبة لها هى المعلم الأكبر، وهى مصدر الإلهام بل إنها منبع الصور التى نبصرها وتعيش فى مخيلتنا.

فما بين الظاهر والباطن تصحبك نازلى مدكور إلى عالمها الخاص فى لوحات معرضها «أثير الأرض» فهناك أكثر من وجهٍ للأرض يرتبط بتصوراتنا عما تستدعيه الكلمة من معنى، فبين ما تحمله الأرض من تضاريس كالجبال والصحارى والسهول والوديان والأنهار والبحار، يمكن أن تقرأ أعمال مدكور الموحية دون مباشرة والتى اعتمدت فيها على التجريد، وبين ما تحمله الأرض داخلها، الأمر الذى يقودنا إلى فلسفة الميلاد وبداية الحياة، وربما هذا ما ينعكس بشكل أكبر فى العنوان الإنجليزى الذى يؤكد على فكرة التجذر وما تثيره بمعان لها علاقة بالجذور والهوية والانتماء.



اقرأ أيضاً | اتحاد الناشرين العرب يدين ما تعرض له فخري كريم

وعلى قدر ارتباط نازلى بالطبيعة وبالزهور، فلسنوات اتخذت مدكور الزهور لغة تتحدث مفرداتها فى لوحاتها عبر معارض عدة نذكر منها على سبيل المثال «حدائق خاصة»، «تأملات»، يأتى هذا المعرض ليحتفى بالمكان، وبفيض ذكرياتها عن الأمكنة والتى تندمج مع مشاهداتها اليومية، لتقدم أعمالها من منطقة الذات مفسحة المكان –كعادتها- للاوعى «ليبوح ويفصح عما يجيش بداخلها من انفعالاتٍ حيث تقول: «بالطبع ليست هناك مرحلة تنفصل بالكامل عما قبلها، فمن مرحلة لمرحلة أدفع بأعمالى الفنية إلى مناطق جديدة، فلقد استخدمت الزهور لعدة سنوات حتى شعرت أننى اكتفيت.. ووجدت نفسى أتحرك من شكل الورود ومن النبتة نفسها إلى الأرض وإلى المكان الذى تخرج منه، ولذا أنا أعتبر هذا المعرض عن المكان بمرجعياته فى ذاكرتى البصرية، سواء كانت أماكن من الجنوب أو الشمال من الواحات أو العريش أو دهشور أو أسوان أو غير ذلك، فهناك إيحاءات لأماكن معينة ولكن ليس بصورة واقعية وإنما ما تركته فى مخيلتى من أثر وربما كان ذلك سبباً فى اختيار «أثير الأرض» عنواناً للمعرض، إذ لا تصف اللوحات مكاناً محدداً.

وقد سبق وأن تناولت مدكور موضوع الأرض فى أعمالها السابقة التى يعود بعض منها للثمانينيات، تلك الفترة التى قررت فيها تغيير مسارها والتفرغ للفن حيث درست  الاقتصاد والعلوم السياسية وحصلت على ماجستير اقتصاد سياسى وعملت خبيرة اقتصادية.. إلا أن شغفها بالفن كان أقوى، وقد كان التجريب هو سمة تلك المرحلة المبكرة، وكانت أعمالها تتسم بالأسطح البارزة والغائرة، كما استخدمت ورق البردى وكثيراً من الخامات الأخرى.



وعن تغيير التناول للأرض فى أعمالها.. تقول مدكور: «بالطبع  أنظر للأشياء ذاتها برؤية جديدة ومن وجهة  نظر مختلفة.. ليس عن عمدٍ، وإنما بفعل التطور، فأنا نفسى أتغير من مرحلة لأخرى باختلاف المدخلات المحيطة بي، وباختلاف القراءات والمشاهدات التى تدخل جميعها وتغذى اللوحات، حتى الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية تؤثر فى الأعمال بشكلٍ ما فتنعكس فى الانفعالات التى أتعامل بها مع المسطح».

والمتأمل فى لوحات معرض «أثير الأرض» يمكنه أن يرى الإنسان كذلك، ليس بشخصه وإنما بأثره، ثمة بيوت وأطلال تطل علينا من بعض لوحاتها الورقية، ثمة بقايا تذوب فى اللوحات، لتقول إنهم كانوا هنا. أما الزهور فنراها كذلك... نراها بطلاً منفرداً فى إحدى اللوحات، لكنها زهور لا تشبه زهورها المعتادة إنما مقيدة داخل آنية، هى زهور تعبر عن شعورها بالاختناق لما يحدث حولها وبما تعانيه الأرض.



ومن بين الأمور التى تتضح للعيان بقوة فى هذا المعرض درامية الأعمال ليس فقط فى حالة التباين الواضحة بين الملامس، بين نعومة المسطحات وسمك العجائن اللونية، وفى هذا التباين إشارة لطبيعة الحياة ذاتها، بتباين حالتها التى يعيشها الإنسان. لكن كذلك بتوظيف اللون الأسود فى كثيرٍ من اللوحات دون أن تفقد عذوبتها، وإنما طرح تساؤلات حول ما تعانيه الأرض اليوم من صراعاتٍ وحروبٍ تعصف بها وبسكينتها وهدوئها، إذ يبدو أن نازلى مدكور تطلق صيحة تنم عن تمرد، نيابة عن الأرض أو تماهياً معها، لتخرج شحنة انفعالية قوية توازى ما يعتمل فى نفس الفنانة وداخل روحها.

«إنها لا تنظر إلى العالم بعين المراقب أو الملاحظ» كما تذكر الناقدة د.أمل نصر فى كلمتها المصاحبة للمعرض بل تتماهى معه وتلتف به وتتصل بموجوداته، ومن خلاله نتعرف على ذاتها الخاصة، وتفسح الطريق لرؤيتها التصويرية فى محاولة لاكتشاف الطبقات الكامنة خلف اللقطة النهائية المكتملة التى نراها من الخارج» مضيفة: «إنها تبحث فى صيرورة الأشياء وحالتها وقت التشكيل وهى تتعامل مباشرة مع سطح اللوحة بما يتيحه لها فن التصوير من طلاقة وتدفق، تستجيب للتداعى الحر بعزم من يملك الثقة بأن مخيلته عامرة بالصور، تبدأ فى نسج السطح بدفقاتٍ متتاليةٍ من اللون ولمساتٍ متعددة التأثير، لمسة خشنة ولمسة مرهفة، لون سميك ولون شفاف ولون متكتل، فعبر طبقاتٍ متعددة ومتتالية من مساحة اللون واشتباكات الخطوط، تبدأ فى صياغة علاقاتٍ شكلية خاصة، ثم تتجمع الأشكال وكأنها رقائق تتحلل وتحمل اهتزاز ونبض لحظة حيوية لفقدان المادية والكثافة فتأخذ شكل أطيافٍ تبدو كأنها هالات متتالية توحى ببداية الغياب».

جدير بالذكر أن الفنانة نازلى مدكور وُلدت بالقاهرة عام 1949 حيث تعيش وتعمل، وقد أقامت منذ عام 1982 أكثر من 40 معرضًا فرديًا وشاركت فى العديد من المعارض الجماعية فى مصر والخارج، وعرضت لوحاتها فى العديد من البلاد ومن بينها: ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا واليونان ولبنان والشارقة والبحرين والكويت والإكوادور وأمريكا وكندا وغيرها.

وهى مؤلفة كتاب «المرأة المصرية والإبداع الفنى» الصادر باللغة العربية وباللغة الإنجليزية،  وقامت برسم نسخةٍ فاخرة من كتاب نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل «ليالى ألف ليلة»، وقد عُرض الكتاب والنسخ الأصلية لأول مرة فى معرض كوركوران بواشنطن العاصمة فى يونيو 2005. ثم عرض الكتاب فى مصر وهولندا واليابان وإيطاليا وسويسرا والسويد والمملكة المتحدة وكندا.