نانيس أيمن تكتب: أيام السينما الخمسة في بغداد

نانيس أيمن
نانيس أيمن

قبل عام تقريبا علمت بتدشين مهرجان بغداد السينمائي، كنت زرت المدينة العريقة من قبل، لكني كنت بالتأكيد أتمنى زيارته، وفي كل مرة أزور العراق كنت انتهز الفرصة كي أزور بغداد، واستعيد ذكرياتي مع (مدينة المنصور). 
أحب بغداد، دائما ما تأسرني عراقتها منذ زيارتي الأولي لها؛ والسير في شارع المتنبي، والجلوس على ضفاف دجلة، طيبة أهلها التي تكسوا قلوبهم ولم يفقدوها رغم قَسَاوات الزمان، مشاهد وأحاسيس تجعلني لا أشعر أنني غادرت وطني، وأظل في كل مرة أتمنى العودة إليها من جديد.. وها أنا عودت يا بغداد!

منذ شهر تلقيت دعوة لحضور فعاليات مهرجان بغداد السينمائي، في دورته الأولى، برئاسة الدكتور جبار جودي نقيب الفنانين العراقيين، والدكتور حكمت البيضاني مدير المهرجان، وبدأت أهيئ نفسي العودة مرة أخري إلى عاصمة الرشيد، ذهبت إلى بغداد وأنا منفتحة لرؤية هذا الوليد الجديد بين المهرجانات العربية، ذهبت لأري تجربة فنية جديدة تتفتح بين ضفاف الرافدين. اهتمامي وشغفي كانا محركان أساسيان في بحثي عن تجارب جديدة وثقافات أخري مختلفة، وفي العراق دائما ما وجدت حضورا إبداعيا طاغيا، هناك حيث الأدب والسينما لا ينفصلان.

منذ بداية المهرجان، وكان خبر إقامة مهرجان بغداد السينمائي، محل اهتمام وإثارة للجدل على الصعيد الصحفي والإعلامي، بدا الجميع على أهبة الاستعداد لرؤية بغداد تتألق سينمائيا مرة أخري.. لكن بعيدا السجادة الحمراء والصخب الكبير والاهتمام الإعلامي الكبير، لفت انتباهي اهتمام صناع الحدث بصنع حالة إنسانية رائعة، وكان المشهد الأول رائعا حيث كرم المهرجان رموز كبيرة في الفن العراقي، على رأسهم المخرج محمد شكري جميل، أحد أيقونات السينما العراقية الذين صنعوا أفلاماً سينمائية خالدة في الذاكرة، منها فيلم "المسألة الكبرى" الذي أنتجه عام 1982، والذي حملت الدورة الأولى اسمه، كنوع من رد الجميل، وتقدير رائع مع القائمين على المهرجان لمسيرة وتأثير "جميل" في الفن العربي والعراقي.

لم يكن الفن العراقي فقط هو الوحيد الحاضر في هذه الدورة الاستثنائية من المهرجان، كان الحضور العربي كبيرا، بفضل حضور نجوما كبيرا مثل الفنان السوري الكبير دريد لحام، وكان الحضور المصري طاغيا، وكأنها رسالة أراد منها صناع المهرجان، أنه مهرجانا عربيا خالصا ليس عراقيا أو خليجا فقط، رسالة أراد منها خلالها القائمون على المهرجان، الانتصار للسينما العربية، وإعلاء لقيمة الفن والثقافة التي كانت بغداد دائما حاضنة لهما، وبرهنة على استقرار العراق وأراضيها، وانتصارها على كل الكَبَوَات التي مرت بها المدينة العريقة.

خلال أيام المهرجان الخمسة، تنقلت فيها بين مسرح الرشيد والمسرح الوطني في مدينة السحر، استمتعت بلقاء قامات فنية وإبداعية كبيرة، اشتبكت في حوارات ثرية مع المؤرخ والناقد السينمائي الكبير مهدي عباس، والتقيت الكاتب الصحفي القدير عبد العليم البنا، رأيت هناك السينما العربية تتلألأ وسط نجومها، وشاهدت هناك أقوى وأكثر الأفلام تميزا في الوطن العربي، 64 فيلما في جميع المسابقات ما بين الروائي الطويل والقصير والوثائقي، الأنيميشن، كتبوا عنوان نجاح الدورة الأولى من حيث قوتها وغزارتها؛ لكن ربما كانت متعتي الكبيرة حينما شاهدت الفيلم العراقي الوثائقي "حارس الخيال"، إنتاج نقابة الفنانين العراقيين، وتحت إشراف المؤرخ والناقد السينمائي مهدي عباس الذي قام بتقديمه، وسيناريو وإخراج الدكتور مصطفى الشوكي، والذي يقدم توثيقا هاما لتاريخ السينما العراقية، ينضم إلى الأرشيف العراقي الكبير في صون التراث السينمائي هناك.

في النهاية كانت تجربة حضوري مهرجان بغداد، تجربة ثرية من كافة الجوانب، ظهر المهرجان بشكل يليق بالعراق وفنانيه ومبدعيه ومثقفيه، الحريصين دائما على دوران عجلة الفن السابع، وعودة بغداد إلى أصالتها الثقافية والفنية كما كانت دائما، درة عواصم الفن العربي.