تِرامُ الإِسكندريَّة.. نزهة السياح والعشاق

ترامُ الإِسكندريةِ
ترامُ الإِسكندريةِ

تَبقى نزهةُ السائحِ فى مدينةِ الإسكندريةِ المصريَّةِ ناقصةَ المتعةِ والإثارةِ إذا لم يستقلّ (التِّرامَ) أَو (التُّرُومَّاي) كما يَحلُو لأهلِ المدينةِ تسميتُه.

ترامُ الإِسكندريةِ أَحدُ أَهمِّ معالمِ المدينةِ الساحليةِ العريقةِ، ظلَّ لمئةٍ وستينَ سنةً مَضتْ يَتنَقَّلُ بينَ أَحيائِها، شاهدًا على الكثيرِ من حِقبِها التاريخيةِ، يَصولُ بين مبانيها التُّراثيةِ التى سَطَّر الدَّهرُ على جدرانِها حكاياتٍ مُتخمةً بالأحداثِ والأحاديثِ، وهى صامدةٌ فى مواجهةِ الامتدادِ الرأسيِّ للعُمرانِ على حسابِ العديدِ من الفيلاتِ والقصورِ على جانبى نهرِهِ المتدفقِ بعرباتِه التى تَنسابُ فى موجاتٍ صاخبةٍ تُشاركُ ركابَها المثقلينَ بأعباءِ الحياةِ أَحلامَهم وهمومَهم، ومُنصتةً بشغفٍ أَحيانًا، ومَللٍ أَحيانًا أُخرَ لِثرثرتِهم على المقاعدِ داخلَها، ومُنزعجةً لِلتحوُّلِ الذى طرأَ على الكثيرِ من عاداتِ الناسِ وتقاليدِهم، ومُتذمرةً من ازدحامِ الشوارعِ بعد شُغورها، وضجيجِها بعد هدوئِها.

اقرأ أيضاً | طالب الرفاعى.. الكتابة صنو العيش

يستيقظُ الترامُ فجرًا قبلَ سكانِ المدينةِ؛ لِيَتهيَّأَ لاستقبالِهم،ثم يبدأُ رحلتهَ فى قلبِها النابضِ، قبلَ أَن يُنهيَها بعدَ ساعةٍ من انتصافِ ليلِها، فى ختامِ يومٍ شاقٍّ كَكُلِّ أَيامِه، يَجوبُ خلالَهُ شوارعَها وحواريَها، وأَحياءَها الراقيةَ منها والشعبيةَ؛ لِينقلَ العُمالَ والموظفينَ إلى مَحالِّ أَعمالِهم ذَهابًا، ثم إِلى مَقارِّ إِقاماتِهم إِيابًا، مُتآلفِينَ مع صخبِ عجلاتِهِ، ومتصالحينَ مع المشاهدِ المتناقضةِ التى تَتراءَى لهم عبرَ نوافذِهِ.

ورغمَ أنَّ إنشاءَ سِكَكِ حديدِ مصرَ قد سبقَ إنشاءَ التِّرامِ بتسعِ سنواتٍ إلا أن تِرامَ الإسكندريةِ الذى أُنشِئَ عام 1860م يُعدُّ أَوَّلَ وسيلةِ نقلٍ جماعيةٍ شعبيَّةٍ فى مصرَ وإَفريقيا، حيثُ كان الهدفُ من إنشائهِ خدمةَ جميعِ سكانِ المدينةِ، مصريينَ وأجانبَ، بخلافِ السِّككِ الحديديةِ التى كان الهدفُ من إنشائِها مُقتصرًا فى البدايةِ على خدمةِ مَصالحِ الاحتلالِ الإنجليزىِّ، كنقلِ بريدِهِ وقادتِهِ، وبضائِعهِ بينَ الشرقِ والغربِ، فى المسافةِ البريَّةِ بينَ ميناءى الإسكندريةِ والسُّوَيسِ مُرورًا بالعاصمةِ القاهرةِ.

ظلَّ سكانُ المدينةِ المتوسطيةِ الجميلةِ لعقودٍ طويلةٍ يَستقلُّونَ تِرامَينِ مُختلفَى اللونِ، أَحدُهما الترامُ ذو اللونِ الأَزرقِ، ويتجهُ شرقًا، ويُطلقونُ عليهِ (ترامَ الرَّملِ)، وهو الأَقدمُ، والآخرُ ذو اللونِ الأَصفرِ، يَسيرُ باتجاهِ الشمالِ الغربى، أَو كما يُسميهِ أَهلُ المدينةِ (بَحَرِي)، ويُعرف بـ (تِرامِ المدينةِ)، ويَنطلقُ ترامُ الرملِ؛ ليربطَ وسطَ المدينةِ بشرقِها ابتداءً من مَحطَّةِ الرملِ وانتهاءً بمحطةِ (فِيكتُوريا) التى كانت تُسمَى مَحطةَ النصرِ، مرورًا بالأَحياءِ الراقيةِ مثلَ: رُشدى وإِيزيس (بُولكلى)، والكَرنَك (فِلِمِنج)، ورَمسِيس (جِلِيم)، وباكُّوس، وزِيزِينيا، وشُوتْز، وجَناكْلِيس، وسَان سْتِيفانُو، وثَروَت، ولُوران، وبعضُ هذهِ الأسماءِ كانت لأَجانبَ وباشاواتٍ سَكنوا تلكَ المناطقَ.

وإلى بَحَرى يَنطلقُ ترامُ المدينةِ ذو اللونِ الأَصفرِ، وهو أَصغرُ حَجمًا؛ ليربطَ وسطَ المدينةِ بالأَحياءِ الشعبيةِ القديمةِ، وبيوتِها الأَثريةِ ذاتِ الطرازِ اليونانيِّ والإيطالى، مُبتدئًا رحلتَه من محطةِ الرملِ أَيضًا؛ لِيَمرَّ بأَحياءٍ ومحطاتٍ، من أَهمِّها: الأَنفُوشي، والجُمرك، ورأسُ التِّين، وسانْت كاترين، وكَرمُوز، والرَّصافة، ومُحرم بِك، وناريمان، والنُّزهَة، ويلتقى الترامانِ بعدما يقطعُ كلٌّ منهما مسافاتِه فى مناطقِه الخاصةِ بهِ بأَكثرَ من قطارٍ على مساراتٍ رئيسيةٍ وفرعيةٍ، يلتقيانِ فى مَحطةِ ومَيدانِ الرملِ، أَحدِ أَهمِّ وأَشهرِ ميادينِ الإسكندريةِ، وكان يُعرفُ بـ (مِنطقةِ مِسَلَّةِ كِليُوباترا) عندما انطلقتْ منه أَولُ رحلةٍ للترامِ بعد ما يزيدُ على عامينِ من الشُّروعِ فى إِنشائِه، فى عهدِ الوالى محمد سعيد باشا، حين منحَ التاجرَ الإنجليزيَّ (إدوارد سان جون فيرمان) امتيازًا فى أُغسطس عام 1860م؛ ليبدأَ بموجبهِ فى إِنشاءِ الترامِ ضمنَ خطةٍ لتعميرِ مِنطقةِ الرَّملِ، لِينطلقَ فى يناير عام 1863م أَولُ قطارِ تِرامٍ بأَربعِ عرباتٍ، تَجرُّهُ أَربعةُ خُيولٍ، وفى أُغسطس من العامِ نفسهِ أمرَ الخديو إسماعيلُ باستقدامِ قاطرةٍ بُخاريةٍ؛ لِتحلَّ مَحلَّ الخيولِ فى سَحبِ العرباتِ، واستمرَّتْ إِلى أَن استُبدِلتْ بقواطرَ كهربائيةٍ فى يناير عام 1904م، ذلكَ فيما يخصُّ الترامَ القديمَ ذا اللونِ الأَزرقِ حاليًا، ويَعملُ الآنَ فى ثلاثةِ طُرُزٍ: أَحدُها يتكونُ من ثلاثِ عرباتٍ جميعُها طابقٌ واحدٌ، وثانيها يتكونُ أَيضًا من ثلاثِ عرباتٍ لكنَّ الأُولى منها ذاتُ طابقَينِ، وثالثُها يتكون من عربتينِ الأُولى منهما ذاتُ طابقينِ أيضًا.

أَمَّا الأَصفرُ، ويتكونُ من عربتينِ اثنتَينِ، فقد أَنشأتهُ شركةُ بلجيكيةٌ تحتَ مُسمَّى (تِرامَواى) _ خَفَّفهُ السَّكندرِيُّون إلى التُّرومَّاي _ لربطِ أَحياءِ المدينةِ القديمةِ بعضِها ببعضٍ، وانطلقَتْ أَولُى رحلاتِه بالعرباتِ الكهربائيةِ مباشرةً، فى الحادى عشرَ من سبتمبر 1897م، بحضورِ الخديو عباس حلمى الثانى وأَعيانِ الإسكندريةِ وجمهورٍ غفيرٍ من الأَهالي. وتَجدرُ الإشارةُ إِلى أَنَّ سائِقى الترامِ فى ذلكَ الوقتِ كانوا إِيطاليينَ، بينما كان الكُمْساريَّةُ (مُحَصِّلُو التَّذاكرِ) من مَالْطَا، وظلُّوا مُحتكرينِ لِلمهنتَينِ حتى قامت ثورةُ يُوليو عام 1952م فتَمَّ تأميمُ المِرفَقِ، وتوظيفِ مِصريينَ بدلاً منهم.

اعتادَ أَهلُ المدينةِ والوافدونَ إِليها أَن يَرَوا الترامَ بلَونيهِ المذكورَينِ، فلم يَطرأْ عليهِ تغييرٌ بشأنِهما، وإِنما كانَ التركيزُ مُنصَبًّا على الصِّيانةِ، واستبدالِ العرباتٍ المتهالكةِ بأُخرى جديدةٍ قد تختلفُ فى تصميمِها عن سابقاتِها، أَو مَدِّ خطوطٍ فرعيةٍ جديدةٍ، أَو تعطيلِ بعضِ خطوطِه وإِحلالُ الأُتوبيساتُ محلَّها، حتى جاءَ يونيو من عام 2015م، فانطلقتْ معهُ مُحاولاتٌ نوعيةٌ للتطويرِ، سياحيةً وجماليةً، بهدفِ إِضفاءِ نوعٍ من البهجةِ على نفوسِ الأَهالى، فاستُحدثَ ما يُسمى بـ(ترامِ كافِيه)؛ ليُقدمَ خدماتٍ إِضافيةً للركابِ، كتشغيلِ الموسيقى، وتقديمِ المشروباتِ، كما يضمُّ مكتبةً مصغَّرةً للكتبِ، والصحفِ اليوميةِ، إِضافةً لإِمكانيةِ استئجارهِ لإقامةِ الحفلاتِ، ولاقَى ذلك استحسانًا لدَى شريحةٍ كبيرةٍ من الجماهيرِ.

تلا ذلكَ إدخالُ لونينِ جديدينِ لم يعهدهُما الترامُ أو الجمهورُ، هما الأخضرُ والأحمرُ ليسيرَا على التوالِى فى مسارِ الترامِ الأزرق، لكن الأولَ يعودُ من محطةِ سَانْ سْتِيفانو، أما الثانى فيستمرُ ليتوقفَ فى محطةِ فِيكتُوريا بعد أَنْ يجنحَ إلى مساراتٍ فرعيةٍ فى بعضِ المناطقِ، لكنَّ استحداثَ اللونينِ الجديدينِ لم يَرُقْ لأَغلبِ سكانِ المدينةِ، وتَسببَ فى استياءٍ وغضبٍ كبيرينِ، إِذ رأَى المثقفونَ فى ذلكَ تَشويهًا لتُراثِ عروسِ البحرِ الأبيضِ المتوسطِ مُتمثلاً فى أَحدِ معالمِها القديمةِ، وقد عاشوا حياتَهم يرونَه علامةً مُميِّزةً للمدينةِ بلونيهِ الأَزرقِ المستمدِّ من لونِ البحرِ أَهمِّ معالمِها، والأَصفرِ المستمدِّ من لونِ شاطئِها وواجهاتِ مبانيها، وهما اللونانِ المعتمَدانِ لِلعَلَمِ الرسمىِّ للمحافظةِ ثالثُهما صورةٌ لِلفَنار، أَمَّا استياءُ العامةِ فنَتجَ عن كَونِ تَعدُّدِ الأَلوانِ قد أَحدثَ تَشويشًا على ذاكرتِهم التى ربطتْ مُنذ نشأتِهم بينِ اللونينِ القديمَينِ وبينَ اتجاهَى مَسارِهِما، والأَحياءِ والمحطاتِ التى يَمرُّ بها كلٌّ منهما، فقد كان الراكبُ يَقصدُ اللونَ دونَ السؤالِ عن وِجهتِهِ أو محطاتِ عبورهِ، لأَنه يعلمُها من خلالِ صُحبةٍ دامتْ بينهما لسنواتٍ. إلا أَنَّ ذلك لم يؤثِّر فى إِجماعهِم على أَنَّ الترامَ فى كلِّ أَحوالهِ وأَشكالهِ وسيلةُ نقلٍ تُناسبُ كلَّ الفئاتِ والطبقاتِ، إِذ يَمتازُ برُخصِ تذكرتِهِ مقارنةً بوسائلِ النقلِ الجماعيةِ الأُخرى، ما يجعلُ التجوُّلَ فى المدينةِ من خلالِه نزهةً ترفيهيةً شِبهَ مجانيةٍ.

فى مَطلعِ عام 2019م، شهِدت المدينةُ تطورًا رائعًا فيما يَتعلقُ بالترامِ، حيثُ تمَّ استيرادُ عرباتٍ جديدةٍ صفراءِ اللونِ من أُوكرانيا؛ لِتسيرَ مع الترامِ الأَزرقِ فى مناطقِهِ، وقُوبلَتْ الخطوةُ بترحيبٍ بالغٍ بَدا واضحًا على وجوهِ الناسِ وفى حديثِهم، كونَها حافظَت على اللونِ الأَصفرِ الذى يَعتزُّون به، ولكونها مُصمَّمةً تصميمًا راقيًا ومتطورًا، فهى سريعةٌ ومكيفةٌ، وزجاجُ نوافذِها أَكثرُ شفافيةٍ، وبها إِذاعةٌ داخليةٌ للتواصلِ مع الركابِ، وإِخطارِهم بالمحطاتِ المتتاليةِ، ومجهزةٌ بخدمتَى الـ جى بى إس والـ واى فاى، وكلُّها مَيزاتٌ تجعلُ الراكبَ أَكثرَ استمتاعًا برحلتِه داخلَ مدينةِ الثغرِ التى احتضنَت الترامَ لأَكثرَ من قرنٍ ونصفِ القرنِ، فى فصلٍ من فصولِ تطوُّرِ حضارةٍ إِنسانيةٍ عظيمةٍ، نشأَتْ على الضفةِ الجنوبيةِ للمتوسطِ، تَنوَّعت فيها روافدُ النبوغِ؛ فأَورَثتنا شواهدَ بَينةً على تفاصيلَ مُبهرةٍ تراكمَت عبرَ العصورِ، مُنذ أَسَّسَ المدينةَ الإسكندرُ الأكبرُ عام 331 قبل الميلادِ.