محمد سالم عبادة.. بعيدا عن المعارك الكلامية التى شوشت على منجزه قراءةُ فى ثلاثة من ألحان مغامرة موسيقية اسمها حلمى بكر

حلمى بكر
حلمى بكر

بعد أن ملأ الدنيا ألحانًا، وشغل الناس جدالًا حول ما دون ألحانه، رحل حلمى بكر(١٩٣٧-٢٠٢٤) عن عالمنا مطلع مارس الماضى عن عمرٍ يتجاوز السادسة والثمانين. وإذا كان القدَر قد أراد أن يكون ما ثار من جدالٍ فى حياته حول معاركه الكلامية التى كان يشنُّها فى البرامج الحِوارية التى حلَّ ضيفًا عليها، وبعد وفاته حول ظروف هذه الوفاة، فلا أقلَّ من دقائق نحاول فيها قراءة عيّنةٍ بسيطةٍ من منجَزه التلحينى الضخم، فى محاولةٍ للوقوف على خصائص أسلوبه، واحترامًا لما آثرَ أن يقدِّم به نفسَه إلى الناس: موسيقيًّا قبل كلّ شىء. وسنكتفى من هذا المنجَز بثلاثة ألحانٍ، أراها تعبّر عن توجُّهاته وتلخّص شطرًا من مغامرته الموسيقية الفريدة.

عرباوى – محمد رشدى (1966):
من كلمات (حسن أبو عتمان)، قدّم بَكر لرشدى هذه الأغنية فى فِلم «الزوج العازب»، وهى أغنية زفاف فى سياق الفِلم. يبدأ اللحن فى مقام العجم بمشاكسة سريعة من الوتريات صعودًا من(صول) إلى (ري) وعودةً إلى (صول)، قبل أن تصدح المجموعة «عرباوي» صاعدةً من (لا) إلى (دو)، ثم تعود الوتريات للمشاكسة بين (صول) و(مي)، قبل أن تبدأ الطبلة فى إيقاع المقسوم مصاحبةَ الوتريات فى هبوطها المقام من (ري) إلى (مي) فى ثنائيّاتٍ متجاورة (دو/رى – سي/دو -...) وصولًا إلى (صول) غمّاز المقام، كأنها تعزف جُملة استعطافٍ من عاشقٍ لحبيبته، ثم تنتهى بهبوطٍ آخر من (مي) الجواب إلى (سي) قبل لمسةٍ أخيرة (صول دييز- لا – ري- دو 4 مرّات) تتكرّر مرتين لنستقرّ على أساس المقام، والمهم أنّ الجملة هنا أقرب إلى احتدادٍ من هذا العاشق البطل فى دفاعه عن نفسه، ثم عودةٍ منه إلى التسليم لأمر الحبيبة. وهذا بالطبع تأويلٌ شخصيٌّ يحاول أن يستنطق اللحن فى سموِّه وتعاليه بكلامنا الإنسانيّ كما نعرفه من خبراتنا، وقد يوافق رؤية البعض ويراه آخرون غير موفَّق. 

اقرأ أيضًا| صدوق نورالدين.. النوم إلى جوار الكتب: تلوينات الحكاية

 تغنّى الجوقة المذهب «ولا يا ولا يا عرباوي» إلى «المَهر مَركب وانت معدّاوي» ملتزمةً بالمَقام تمامًا، فى بساطةٍ نغميّةٍ فريدةٍ كأننا إزاء لحنٍ أساسيٍّ من إحدى سمفونيّات موتسارت الفرِحة، وقد أُلبسَت ثوبًا شعبيًّا مصريّا. ويستمرّ هذا الجوّ مع دخول صوت رشدى فى الغصن الأول من الأغنية، وصولًا إلى «الشمس تخجل قدّام عينيها»، فهو جوٌّ موحٍ بأنّ الجوقة تشارك العاشق همَّه وتفكّر له فى نهاية سعيدة لقصّة حبّه، ثمّ يُترَك المجال للعاشق نفسه الذى يلفُّه الفرح بحالة الحبّ، فيعبّر عن انشغاله بحبيبته دون خروجٍ عن هذا الجوّ الفرِح.

ولا يختلف الجوّ إلا قليلًا حين يعرّج اللحن على جنس الحجاز على درجة صولفى جملة «والبدر يسهى لمّا يراعيها»، كأننا خرَجنا من العجم الصريح إلى أحد مشتقّاته وهو مقام (زنجران) الذى أسفلُه فرِح وأعلاه حزين، لكنّ السياق اللحنيّ متضافرًا مع الكلمات يجعلنا ندرك أنّ هذا الخروج ما هو إلا مداعَبةٌ من العاشق لحبيبته، كأنه يرثى حال القمر حين يبصر جَمال نظرة الحبيبة، والشاهد أنه يعود إلى العجم الصريح فى صعوده من (دو) القرار إلى جوابها فى جملة «وايش حال انا يابو قلب غاوي».

 فى الغصن التالى «قلبى يا قلبى يا بو الحيارى» ينتقل اللحن إلى مقام النهاوند على درجة (دو)، هابطًا من (مى بيمول) الجواب إلى (دو) القرار، وهو اختيار يعكس حساسية ملحِّننا لاحتمالات المعنى التى تتضمّنها الكلمات، فقد انتقل الشاعر من وصف الحبيبة إلى مناجاة قلبه، يحدِّثه عن خططه الخيالية فى علاقته بها، ولأنّ مناجاة النفس تنطوى على قَدرٍ من التأمُّل، فقد اختار بَكرٌ مقام النهاوند، ولأنه مأخوذٌ بحماس العشّاق الخياليّ الذى لا يسمح للتأمُّل بأن يكتسب إيقاعًا بطيئًا، جعل اللحن يبدأ عاليًا من (مى بيمول) الجواب ويهبط سريعًا إلى أساس المقام. وحين يصل الحماس إلى ذروته مع قوله «لابدُر الصحرا خضرة وميّة/ وازرع الحنّة ف إيدها وإيديا» يراوح اللحن صعودًا وهبوطًا بين (فا) الجواب و(سي)، خارجًا فى هذه النغمة الأخيرة عن سلّم النهاوند الذى يقتضى المرور بـ(سى بيمول)، وكأنّ اللحن هنا يواكب شطحات خيال العاشق وتسارُع نبضات قلبه، لاسيّما أنّ اللحن يعود إلى جادّة النهاوند مع قوله «اهدا يا قلبى صبرك عليّا»، ومنها يعود إلى العجَم مقام الأغنية الأساسى فى «والصبر هوّ.. هوّ المِداوي».

فى الغصن الثالث ينتقل اللحن إلى مقام الصَّبا على درجة (صول) مع جملة «والله يا هوى مغرم صبابة/ وقالوا لى أهل الهوى غلابة» موحيًا بلوعة العاشق المغرَم. لينتقل منه إلى البياتى الدافئ على درجة (صول) فى «وأصُرّ الهنا فى طرحة تُلّي/ وابدُر عشّنا ياسمين وفُلّي»، حيث يصل خيال العاشق إلى استقراره ومحبوبته فى عشّهما الهانئ، ليعرّج سريعًا على النهاوند المتأمّل فى «واخلِف ظنّكم فى الحُبّ ياللي»، متخذًا منه قنطرةً للعودة إلى العجم فى «فاكرين الهوى دمع وشكاوي».

والخلاصة هنا أنّ ملحّننا الراحل أخرج من كلمات الشاعر أقصى طاقتها التعبيرية بلحنه الذى انتقل بين المقامات وتصرّف فيها بحساسيةٍ أخّاذةٍ، تاركًا لنا إحدى أجمل أغانى الزفاف السينمائية. 

فاكرة – نجاة الصغيرة (1980):
فى إحدى أعلى أغانى الحبّ تحليقًا، من كلمات عبد الوهاب محمد، بدأ ملحِّننا هنا بجُملة سريعة يعزفها الجيتار الكهربيّ ليسلّم للوتريات التى تستقر على أساس مقام الكُرد على درجة (دو). ثم تنطلق الوتريات فى حوار مع الأورغ الذى يجرّب من خلاله حلمى بكر صوت أورغ الـﭽـاز الذى يضيف بُعدًا حُلميًّا إلى المقدمة الموسيقية، فكأننا فى تلافيف ذكريات المطربة، نستكشفها قبل أن تَشرع هى فى التحدث عن هذه الذكريات الملتبسة. وستتكرر هذه اللازمة الفريدة بين أغصان الأغنية بالكيفية نفسها. 

جاء لحن المذهب بسيطًا فى مقام الكُرد على درجة (دو)، لكنّ ملحّننا عهِد إلى الجوقة النسائية بنُطق الكلمة الأولى فى كل جُملة، فتقول المجموعة «فاكرة» لترُدّ نجاة «أنا ناسية وفاكرة»، ثم تقول «حُبُّه» فترُدّ «بقى ماضى وذكرى»، وفى هاتين الكلمتين تستقر الجوقة على درجة (دو)، ثم ترتفع إلى (مى بيمول) فى الكلمتين التاليتين «يعني» و»لكن».

وبهذا التصرُّف التوزيعى الملهَم قدَّمَنا إلى دخيلة نفس بطلة الأغنية التى تعانى ارتباكًا فى ذاكرتها، ربما لتشابُك إرادة النسيان مع الرغبة العميقة فى عدم تجاوز قصة الحب القديمة، فالجوقة فى أوّل جملتين تقوم بدَور الرغبة العميقة فى البقاء فى الماضى «فاكرة – حُبُّه»، ومع الارتفاع فى الجملتين الأخيرتين إلى «مى بيمول» يبدو أنّ البطلة تتمكن من السيطرة على تلك الرغبة فتجعل الصوت العميق القادم من داخلِها يقول كلمةً مترددةً «يَعني» ليردّ صوتُها الواعى «عندى يادوب فكرة» ، ثمّ يستدرك على كلِّ ما فات «لكن» لتردّ بحَسمٍ «خلّينا ف بُكرة».
 
 يجيء الغصن الأول «آه ع اللى باستنّاه/ ياه ع اللى باتمنّاه» فى مقام الكُرد نفسِه، لكننا نَشهد خروجًا منه فى جُملة «دانا عُمرى حيبتدى ويّاه» التى تهبط على جنس العجم من صول إلى دو، ثمّ تهبط من دو إلى سى بيمول إلى لا بيمول كأننا إزاء مقام جديد مهجَّن (جنس جذعه نهاوند على درجة فا، وفرعه العجم على درجة دو) يَخلق حالةً من الفرح بالبداية الجديدة، لكنه فرحٌ محكومٌ بالتوقُّف، إذ تَغلب حالة التأمُّل الشجيّ. وسرعان ما يعود اللحن إلى الكرد مع جملة «أنا عايزة أطير مع حب كبير ...إلخ» لتظلّ فيه إلى نهاية الغصن مع «أيوة .. آدى كلّ آمالي» وصولًا إلى «هوّ .. احلى ما فى الدنيا».

بعد ذلك يَحدث انقلاب مفاجئ فى اللحن، إذ تَخرج الوتريات إلى مقام راست على درجة (فا) ويدور حوار بين الوتريات والناى فى هذا المَقام قبل أن تصدح نجاة «أهلاً بالحبّ يا أهلًا بيه» إلى نهاية الغصن، فى فاصل قد يكون من أوفر فواصل الأغنية المصرية حظًّا من البهجة والطرَبية، وهو فى ذلك يقف مع مقدمة الأغنية الحالمة الشجيّة على طرفَى نقيضٍ، لكنّ اللحن يعود فى النهاية إلى الكُرد مع جملة «أنسى روحى معاه» التى تردُّنا لحالة الحُلم، لنكتشف موسيقيًّا – أكثر ممّا نكتشف شِعريًّا عن طريق الكلمات – أنّ هذا الفاصل البهيج الطرَبيّ لم يكن إلا استغراقًا فى الحُلم ونسيانًا لكلّ ما دونه. والمدهش أنّ جُملة الختام هى جُملة الافتتاح التى يقوم فيها الجيتار الكهربى بدَور البطولة، فكأننا كنّا ندور فى حلقةٍ مُفرَغةٍ تبدأ بالذكريات الملتبسة وتنتهى بها.



على عيني- وردة (1983):
بدأ اللحن بدايةً راقصةً تمامًا فى مقام الهُزام على درجة (لا) وفى إيقاع المصمودى الكبير، مُشيعًا جوًّا من الشغَف والترقُّب من خلال تتابُعٍنغميٍّ يبدأ من (دو – لا نصف بيمول - دو) وتتكرر فيه أحيانًا نغمة (دو) فى تلاحُق، ويَخرج اللحن عن سلّم الهُزام بطَرق نغمة (سي) مرّتين بدلًا من (سى بيمول)، وهما تصرُّفان يوحيان من طرفٍ خفيٍّ بدقّات قلبٍ ملتاعةٍ مضطربةٍ لشدّة ما تعانيه من الشوق. ثمّ ما يلبث التتابع أن يرتفع بمقدار نغمتين، فتنتقل بدايته من (دو) إلى (مي)، فى إيحاءٍ بتصاعُدٍ دراميٍّ فى هذه المَشاعر. تتسلّم وردة الغناء من المقدمة الوترية -التى يدخل فيها الناى كذلك- فى المقام نفسِه،لتؤكِّد الكلمات إيحاء المقدمة «على عينى يا حَبّة عيني، جايّة لك هَوا... إلخ». وما يلبث اللحن أن ينتقل إلى مقام البياتى على درجة (دو) مع جملة «لو بينك بحور وبيني، حنعدّى سوا»، ليؤكد دفء الاطمئنان فى علاقة بطلة الأغنية بحبيبها. ثم ينتقل مرةً أخرى إلى مقام الراست على درجة (فا) فى جملتَى «عطشانة هواك يسقيني/ محسودة عينيك ترقيني»، معتمدًا هنا على قفزاتٍ واسعةٍ مفاجئةٍ عبر هذا المقام، فقد كان السياق الشِّعرى يقتضى أن تقسَّم الجملة إلى «عطشانة» ثمّ الردّ «هواك يسقيني»، لكنّ ملحّننا قرر أن يَلعب هنا لعبًا شعبيًّا، ربما أغراه به صوتُ وردة العريض، فجاءت «عطشانة هواك» ملتصقتين فى تتابع نغمى بين (فا الجواب - سى بيمول الجواب)، فيما جاءت «يسقيني» ردًّا منخفضًا مطمئنًّا (لا نصف بيمول القرار – دو – فا القرار)، وبالتقسيم نفسه جاءت الجملة التالية «محسودة عينيك – ترقيني». وهذا اللعِب خرجَ عن تأكيد دفء العلاقة مع مقام البياتى إلى وصف تفاصيل العلاقة المثالية المنتظرة بين الحبيبين، وهى تفاصيل فرِحة مطمئنّة إلى درجة الطرَب.

بعد ذلك يعود اللحن من الراست إلى الهُزام على درجة (لا) لتغنّى منه وردة «تعبانة ومين يداوينى ومعاك الدوا..إلخ»، وهى عودة موفّقة فى رأيي، متّسقة مع مقتضى الكلمات، فلوعة مقام الهُزام – وهى لوعةٌ عابثةٌ هنا، لا تخلو من غُنج – مناسبةٌ تمامًا لقولها «تعبانة ومين يداويني».
 
تتكرر اللازمة البديعة ليبدأ الغصن الثانى «جايّة لك نخلّى الدنيا/ طول ما احنا سوا حاجة تانية» فى المقام الأساسى للأغنية نفسه. وينتقل اللحن إلى مقام الكرد فى «لسه الحياة قدّامنا/ وخسارة نضيّع ثانية» لينعكسعلى الموسيقى ما فى الكلمات من شوقٍ إلى حياتهما المستقبلة معا.

ثمّ ينتقل اللحن ثانيةً إلى الراست على درجة (فا) فى «وان طال السهر ونّسني/ وان نامت عينيا احرسني وبلمسة حنان صحّيني للنور والهوى» لنعود إلى الفرَح بتفاصيل حياة العاشقَين المنتظَرة كما فى «عطشانة هواك يسقيني..إلخ».

والمدهش هو تكرار كلمة «الهوى» بين نغمتَى (رى – صول) حتى تستقرّ على (دو)، وهو حسّاس مقام الهُزام على درجة (لا) – أى ثالثة نغماته – لتتسلّم الجوقة غناء المّذهب من وردة «على عينى يا حبّة عيني» فى الهُزام، فتحقَّق بذلك رَبط غير متوقَّع بين الراست ومقام الأغنية الأصلى (الهُزام). وفى رأيى أنّ هذا التصرُّف من ملحّننا ليس إلا انتصارًا لما يختزنه صوت وردة من قدرةٍ على التطريب، ربما على حساب الدِّقّة التعبيرية التى تحرّاها أوّلًا حين أتى بالقنطرة الموسيقية بين الراست والهُزام ممثَّلةً فى جُملة «تعبانة ومين يداويني...» فى الهُزام.
 
بعد ذلك ينتقل اللحن إلى جملةٍ سريعةٍ فى مقام الكُرد على درجة (صول)، تبدأ من نغمة (مى بيمول) لتستقرّ على (صول)، ثمّ سريعًا ما تُصوَّر على الكُرد على درجة (لا) بأن تبدأ الجُملة نفسُها من (فا) بدلًا من (مى بيمول)، قبل أن يختم هذا الجزء بالاستقرار فى كُرد على درجة (صول). وفى هذه المقدّمة الجديدة تهيئةٌ لنا لدخول فضاءٍ جديدٍ شجيٍّ من فضاءات الأغنية.
 
يدخل صوت وردة بجملة «دانا روحى عليك ملهوفة/ تايهة وضحكتى مخطوفة» مراوحًا بين النهاوند على درجة (دو) والكُرد على درجة (صول)، والحقيقة أنّ المقامَين متعادلان تمامًا، ولا يفرِّق بينهما إلّا جَعل جنس الجذع فى أحدهما جنسَ الفرع فى الآخَر، وربّما يمثّل هذا معادلًا لما تصِفه الكلمات من لهفةٍ وتِيه.

ثمّ يدهشنا لحن جملة «ويشوفوا عينيا يقولوا مال عينك؟» الذى وضعه (بكر) فى النهاوند، ليأتى جوابالسؤال «أقول مطروفة» هابطًا تتابع (سى بيمول – لا نصف بيمول – صول) مستقرًّا فى مقام البياتى على درجة (صول). هنا يشعر المتلقّى بشكلٍ من أشكال التعاطف والمواجدة مع البطلة التى تُخفى سبب بكائها، وقد كرَّس هذا التعاطُفَ دفءُ البياتي، كما يقوم تغيير المَقام هنا بوظيفةٍ إضافيةٍ، إذ يُحيلُنا بدفئه إلى ألفة هذا التصرُّف من العُشّاق إذا أرادوا إخفاء بكائهم فى الواقع. ثمّ يقفز (بكر) إلى أعلى مقام الراست بتتابُع تعزفه الوتريات بين نغمتَى (فا الجواب – لا نصف بيمول الجواب)، لتختم وردة هذا الغصن فى الراست بجُمَل «والشوق والحنين كحَّلها/ سهّرها وغيّر حالها/ شوف عينى يا حبّة عيني/ كحّلها الهوى». ورغم أنّ الكلمات موحية بلوعة الشوق، إلا أنّ استرسال الراست هنا مُوحٍ بأنّنا إزاء حالةٍ تطريبيّةٍ راقصةٍ متعاليةٍ على تفاصيل عَذابات الحب، أو إذا حاولنا تأويلها فنحن أمام ابتهاجٍ بحالة الحُبّ رغم ما فيه من عذاب.

تفاجئنا لازمة الغصن التالى بأنها فى مقام الراست على درجة فا، لتتسلم وردة الغناء فى المقام نفسه فى جُمَل «أتنهّد يقولوا مالك...إلخ»، ثم تختم هذا الغصن بجُمَل «ويقولوا علينا يقولوا/ على إيه همّ يعنى يطولوا؟ دانا عقلى وروحى وعيني/ عايشين للهوى» بالتتابع نفسه الذى تُختم به الغصون السابقة، ويتكرر المذهب مرّةً أخيرةً لتنتهى الأغنية الثّريّة بانتقالاتها المَقاميّة المُراوحة بين تحرّى دِقّة التعبير والإخلاص للتطريب.

هكذا نكون قد استعرضنا ثلاث أغانٍ لملحّننا الراحل، ينتمى كلٌّ منها إلى فضاءٍ موسيقيٍّ مختلِفٍ تمامًا عن الآخَرَين، ناطقةً بتنوُّعه وتلوُّن إبداعه، فـ(عرباوي) أغنية فرّح شعبى متميّزة تمامًا بما فيها من مسٍّ موتسارتيٍّ (إذا جازت النسبة) فى بساطة النغَم وقفزاته السريعة، و(فاكرة) أغنية حُبّ بالمعنى الدقيق للكلمة، محلّقةٌ خياليّةٌ تَدخل بنا موسيقاها قبل كلماتها إلى دهاليز ذاكرة بطلتها وأحلام يقظتها، و(على عيني) أغنيةٌ طرَبيةٌ مخلصةٌ وإن لم تُهمل التعبير، مستدعيةً جوَّ أغنية العوالِم الراقصة.

وعلى نحوٍ شخصيٍّ، أرى أنّ (حلمى بكر) قد وُفِّق تمامًا فى أن يلخّص بكلّ لحنٍ من هذه عالَم المُطرب الذى قدَّمَه له، بل لا أبلغ إذا قلتُ إنّه قد وصل إلى ذروة إبداع كلّ مطربٍ من الثلاثة بلَحنه، فصوت (رشدي) الغليظ – الذى أذكر أنّ مصطفى محمود كان يقول عنه إنه صوت «واكل سريس وجعضيض وقاعد فى نسيم العصاري» إيماءً إلى جوِّه الشعبى الريفى – كأنه خُلِق لأداء هذا اللحن الذى يداعب الذائقة الشعبية ويناوشها، وصوت نجاة المكتنز بالمشاعر مخلوقٌ هو الآخَر لأداء (فاكرة) بتخييلها الموسيقيّ الأخّاذ، وصوت وردة العريض القادر هو المُعادل الموضوعى لما فى «على عيني» من مخزونٍ طرَبيٍّ فرِحٍ راقص.
 
لقد كان حلمى بكر بحَقٍّ صاحب عقليّة موسيقية فريدة، كأنه كان يرى متجسّدًا ما تختزنه كلمات الشِّعر الغنائيّ من مشاعر، فكانت ألحانه مزيجًا فريدًا من التعبير الموسيقى الحسّاس والتطريب الموفَّق والتجريب المغامِر اللافت، خاصّةً فى مقدمة (فاكرة). ومازال منجزُه الموسيقى الضخم ينتظر قراءاتٍ أعمق، ودراساتٍ تربط أوَّلَه بآخرِه.