«لسانان» قصة قصيرة للكاتبة رانية المهدي

الكاتبة رانية المهدي
الكاتبة رانية المهدي

أصابهم الذهول ولساني المقطوع الذي سقط على حذاء أحدهم يخرج لسانه لهم ويضحك في سخريةٍ، ثم نبت له جناحان ليطير ويستقر في فمي ومعه صديقه الجديد؛ فأصبحت بلسانين بدلًا من لسانٍ واحد.

إنها أنا صاحبة القوة الخارقة التي لا يستطيع أحد ولا شيء أن يوقفها حتى الأسلحة في أيديهم، ارتجفوا وتقهقروا للوراء عندما اقتربت منهم، ونفخت في وجوههم ليهربوا مسرعين للخارج البعيد، لأعود بهدوءٍ وأكمل مقالتي النارية ضد فساد المسئول الكبير التي ستنشر في صحيفة الغد.

كنت طفلةً صغيرةً سمراء نحيلة بسيقان مثل عيدان الكبريت، تلتف حول نفسها دائمًا وتسقطني بلا رحمة، وشعر أشعث متشابك بحدة يرتفع فوق رأسي كشجرةٍ تسكنها الغربان.

أمي ليس لديها وقت لترتيب مظهري أو مظهر إخوتي، ليس لديها الوقت حتى لتطعمنا.. فهى تعمل طوال اليوم في شقة الست الهانم، هكذا كانت تحب أن يناديها الجميع وخصوصًا أنا.

أتذكرها جيدًا، كنت أحمل لها الصحف كل صباح؛ لأتامل حجمها الضخم وذلك الوجه المتجهم الخالي من الألوان، والذي يتلون فقط عندما يظهر على التلفاز.

في يوم ضحكت وأنا أشاهدها على الشاشة؛  كانت تقول كلماتِ أحفظها وأنطقها معها مثل:

- التعليم حق للجميع، والأطفال مستقبل الوطن.

فتضحك أمي وتقول:

- عقبال ما أشوفك أستاذة كبيرة كده زيها.

لأقطع كلماتها وأقول:

- أمَّا.. هي ليه الست هانم بتتلون هنا بس، لكن في شقتها بتكون أبيض وأسود؟

لتبتسم أمي ابتسامةً خفيفة، ثم تضم شفتيها وتنظر لي وتقول:

- اوعي تعيبي على خلقة ربنا يا بنتي، كل واحد حر في حياته، واللي ينكشف على حرمة البيوت لابد يحفظها وميطلعهاش بره.

أمي.. سيدة طيبة أصولها ريفية بسيطة، تزوجها أبي وأحضرها معه إلى القاهرة؛ لتربية أبنائه الستة من زوجته المتوفية، وأيضا لتساعده في شئون العمارة وطلبات السكان.

أنجبتني وأخي لنصبح ثمانية، أبي شخص متذمر دائم الشكوى، لا يمكن أن يرضيه شيء أبدا، لافت عليه حسنية المصراوية المتقصعة كما تقول أمي دائمًا، أصبح لا يزورنا إلا في الأعياد، مسئوليتنا الكاملة كانت على أمي إلى أن أصابه المرض وتركته حسنية؛ لأنها لافت على علِيّ الجزار الغني، ليعود أبي مكسورًا ذليلًا يعيش معنا في تلك الحجرة تحت السٌّلم، وأمي تمرضه وترعانا وتعمل لدى الست الهانم صاحبة العمارة المتجبرة التي تتحملها أمي؛ حتى لا نجوع، وتحمل لها الجميل لأنها لا تأخذ الإيجار من يوم مرض أبي، وفي بعض الأحيان تعطي لأمي بعض ملابس أبنائها القديمة وبعض الطعام.

حتى جاء ذلك اليوم، يوم تحولت أمي لوحش كاسر فتك بالهانم؛ عندما لطمت وجهي فنزف أنفي بشدةٍ، وسقط قرط أذني الذي انقطع! يومها صعدت لأوصل الصحف ككل يوم، فطلبت مني الست الهانم أن أدخل لأساعد أمي، وعندما دخلت وجدت ابنها الصغير يلعب فتسمرت أراقبه وأراقب تلك الكومة الضخمة من الألعاب، وهذا الجيلاتي الأبيض الذي يسيل على فمه وملابسه، لأبتلع ريقي وأنا أشتهيه بشدة لأراها تتقدم مني وتعنفني، وتقول:

- خضيتِ الولد بمنظرك ده.

فبكيت لتخرج أمي مسرعةً وتعتذر للهانم وتهزني من كتفي، وتقول:

- مش قلت لك يا بت متطلعيش هنا تاني، من بكرة أنا اللي هجيب الجرايد.

لترد الهانم:

- لا تطلع وتساعدك، بس ملهاش دعوة بالولد.

فتقول أمي:

- معلش يا ست هانم، أصل أنا عايزاها تتعلم ومش عايزاها تتمرمط.

لتنطلق ضحكةً غير مبررة من الهانم:

- تتعلم! أنتِ لاقية تاكلي لما تعلميها؟ ريحي نفسك آخرها تبقى خدامة زيك.

فانطلقت مني صرخة في وجهها:

- أمي مش خدامة، أمي أحسن ست في الدنيا.

فتتعصب الهانم وتلطم وجهي بقوةٍ لأنقلب على ظهري ويسيل الدم من كل اتجاه، هنا كانت نقطة التحول التي لن أنساها أبدًا؛ أمي وكأنها طارت في الهواء، وانقضت على الهانم وأوسعتها ضربًا وهي تردد جملةً واحدةً:

- ولا عاش ولا كان اللي يمد إيده على بنتي أو يفكر يهينها.

بعد الحادث وتدخل أولاد الحلال كنا في الشارع بلا منزل ولا مصدر رزق، نظرت لي أمي التي لم تعبأ لكلمات أبي ولومه المستمر وقالت لي:

- إلا الإهانة، اوعي تسمحي لحد يهينك أو يقلل من كرمتك، ومتخافيش.. طول ما معاك الحق ربنا مش هيسيبك، ولو حد حب يقطع لسانك طلعي له لسانين.

ثم أحضرت لي كومة كبيرة من الجيلاتي الأبيض بآخر نقود معها؛ لأتناوله وأنا أبتسم وأشعر أن العالم ملك يميني.