حسن كمال ..الرواية المسروقة

حسن كمال ..الرواية المسروقة
حسن كمال ..الرواية المسروقة

التأنق من أجل لقاء رجل أسهل ألف مرة من التأنق من أجل انتزاع إعجاب امرأة، خصوصًا عندما تكون تلك المرأة غريمة سابقة لى مثل أميرة بدراوي. تكرر اسمها أمامى عدة مرات، والكل أجمع أنها مفتاح الشهرة فى المجال. دخلت إلى صفحاتها فانتابنى شعور غريب، وقحة، تتحدث عن الكتَّاب بتعالٍ واضح يزعجنى أنا التى عشت حياتى أرى أى كاتب نجمًا مهما صغر حجمه. الكتابة ضوء يتركه أحدهم ليسير وراءه شخص أو أكثر، والقارئ ينبغى أن يحترم مجهود ذلك الشخص الذى قضى ليال طويلة ليكتب ما سيقرأ فى يوم أو بضعة أيام، لذلك كان فى داخلى خليط غريب وأنا ذاهبة للقائها.

لماذا يتغير البشر تدريجيًّا أو فجأة؟ هل تحبطنا الحياة، أم نكتشف حقائق لم نعرفها، أم أن مرور الزمن يخيفنا فنحاول أن نجد نفوسًا جيدة لم نعرفها من قبل؟ أميرة بدراوى ليست امرأة عادية ولا مجرد كاتبة، لها «هاشتاج» خاص بها وباسم صفحتها يحمل صورًا وحكايات طويلة، ومدهشة، لم تتنازل عن أى صور من حياتها، وضعتها جميعًا لتعلن الحكاية باختصار؛ أميرة ليست قاهرية، بل ريفية الأصل، مدرستها الثانوية تحمل اسم قريتها الصغيرة، وصورًا أخرى تثير الدهشة، مشاهير من مختلف التيارات والمسارات، أميرة هى المرأة التى تعرف الجميع.

اقرأ أيضاً| مراد ناجح عزيز: جرامافون قديم

كل شيء عنها مكتوب بشكل أو بآخر، استطعت تجميع المشاهد لأعرف ما يكفينى قبل اللقاء، صفحتها فيها ما يقرب من مليون متابع، تحمل الاسم نفسه الذى ذكره لى بائع الكتب؛ «حجر تفاح»، المقهى أيضًا.

نشاطها لا يتوقف. يتهمها البعض أنها تلونت ك الحرباء فى أثناء مسيرتها، بداياتها فى عالم الثقافة كانت بالتزامن مع فترات اكتساح الدعاة الشباب لعقول وقلوب وشاشات التلفاز فى الوطن بأكمله، كانوا هم بالتأكيد الـ«بيست سيلرز» فى كل شيء، وأميرة تحديدًا كانت تحتل مركز الصدارة بين المتابعين لهم، تجلس فى الصفوف الأولى وتنفعل بشدة مدافعة عنهم جميعًا فى حالة حدوث أى نقاش يخصهم. يقولون إنها هى رائدة الدعاوى الخاصة، هى أول من أقنعهم بالانتقال من مجال دعوة المساجد إلى دعوة المسارح والمراكز الثقافية، ثم انتقلت بعدها به إلى مرحلة دعوة المنازل؛ إذ كانت ترتب كل شيء، تتواصل مع أصدقائها الأغنياء من أصحاب الفيلات الواسعة أو الشقق التى تحوى مساحة تسمح بزيارة «الشيخ». كانت تؤكد عليهم أن هذا لا بد منه لترقيق قلوب الأغنياء الذين لن يستطيعوا الاختلاط بالعامة فى المساجد والجلوس على الأرض، وكانت تؤكد على الشيخ أنه هكذا يحمل علمه وينتقل به من مكان إلى مكان كما كان الأولون ينتقلون من المدينة إلى البصرة والكوفة. حكت ساخرة على صفحتها عن حوارها مع مالك يومًا عندما تنهد وهو يهز رأسه قائلًا «ربنا يستخدمنا ولا يستبدلنا»، فأمنت على دعائه، لكنهما تبدلا على التوالى على حد قولها.



أميرة انقلبت أولًا. مع الحراك السياسي، أصبحت معادية لكل الجماعات الدينية ومن يواليها، وتدريجيًّا أصبحت من أشهر الكوادر التى تسخر من مالك ومن يتابعون دروسه. ولأنها كانت تعرف الكثير، حكت قصصًا عن كواليس اللقاءات التى تبدو دينية فى طابعها بينما هى فى حقيقتها تحمل صبغة التجمعات التى لا تختلف عن حفلات السمر ولقاءات الأصدقاء بنوايا مختلفة، وهذا ينطبق بالتأكيد على علاقتى بسامح. انخرطت بعدها فى أنشطة سياسية مؤثرة، نشرت كتابها الأول وانتشرت فى الوسط الثقافى كنقطة حبر فى كوب ماء، ثم تفرغت لصفحاتها الاجتماعية، وللمقهى الكبير.

أقف فى مدخل المقهى. المكان شديد الأناقة، حائط كبير تزينه مجموعة من الصور الخاصة بها فى كل مراحل حياتها، المعلومات، التى بحثت عنها لأيام، موثقة بصورها، أميرة لا تخفى شيئًا، صورها فى القرية وفى دروس الشيوخ ثم فى الثورة والندوات، كل شيء موجود.

أدخل بخطوات مترددة. للحظة ظننت المكان سيكون شبيهًا بمقاهى وسط البلد القديمة التى قرأت عنها فى الكتاب ورأيت صورها على صفحات الإنترنت. مع أول خطوة للداخل أدرك الحقيقة، المكان مقهى حديث للغاية، شاشات كبيرة وألعاب إلكترونية وشباب يجلسون أمامها، دخان كثيف يخرج من الأراجيل المنتشرة فى كل مكان، وفى الخلفية أغانى مهرجانات مضحكة. اقتربت من الساقى وسألته عن أميرة، فأشار إليها وسط الزحام.

على بعد خطوات، كانت تجلس منفردة، أمامها عدد لا بأس به على الإطلاق من الكتب، بينها كتاب أمجد سليم الجديد الذى أعرفه جيدًا. أحاول أن أتكلم، لكن صوتى ضاع فى الموسيقى العالية الموجودة فى المكان. تشير أميرة إلى الخارج، كان فى المدخل مقعدان غالبًا معدان خصوصًا لتسمع زوارها وقتما تريد.

أعترف مباشرة أن أميرة امرأة جذابة، حضورها طاغٍ وبسمتها تصل إلى القلب، ضحكاتها وحركاتها فيها كثير من المبالغة، لكنها مبالغة محببة مع أنها مفتعلة. تمد يدها لتصافحنى وهى تقول:
أنت كاتبة جديدة بالتأكيد .. أليس كذلك؟
أنظر إليها فى دهشة. تواصل أميرة الحديث وهى تأخذ نفسًا عميقًا من أرجيلتها:
وكتابك الأول سيصدر قريبًا .. وتريدين منى مساعدتك فى تسويقه. لا تندهشي؛ فكثير من الكتاب الجدد يبدؤون من هنا. من الذى أخبرك عني؟
 كلهم.
تضحك فى رضا:
عظيم. أنت تبدين ألطف من كل الكاتبات اللائى عرفتهن، تعجبنى أيضًا ملابسك، كل ألوانك صريحة، لا بد أننى سأساعدك. هل لديك نسخة من الكتاب؟
لا تترك لى الفرصة للكلام، تواصل فى حماس:
لا تصدقى ما يقوله هؤلاء العاهرون عني، أنا لا أتقاضى أى مقابل من أجل أن أعلن عن كتاب أو حتى لكى أقول إننى قرأته وإنه مبهر، لا أحد يستطيع أن يدفع ثمن الدعاية. من أعلى الكتاب مبيعًا فى مصر الآن؟ أمجد سليم؟ صدقينى .. دخل هذا الكافية لمدة أسبوع يساوى ما سيدخل له من الكتابة فى عام كامل، وثمن الكتاب الواحد يساوى ثمن حجر الفواكه فى الشيشة هنا.
أومئ برأسى فى تفهم:
حضرتك تحبين القراءة ونشر الثقافة.
تهز رأسها نافية فى انكسار:
 كنت … كنت أعشقها، أنا الآن لا أقرأ ولا أريد أن أقرأ. ما الذى استفدته من الثقافة والقراءة؟ لا شيء، لا العالم تغير ولا الدنيا أصبحت أجمل ولا العقول أضاءت، كل ما دافعت عنه سقط وتهاوى فى مواجهة الحقيقة، حركات طلابية وحركات نسوية وحركات ثورية وحركات دينية وحركات ثقافية، كلها كانت حركات. أنا الآن أفضل حالًا لأننى أقدم الحقيقة والانتصارات. الناس تأتى هنا للأكل والسهر، وصفحتى يتابعها عدد لم أحلم به يومًا. أضع اسم الكتاب فيصبح أعلى مبيعًا فى أسبوع واحد، فأشعر بانتصار أكبر لأننى مع من يحركون العالم، أما الكاتب فهو جزء من اللعبة، أصبحوا يأتون هنا جميعًا ليضعوا كتاباتهم أمامى ويطلبون منى سطرًا واحدًا أضعه على صفحتي. عندما كنت قارئة كنت أنا التى تجرى وراءهم .. أصبحت أنا الحقيقة الآن، هم أيضًا يلهثون وراء الحقائق والأرقام، أليس هذا أفضل؟
أبتسم مجاملة، أقول فى حذر:
أريد مساعدتك فى شيء آخر.
تسألنى بابتسامة غامضة:
 أليس لديك ناشر للكتاب؟
أجيب على الفور:
 زوجى يؤسس دارًا جديدة، لكنى كنت أتمنى أن أنشر فى واحدة من الدور الكبرى.
تهز رأسها قائلة:
 تمسكى بدار زوجك يا صديقتي، من خبرتى أستطيع أن أقول إنها ستكبر سريعًا .. زوجك مهووس تمامًا بالأمر.
أنظر إليها فى دهشة:
هل تعرفينه؟!
 سمعت عنك من أمجد ومالك، وسمعت عنه من كثيرين، تواصل مع كل الدور القابلة للبيع، ميزانيته مفتوحة والأمر يستهويه، عندى لكما فكرة تساعده ليقفز إلى الصدارة سريعًا كما يريد.
أنظر إليها فى استفسار، تتابع على الفور:
حكاية مالك .. أقنعيه بكتابة قصته وتحولاته .. سيبيع أكثر من أمجد نفسه.
أجيبها بخيبة أمل:
مالك فقد جمهوره، وأنا وأنت كنا منهم.
تأخذ نفسًا عميقًا من دخان أرجيلتها وهى تجيب:
مالك الداعية لا نحتاج إلى الحديث عنه كثيرًا، حجر اشتعل وتوهج وشرب من شرب من عسله وانتشر دخانه، حكاية انتهت ولا توجد أى فائدة منها .. لكن الناس سيجرون وراء كلام مالك الجديد الذى اعتذر فجأة عن أفكار سنوات طويلة.
يغلبنى الفضول فأسألها:
هل تظنين أنه سيوافق على ذلك؟
تضحك ساخرة وهى تقول:
 لا أعرف، لكن لو استطاع زوجك إقناعه بأن يكتب القصة ويضيف إليها شائعة أنه ألحد وسيشرح تفاصيل إلحاده، أو أنه دخل إلى البوذية أو حتى أنه فقد عقله وهذه كتابات ما بعد الجنون .. فسيبيع فى كل مكان فى العالم.
أنظر إليها فى صمت، أفكر فى ما تقول، فى لهجتها شيء ما جعلنى أسأل بصوت خافت:
أنت تكرهينه على ما يبدو؟!
تجيب على الفور:
 أكرهه أو أحبه ليس هذا المهم. هل تظنين أن نجاح الصفحة مصادفة؟ موضوعات كهذه هى ما تجعل التواصل أكبر، علاقات أو جنون أو فضائح، هل تعرفين أن بعض الكتاب يستأجرون أشخاصًا لإشاعة أمور مثل هذه؟ أخبرينى أنت عما تكتبين.
أقترب منها، أجلس إلى جوارها فى تضاؤل، وأخبرها بصوت هامس عن كل الحكاية.
أنا أكتب الواقع!
ثم شرحت لها كل شيء.
تبتسم فى إعجاب وهى تقول:
الفكرة تعجبنى جدًّا، هل تريدين أن أخلق لك حدثًا جديدًا ممتعًا؟
أهز رأسى موافقة:
 بالتأكيد.
تضحك فى عصبية:
اكتبى عن نفسك وعن زوجك بعد أن تبتلعكما دوامات الكتابة والنشر، لأننى متأكدة أن الحكاية ستكون شائقة .. سينجح.
أسألها بصوت خافت:
وأنا؟
ابتسمت بشفقة ولم تجب.