نتفلكس ومستقبل النشر في مصر

منصة نتفلكس
منصة نتفلكس

لا يخفى على أحد ما يمر به النشر فى مصر من أزمات طاحنة قد تؤدى إلى توقف بعض الناشرين تماما خلال الفترة المقبلة عن ممارسة مهامهم وبالتالى يؤثر هذا الأمر على بنية الثقافة المصرية بالكامل، والحقيقة ان هناك العديد من الحلول التى يمكن معها النهوض بالنشر ومواكبة المستحدثات التكنولوجية ولنا فى شبكة نتفلكس عبرة.

فى تسعينيات القرن الماضى وما قبل تواجد منصة نتفلكس كانت شرائط الفيديو «V.H.S» هى المسيطر على سوق الترفيه المنزلي، وكانت الهيمنة الكبرى على هذا السوق شركة «بلوك باسترBlockbuster « بما يزيد عن 9000 محل لإيجار وبيع الشرائط، ودخل سنوى يصل لما يقدر ب 6 مليارات دولار، وفى أواخر حقبة التسعينيات أنشئت شركة نتفلكس Netflix  لتبدأ بعدها بعشر سنوات وبالتحديد فى ٢٠٠٧ فى تغيير عالم الترفيه مع بداية بث الفيديو عبر الانترنت لمشاهديها.

اقرأ أيضاً| «لدغة النحل» لبول موراي.. ترشيحات «النيويورك تايمز» لأفضل روايات في 2023

لكن وللعجب أن الشركة والتى لم تكن لبدايتها أى علاقة بالبث على الانترنت بل كانت لتأجير الافلام مثل «بلوك باستر»، فالواقع أن فكرة البث جاءت بعدها بسنوات، ولم تكن بذلك النجاح الباهر فى البداية، بل والأعجب ان «نتفلكس» وفى البدايات الصعبة عرضت على «بلوك باستر» شرائها ب 50 مليون دولار فقط لتكون نتفلكس ذراعها فى البث على الشبكة، لكن عملاق الفيديو لم يرض بذلك وقام بانشاء قسم خاص لديه للبث على الانترنت، ولكن لم يقدر لهذا القسم النجاح وفشلت فى خلال سنة واحدة، فى حين ان بلوك باستر انتهت تمامًا واغلقت أبوابها بحلول 2014. ومن هنا انطلقت نتفلكس.

الفكرة نفسها كانت جديدة للغاية، استغلت الشركة زيادة سرعات الانترنت ووصول الناس له حول العالم، لتصل لعدد مهول من المشتركين قارب ال٢٥٠ مليون مشترك فى ٢٠٢٣.

وبساطة الفكرة هى عبقريتها، حيث لا تملك شيء فى مكتبة افلامك، لكنك فى اى وقت يمكنك ان تختار وتشاهد أى من آلاف الاختيارات المتنوعة من المسلسلات والافلام والتى تتجدد اسبوعيا باعمال جديدة وكل هذا باشتراك شهري.

بالطبع بعد نجاح النموذج سارعت عشرات الشركات لاخرى حول العالم مثل ديزنى وامازون وغيرهم الكثير لمحاولات التقليد والبحث عن مكان يضمن ربحًا سريعًا.

ونجحت بعض المنصات مثل ديزنى بلس  Disney + والتى صلت لما يزيد عن ال140 مليون مشترك فى وقت قياسي، وعلى الرغم من زعم العديد ان هذا الانتشار لخدمات البث عبر الشبكة المعلوماتية سيدمر صناعة السينما والتليفزيون لكن هذا التخوف كان مثل أى تخوف من اى مستحدث تكنولوجى وتأثيره على الوضعيات الحالية، ولم يحدث اى من هذه التخوفات.

الوضع نفسه حصل مع صناعات اخرى مثل الموسيقى والعاب الفيديو وحتى عالم النشر..

فنجد منصات عملاقة مثل سكريبد Scribd و كيندلKindle  وكوبو Kobo  فى الكتب الاليكترونية و اوديبل Audible وستورى تل Storytel وغيرها. تلك المنصات لديها بالفعل عشرات وأحيانا مئات الملايين من المشتركين، وهى عامل مساعد اساسى فى تطورات صناعة النشر فى الغرب.

فى المنطقة العربية التى يتعدى عدد سكانها ال٤٠٠ مليون بدات منذ سنوات عدة شركات تحارب لتصنع قاعدة جماهيرية للانتاج الاليكترونى والصوتى مثل منصتى ابجد وقارئ جرير فى الكتب الاليكترونية، ومنصتى كتاب ًصوتى وستورى تل فى مجال الكتب الصوتية، لكن للاسف ومع كل مجهوداتهم لم يصل المجال بعد لنضج كافِ لصنع استدامة مطلوبة للحفاظ على هذا المجال المهم فى الصناعات الابداعية على المستوى العربي.

مع تعدد الازمات فى الفترة السابقة من وباء الكورونا للحرب الروسية فى اوكرانيا للتغير المناخي، بدات اسعار الخامات والخدمات اللوجستية فى الازدياد بطريقة اثرت على انتشار الكتاب الورقى وبالاخص فى الدول ذات الدخل العام الاقل، مما يضع الحل بشكل واضح فى دعم مبادرات وانشاء منصات للكتب الاليكترونية والصوتية، فعندما تصل تلك المنصات لعدد مناسب من المشتركين على المستوى العربى سيؤدى ذلك بكل بساطة لتخفيف وطء الازمات على الناشر العربى وفى نفس الوقت انتشار أكبر لتلك الكتب على المستوى العربى والعالمي..

الانتاج الابداعى مثله مثل اى انتاج فى العالم يحتاج الرعاية والعناية والدعم ليتطور ويزدهر ويصل للعالمية «ما عدا استثناءات بسيطة تؤكد القاعدة»، وإذا لم يوجد هذا الاهتمام ستنهار ببطء الصناعات الابداعية فاقدة اولا القدرة على المنافسة العالمية، ثم وفى سنوات قليلة تالية لذلك فاقدة لارادة الوجود نفسها وبالتالى ستنتهى ليحل محلها المنتج الاجنبى بكل محاسنه ومساوءه.

تخيل معى عزيزى القارئ مستقبل يكون فيه 10 منصات ناجحة للبث الاليكترونى سواء للكتاب الإليكترونى أو الصوتى او معًا، يصل مجموع قرائهم على المستوى العالمى «من العرب» ل 10 ملايين مشترك، إذا دفع المشترك الواحد ثلاثون جنيًها فى الشهر، «وهو مبلغ مقبول بالمعايير العامة» وقد يكون مبلغًا بالغ البساطة بالنسبة للبعض، ما يساوى 300 مليون جنيه شهريًا، او ثلاث مليارات وستمائة مليون جنيه سنويًا، وهو رقم إذا ما تمت قسمته على ألف ناشر لكفتهم.

وبالطبع إذا ما كان نصف المشتركين او أكثر من خارج مصر لتضاعف المدخول مرتين او ثلاث مرات..

الحقيقة أن تلك الارقام ليست خيالية، والأمر ليس مستحيلًا بل قابل للتحقيق جدًا، الارقام فى الولايات المتحدة تقول العكس، 28 مليار دولار مبيعات الكتب فى 2022، وجاءت مبيعات الكتب الاليكترونية والصوتية ما يقارب ال 20% من هذا الرقم.

اوديبل التابعة لامازون لديها 300 مليون مشترك، وكيندل تصل ل 150 مليون، ستورى تل العالمية لديها بضع ملايين، بل أن بنجوين راندوم هاوس تخطط لخدمة الاشتراكات الخاصة بها.

بالمقارنة بعدد العرب حول العالم، عدد سكان الولايات المتحدة 330 مليون نسمة تقريبًا. استمع منهم للكتب الصوتية فى 2021 ما يقارب نصف هذا العدد، وما يزيد على 570 مليون صينى اى ما يقارب ثلث الصينيين..

سوق الكتاب الصوتى وحده عالميًا وصل الى ما يقارب ال 7 مليارات دولار أمريكى فى 2023 ومن المنتظر أن يصل ل 30 مليار دولار فى 2030..

الأمر فقط يحتاج تعاون حقيقى للنهوض بالنشر الاليكترونى والصوتى فى المنطقة العربية، تعاون بين الجهات الرسمية والمستثمرين فى المجال الثقافى والناشرين والكتاب، تعاون على انقاذ صناعة تعانى الانحدار وعلى شفا الانهيار, وتعاون لخلق مساحة حقيقية للكتاب العربى الذى يجب ان يأخذ حقه ومساحته لتغيير وتعديل صورة العرب لدى الغرب, الصورة التى كونتها ملايين من الكتب والمسلسات والافلام والمحتوى الذى كان فى اغلب الاحيان عنصريًا ورجعيًا ومخطئاً جدًا فى تصويره للعرب وحياتهم وتطورهم واسهاماتهم.

قد تكون مبيعات المعارض العربية مرضية للعديد من الناشرين والمهتمين بالصناعة لكن الحقيقة ان المعارض لا يمكن ان تكون العامل الاساسى الوحيد فى الاستدامة، والتى يجب ان تكون أحد الأهداف الرئيسية للقائمين على الصناعة، حتى ولو كان بعض المعارض يجنى ارقام مميزة فى المبيعات مثل معرض الرياض الدولى للكتاب الذى أعلن عن مبيعات 2022 بما يزيد على 72 مليون ريال سعودى اى ما يزيد بقليل عن ال 600 مليون جنيه مصري. ومعرض القاهرة الذى يزوره فى الدورة الواحدة عدة ملايين.

الأحداث المروعة التى حدثت فى السنوات السابقة يجب ان تكون ناقوس خطر ينبه الناشرين ان المعارض وان كانت من اهم موارد الناشر الا انه لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كامل لدعم الناشر طوال السنة، ما بين الكوفيد والكوارث الطبيعية الناتجة عن التغير المناخى قد يلغى معرض او عدة معارض بشكل مفاجيء مما قد يقطع دخل الناشر المتناقص بشكل مطرد على مدار السنوات السابقة.

النشر صناعة عالمية كبيرة يمكننا مواكبتها وان نصل الى دور ريادى فيها. والتطوير ومواكبة المستقبل فى مثل تلك الصناعة هو الحل لذلك.