يوميات الاخبار

عشاء إجبارى مع عرفات!

السيد النجار
السيد النجار

امتد الحوار ساعتين بعد العشاء.. شجعنى ود ودفء الاستقبال لأقول لأبوعمار.. أعطيتم كل شىء لإسرائيل التى لا عهد لها ولا أمان.. ولم تأخذوا إلا القليل المنقوص.

فى غزة.. عشت أيامًا وليالى.. مهمة صحفية كان مقررًا لها أسبوع.. وبفرمان من الرئيس عرفات.. امتدت عشرة أيام.. ثم أسبوعًا آخر.. ثم.. حتى طالت شهرًا.. تجولت بأحيائها.. دروبها.. حوارييها.. وفى الليل حفلات السمر على شواطئها. التقيت بمسئوليها.. ناسها وأهلها.. حتى مزارعها وحقولها.. أكاد أقول زرت.. عايشت.. لامست كل شبر بطولها وعرضها.. أحتضن كل من ألتقيه.. أقبله.. أهلاً بغزة الحرة.. مرحبًا بعصر الحرية.. أبتسم ولكن بداخلى حزن عميق وهواجس لا تنتهى.. كيف ولا يزال بينهم مستوطنات يعايشهم فيها اليهود.. كيف وهم مازالوا رسميًا تحت وطأة الاحتلال.. يتحكم فى سمائهم ومياههم.. فى كسرة خبز.. شربة ماء.. حبة دواء تدخل إليهم.. كيف.. ولا يزورهم أحد إلا بإذن من إسرائيل والمرور عبر سفارتها بالدولة القادم منها.. رغم كل هذه الشجون المريرة.. كانت الزيارة أعز أيامى الإنسانية ومهامى الصحفية.. وغير كل زياراتى لغزة بعد ذلك ولعدة مرات.. كانت فياضة المشاعر.. ثرية بالأخبار.. وقصص وحواديت أهل غزة تحت الاحتلال الإسرائيلى.

عذرًا.. يتوالى شريط الذكريات فى ألم ومرارة.. مع كل خبر وصورة لجرائم العدو الإسرائيلى على غزة.. أشعر بأن كل شهيد التقيت به وجاورته.. حتى لو كان شابًا ولد فيما بعد.. أو طفلًا كان فى علم الغيب.. أشعر بأن كل بيت ينهدم على رأسى.. وأن سرير مستشفى بت به ليلة يتطاير فى الهواء من قنابل عدو الإنسانية مثل كل المستشفيات والمدارس وأشلاء البشر.

بعد ثلاثة أشهر من دخول ياسر عرفات ورفاقه إلى غزة عام ١٩٩٤ تطبيقًا للمرحلة الأولى من اتفاق أوسلو.. أسعدتنى ظروف عملى بجريدة الأخبار أن أزور غزة وغيرها من أراضى السلطة الفلسطينية، ضمن وفد ثقافى ترافقه فرقة فنية. الزيارة الرسمية استمرت أسبوعًا وعاد الوفد إلى القاهرة.. وطلب الرئيس عرفات بقاء الفرقة والوفد الصحفى. قال مهم أن تتعرف الصحافة المصرية على غزة بعد التحرير. والفرقة تقدم عروضها فى مدن السلطة لأبناء الشعب الفلسطينى المشتاق للاستمتاع بالفنون المصرية ومعايشة أشقائهم المصريين. ولتكن فرحة بنسائم الحرية.

أمضيت الزيارة فى مهمة صحفية. تنوعت فى موضوعاتها.. ولقاءاتها.. وأماكنها.. وأحداثها ووقائعها.. ولكن يربطها نسيج خفى «قصة فلسطين - الماضى.. الحاضر... المستقبل».. ماضى تجربة الكفاح والمقاومة ضد الاحتلال الصهيونى.. واقع غزة الضفة بعد التحرير والسلطة الفلسطينية الجديدة.. وتشابك المهام مع العدو الإسرائيلى.. مستقبل فلسطين.. والمحدد له فترة انتقالية مدتها ٥ سنوات للتفاوض.. ووصولًا إلى إقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة والحدود وعاصمتها القدس الشرقية وعودة اللاجئين مرت ٣٠ عامًا دون اتفاق وتراجع العدو اليوم عن اتفاق أوسلو برمته.

بالطبع قصة فلسطين لا تكتمل إلا مع الرئيس ياسر عرفات.. طلبت اللقاء مع زميلين بصحيفتى الوفد والأهرام المسائى.. وفى مقر السلطة الفلسطينية.. انتظرنا باستقبال الدور الأول.. وإذ بمسئول المراسم هابطًا من الدور الثانى الرئيس يدعوكم لتناول العشاء معه.. اعتذرنا.. وصعد الرجل على مضض، ليعود ثانية.. الأخ الرئيس فى انتظاركم.. تصورنا أنه قد انتهى من عشائه.. صعدنا معه، لنفاجأ بالرئيس عرفات مازال يتناول طعامه.. استقبلنا بود لطيف، وأردف قائلًا بحسم: هذا عشاء إجبارى.. وشرط لإجراء الحوار.. كيف يكون هنا إخوتى المصريون ولا يتناولون معى «عيش وملح».. جلسنا خجلًا.. وإذ بالعشاء خبز وعسل وجبن وزيتون.. تشجعت وعبرت عن عفو الخاطر قائلًا: «ده فعلًا عيش وملح». فهم جميع من على المائدة مغزى تعليقى وضجوا بالضحك.. قال أحدهم هذا هو العشاء الدائم للأخ أبوعمار نتناول أطراف الحديث الودى المعتاد. وأجول بناظرى فى المكان البسيط جدًا مثل بساطة الطعام. وأتأمل الرجل.. كأنى لا أعرفه.. بدون زيه الكاكى وبلا غطاء رأس والكوفية الفلسطينية ولا المسدس الذى لا يفارق جانبه.

امتد الحوار ساعتين بعد انتهاء العشاء.. شجعنى جو الود.. لأنطلق بالسؤال الأول قائلًا.. الحرية للجميع.. غزة والصحفيين المصريين.. ولذا اسمح لى بسؤال بقدر هذه الحرية.. أعطيتم فى الاتفاق كل شىء.. اعترفتم بإسرائيل وتخليتم عن المقاومة.. ولم تأخذوا إلا القليل جدًا «١٫٥١٪ من مساحة فلسطين». وهذا القليل منقوص المضمون.. وباقى الاتفاق.. لا أكثر من وعود.. والكل يعرف إن إسرائيل.. لا أمان لها.. ولا وفاء بالوعود والعهود.. حتى لو توافرت ضمانات القوى الدولية الموقعة كشاهد على الاتفاق.. ابتسم.. وأخذ يصول ويجول.. يروى القصة من البداية.. بكل تعقيدات الموقف وتشابكه.. والمتغيرات الدولية.. الأوضاع بالمنطقة.. ولم ينس أن يشير إلى أن الصعوبات التى انتابت المفاوضات.. كانت هى الأخرى جهادًا للوصول إلى المتاح، وإن كان المشوار مازال طويلًا، وبمساعدة من وقعوا كضامن للاتفاق.. توالت الأسئلة.. وفى النهاية قال وكأنه يهمس.. رهاننا على دعم العالم العربى والإسلامى.. لن يتركونا فى مواجهة الصهاينة والأمريكان من ورائهم.. وألمح أبوعمار إلى عدم نشر هذه الملاحظة. ولكن من المفارقات.. تصل المفاوضات إلى طريق مسدود لعدم الوصول إلى الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطينى.. رفض عرفات الرضوخ لهم.. حينها أعلن شارون أنه تخلى عن التزامه للأمريكان بالحفاظ على حياة عرفات، الذى ظل محاصرًا فى مقره بالضفة الغربية لمدة عامين، حتى انتابه مرض غريب.. مريب.. أودى بحياته خلال شهرين!

فشل رهان عرفات لمساندته فى المفاوضات.. وفشل الرهان لإنقاذ حياته.. واليوم.. ألمح روحه تحوم فى سماء غزة.. قائلة.. حتى أنتم فشل رهان إنقاذكم؟!

الثعلب والتلميذ

وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر رحل غير مأسوف عليه.. بعد أن أرسى مبدأ - حسب قوله - لا أخلاق ولا ضمير من أجل تحقيق أهداف سياسية، ولا قيمة لأرواح الأبرياء فى الحروب.. كيسنجر.. الغابر.. الماكر.. المخادع.. أطلقوا عليه ثعلب الدبلوماسية الأمريكية.. بالطبع على الآخرين.. مارس على العرب خداعًا محبوكًا خلال حرب أكتوبر ٧٣، من أجل إنقاذ إسرائيل.. ابتلع العرب الطعم.. واستمروا يحبونه ويجلونه.. ويعتبرونه صديقًا.. ومرجعية وحُجة سياسية لأحداث الكون.. وإسرائيل لم تقل له شكرًا، وإنما وجّهت له اللوم فقد كانت ترى أنه يستطيع أن يفعل لها الأكثر.

كيسنجر فى حرب ٧٣.. مارس خداعًا استراتيجيًا فى العمل الدبلوماسى.. بعد أن تأكدوا من الانتصار الساحق للمصريين - كما قال - بدأ حركة تراوح مكانها.. ما بين واشنطن وموسكو وتل أبيب والقاهرة فى رحلات مكوكية.. كساعٍ للسلام ووقف إطلاق النار.. مقدمًا مقترحات هنا.. ومتلقيًا ردودًا هناك.. وهو يعلم أنها فارغة المضمون أو مرفوضة من كل الأطراف.. ولا مانع لديه من اختراع رحلات على هامش جولاته لزيارة دول أوروبية وآسيوية خارج مهمته بالمنطقة.. ولا هدف وبالاتفاق مع جولدا مائير سوى كسب الوقت لصالح إسرائيل لحين تحقيق جيشها تطور على أرض المعارك يرون أنه ورقة رابحة فى المفاوضات.. وكانت من وجهة نظرهم ثغرة عبور القناة واختراق منطقة الدفرسوار.. حينها أعطوه الضوء الأخضر.. الآن نستطيع العمل الجاد لوقف إطلاق النار وبدء مفاوضات.. كان جهد كيسنجر لتنفيذ مخططه.. تعطيل أى اجتماعات لمجلس الأمن لحين تحقيق إسرائيل ما تريد.. وعلى الجانب العسكرى نجح كيسنجر فى استصدار قرارات استثنائية من الرئيس نيكسون ولأول مرة فى التاريخ الأمريكى بتشغيل جسر جوى، لنقل كل الأسلحة والمعدات المتطورة من مصانعها إلى سيناء مباشرة.. ومنحه بدون مقابل.

لم يكتشف أحد خداع الثعلب الماكر إلا بعد أن اعترف به فى مذكراته وحواراته الصحفية والتليفزيونية.. ولم يعرف أحد أنه يهودى صهيونى إلا بعد الحرب بسنوات!

ما حدث من الأمريكان فى حرب ٧٣ هو نفس الحال مع العدوان الإسرائيلى على غزة.. وهنا.. ليس فى الإعادة إفادة كما يقولون.. فلا ضرورة للاسترسال فيما سبق توضيحه.. ولكن هذه المرة.. لم يكن التلميذ مثل شطارة الثعلب الأستاذ.. يقوم بلينكن بنفس الدور ولكن فى سيناريو أسوأ.. كله على المكشوف.. موضحًا منذ اللحظة الأولى ولاءه ليهوديته ومعلنًا أدق تفاصيل الدعم العسكرى والمادى.. مكونًا تحالفًا دوليًا فوريًا لدعم إسرائيل.. تاركًا الأمم المتحدة فى اجتماع تلو الآخر.. كل عضو ينتقى أشد كلمات التنديد بإسرائيل.. وعبارات الاستجداء لإنقاذ الفلسطينيين.. وفى النهاية تقف مندوبته ولسان حالها يقول.. خلاص قلتم كل ما عندكم.. ماشى.. ولكننا ڤيتو.. نرفض وقف العدوان لحين طلب إسرائيل ذلك.

المفروض.. لا يُلدغ مؤمن من جحر مرتين؟!

رسالة من شهيد

من منا لا يتألم مع متابعته لتوالى ارتفاع أعداد شهداء المجازر الإسرائيلية فى غزة.. انتفضت شعوب العالم من فرط ألم لقطات جثث الشهداء وعشرات الآلاف من الأطفال من فرط حزن قصص عائلات بأكملها.. أو طفل أصبح وحيدًا.. أو أب وأم فقدا وحيدهما.. قصص إنسانية ينتفض منها ألمًا كل من لديه إحساس.. ولكن الوجع أن يكون كل هؤلاء مجرد أرقام.. لكل شهيد منهم رسالة.. أسمع رسالتهم تنطق عبر شاشات الفضائيات.. أنا لست رقمًا.. أنا حياة.. إنسان.. لحم ودم.. بنى آدم كرّمه الرحمن.. أنا قلب وروح.. أنا الذكريات الجميلة.. أنا الآمال الكبيرة.. أنا أحلام اتساع الكون أنا الأب والأم والحنان.. أنا الفرحة.. ودمعة الحزن والأنين.. أنا «ضهر» الأب المكلوم وأم عجوز تنتظر منى لقمة العيش وشربة الماء.. أنا عروس تنتظر الزفاف، أنا شاب كنت أبحث عن حبيبتى تحت الأنقاض.. أنا طفل كنت ألهو.. ولا أعرف بأى ذنب أموت.

أنا لست رقمًا.. أنا فارس مغوار.. طفلًا كنت أو امرأة أو واحدًا من أفضل الرجال.. اقتلونى الجسد فانٍ.. ويبقى الحلم لا يموت.. حلم سيصبح شعلة نار تزلزل كيانكم.. لن يهنأ لكم بال.. حتى يفر من بقى منكم من حيث جاء.. إن مات منا شهيد.. بطوننا ولّادة.. سيولد ألف.. وألف رجل.. وامرأة وطفل.. كلهم أبطال.. هم القادمون وأنتم الراحلون.. هكذا كتب الله عليكم الشتات.. وفسادكم فى الأرض إلى يوم الدين.. حينها سأبحث عنكم أيضًا وراء كل حجر.

همس.. النفس

حبك.. دائمًا صعب المنال.. الطريق إليك.. وعر.. محمل بالهموم والأثقال.. تسكنين قدس الأقداس.. فى قلعة.. داخل قلعة حولها الحراس.. فوق جبال تحيط بها الأسوار.. حبك يرتقى لى لحظات إلى عنان السماء.. وفجأة يلقى بى سنوات فى قاع لجى بلا قرار.. حبك جعلنى أميًا.. تخاصمه الكلمات.. كل المفردات.. فى كل اللغات.. عاجزة.. فقيرة مهما كانت رموزها.. وأسرار معانيها.. فى حبك.. دائمًا أتوه.. لا أعرف كيف وصاله.. ولكن أبدًا لا أقدر على نسيانه.