الثأر من النكسة: جولة فى حياة مصر ومسيرتها الثقافية!

كتاب الثأر من النكسة
كتاب الثأر من النكسة

محمد‭ ‬خلف

«ست سنوات من 1967 إلى 1973 حملت الكثير لهذا الوطن، فقد حولته من وطن مهزوم إلى منتصر، ففى الوقت الذى كنا نتطلع فيه إلى بناء دولة قوية على كافة المستويات جاءت النكسة بما تحمله من دلالات انكسار، ليس على المستوى العسكرى فقط، بل نالت من روح كثيرين آمنوا بثورة 1952 وقائدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكن فى أحلك الظروف لم تستسلم «الروح المصرية» القادرة على اجتياز الصعوبات، لنكتب «سيرة» أحاول أن أجمع تفاصيلها ومفرداتها؛ فهى سيرة وطن حول هزيمته لانتصار مدو».  

بهذه الفقرة المعبرة يبدأ كتاب «الثأر من النكسة- سيرة ثقافية من 1967 إلى 1973» لمؤلفه الكاتب الصحفى المتميز طارق الطاهر، والكتاب عبارة عن جولة فى حياة مصر ومسيرتها الثقافية منذ أن منيت بالهزيمة فى 67 إلى أن توجت بالنصر فى 73، وهى مرحلة زمنية من أصعب المراحل التى مرت بها مصر فى التاريخ الحديث، مرحلة يمكن أن نسميها مرحلة الصدمة الكبرى، فكما قال الطاهر: «ففى الوقت الذى كنا نتطلع فيه إلى بناء دولة قوية على كافة المستويات جاءت النكسة بما تحمله من دلالات انكسار». جاءت النكسة لتمثل صدمة ليس فقط للشعب المصرى الذى علق آماله على ثورة 23 يوليو، أن تحقق له كل ما يتمناه على الصعيدين الداخلى والخارجي، ولكن للشعوب العربية أيضا التى عاشت حلم القومية العربية والوحدة العربية.. كان الخطاب الرسمى والتحرك الرسمى مليئا بالثقة والقوة والحماس، فمصر جمال عبد الناصر اتخذت موقفا مناهضا للقوى الاستعمارية واشتركت فى تأسيس حركة عدم الانحياز وحققت حلم الوحدة مع سوريا، ولكن سرعان ما فشلت الوحدة وسرعان ما انهزم الجيش المصرى أمام العصابات الصهيونية المدعومة من القوى الاستعمارية.. فتبين أن الخطاب الرسمى والتحرك الرسمى لا يقف على أرض صلبة، ولا يستند إلى رصيد كاف من القوة العسكرية والسياسية، وأن ما أُعد من قول وخطب تلقى فى المناسبات الرسمية وغير الرسمية كان أكبر مما تم من عمل وما بذل من جهد على أرض الواقع؛ فكانت النكسة وكانت الصدمة.  

 حين تقرأ هذا الكتاب تدخل آلة الزمن وتضبط ساعتها لتعود إلى الوراء ستة وخمسين عاما، وتحديدا عند عام 1967 لترى مصر كئيبة متشحة بالسواد، تنظر إلى حاضرها بحزن وأسى وترنو إلى مستقبلها بأمل ورجاء، يحمل أغلب أبنائها الهم ويشعر بعظم المسئولية، تحدوهم رغبة عارمة فى استعادة الكرامة، بينما يغرق البعض فى وحل النزوات والشهوات، وكأن شيئا لم يكن.. ترى محاولات البناء الجادة المخلصة من الكثرة المؤمنة بربها ووطنها وترى الحفنة الفاسدة الساعية إلى التكسب من وراء النكسة والصيد فى الماء العكر ولو على حساب دماء الشهداء الأبرار. من خلال هذا الكتاب تعرف الأجيال التى لم تشهد هذه الفترة ما جرى فيها، على الأقل من الناحية الثقافية والفنية، ويعرف من عاصرها ما خفى عنه ويذكر ما نسيه منها، والزمن لا يضع سياجا وحدودا جامدة مصمتة بين مراحله، وإنما تتداخل هذه المراحل وتتفاعل ويؤثر السابق منها على اللاحق، فحاضرنا هو ابن ماضينا، ومستقبلنا هو النشء الذى نربيه اليوم بأيدينا، من هنا تبدو أهمية هذا الكتاب. 

وقد بدأت أولى صفحات الكتاب بالحديث عن موضوع يكشف عن جانب من المناخ الثقافى الذى أفرز النكسة، وما كان ينبغى له - فى الحقيقة - أن يفرز غير النكسة، يقول الأستاذ طارق الطاهر: «بعد أقل من شهر من نكسة يونيو نشبت معركة صحفية كبيرة، تبنتها بشكل أساسى جريدة الأخبار ضد ما أسموه بـ «أفلام الجنس»، وكتب عدد من كبار كتابها ضد الرقابة والرقيب، معتبرين ما يعرض من أفلام، لاسيما ثلاثة أفلام بعينها، ما هو إلا ترويج للجنس وهدم للمبادئ والقيم، ورفاهية لشعب ليس فى احتياج لها فى مثل هذه الظروف تحديدا». ثم يستعرض لنا الكاتب مقالين مهمين مما نشر فى هذا الموضوع بجريدة الأخبار، الأول للكاتب الكبير موسى صبرى تحت عنوان «أفلام الفراش»، والثانى للكاتب الصحفى محسن محمد تحت عنوان «طوفان من أفلام الجنس». 

ثم يعرج بنا الكاتب على قضية خسائر مؤسسة السينما التى أثيرت فى مجلس الشعب بتاريخ 23 يناير عام 1972 وقدرت فيها الخسائر بما يزيد على ستة ملايين جنيه، والتى انتقلت من مجلس الشعب إلى جهاز المدعى العام الاشتراكي، ثم إلى وزارة الثقافة ومنها إلى النيابة العامة، ومن أهم ما ورد فى أوراق هذه القضية، وفقا لما سجله المؤلف، شهادة الأديب الكبير نجيب محفوظ، الذى رأس مؤسسة السينما فى الفترة من 1962 إلى 1967، حين استدعى للشهادة فى هذه القضية، حيث قرر فى ختام شهادته أن: «القطاع العام فى السينما فُرض عليه تناقض حاد بين اتجاهين، اتجاه من وزارة الثقافة يطالب بالعودة الفنية بلا شروط، واتجاه ينادى صراحة بأفلام تحقق الربح دائما، وأن محاولة التوفيق بينهما أسفرت عن نتاج لا هو اقتصادى ولا هو فنى». [ص 35] 

يلقى الكتاب الضوء أيضا على بعض الإيجابيات المهمة للمرحلة التى يتناولها، ومن ذلك تأسيس معرض القاهرة الدولى للكتاب وانطلاق دورته الأولى فى 22 يناير 1969 بمشاركة 27 دولة، وتأسيس أكاديمية الفنون فى 28 أغسطس 1969، والاحتفال بألفية القاهرة فى 3 يناير 1969 رغم الظرف الصعب الذى تمر به البلاد، ويسوق لنا الكاتب ببراعة الخلاف الذى ثار بشأن إقامة هذه الاحتفالية وانتصار الرئيس جمال عبد الناصر للرأى القائل بعقدها فى موعدها، وقول الرئيس الراحل فى ذلك: « فلقد وجدت أن الظروف التى يعيشها وطننا الآن وأمتنا العربية كلها ليست مانعا من الاحتفال بعيد القاهرة الألفى بل لعلها أن تكون دافعا يرجح إقامة هذا الاحتفال فى موعد تقرر له. كان شعورى فى ذلك أن الشعوب والأمم فى أشد حاجة فى أوقات الأزمات إلى تاريخها، تتمثل عصوره الباهرة وتستذكر أبطاله ورجاله». [ص 69]  

ومن أهم ما ورد بالكتاب تسليط الضوء على دور كوكب الشرق أم كلثوم فى دعم المجهود الحربي، وإبراز اندفاعها فور النكسة مباشرة إلى التبرع للدولة بمبالغ كبيرة دون أن تعلن عنها، وإنما اُكتشفت هذه التبرعات بمحض الصدفة، الأمر الذى دفع الكاتب الكبير موسى صبرى إلى أن يكتب عنها مقالا فى الأخبار بعد 21 يوما فقط من النكسة بعنوان «خذوا القدوة من أم كلثوم»، كذلك إلقاء الضوء على المشروع الخيرى الكبير الذى حاولت أم كلثوم إقامته من خلال تبرعاتها بالإضافة إلى يانصيب خيرى قيمته مليون جنيه، لإكمال تمويل هذا المشروع، وهو ما يؤكد على أن أم كلثوم لم تكن فقط سيدة الغناء العربى ذات الموهبة الصوتية المذهلة بل كانت فوق ذلك إنسانة بمعنى الكلمة وشخصية وطنية من الطراز الأول. وتستوقفنى كلمة أم كلثوم فى افتتاح المشروع حين قالت: «اللهم بارك فى كل مشروع للخير فى بلادي.. اللهم اجعلها دار خير للجميع، حتى أرد الجميل لهذا البلد المعطاء، الذى أعطانا الكثير». [ص 132] هذه العبارة تكشف عن حب أم كلثوم العميق لبلدها وشعورها بالامتنان والشكر البالغ تجاه الوطن والشعب المصري.     

ولكن للأسف لم يكتمل هذا المشروع ويتساءل الكاتب عن سبب توقفه، ويقرر أنه لا توجد إجابة شافية على ذلك. ونعتقد أن أجواء الهزيمة والانكسار التى منيت بها البلاد تجعل النفوس الكبيرة المخلصة المقتدرة تسعى بكل طاقتها ووسعها نحو تعويض هذا الشعور ببذل ما تقدر عليه من عمل الخير لبلدها وللناس، ولذلك تحركت أم كلثوم ومعها كبار المسئولين، ولكن تأتى المفاجأة السارة بنصر أكتوبر المجيد فينشغل الجميع به، بأفراحه واحتفالاته من ناحية، وبما يستلزمه الحفاظ عليه من مجهودات كبيرة من ناحية أخرى لاسيما أن الحرب لم تحسم فى يوم وليلة وإنما ظلت لفترة طويلة بعد يوم العبور فى 6 أكتوبر، فكان ذلك سببا فى تقديرى لنسيان المشروع، إضافة إلى سوء الحالة الصحية لأم كلثوم، التى بدأت منذ عام 1971 واستمرت حتى وفاتها عام 1975.  

من الصعب حصر ما أتى على ذكره هذا الكتاب القيم فى مقال محدود الصفحات، ولكن من السهل التقرير بأن الكتاب جاء فى وقته، وأن موضوعاته رغم مرور أكثر من خمسين عاما عليها مازالت حية بيننا، ونحن نعيش أجواء العدوان الصهيونى الوحشى الهمجى على قطاع غزة، والذى يمكن وصفه بنكسة جديدة، بعد عملية «طوفان الأقصى» التى مثلت ثأرا لشعب يرزح تحت نير احتلال آثم بغيض، يسومه سوء العذاب، منذ أكثر من سبعين عاما.   

ورغم أن اسم الكتاب «الثأر من النكسة - سيرة ثقافية من 1967 إلى 1973» إلا أن التركيز فيه كان على فترة ما قبل النصر، ويفسر ذلك أن الأستاذ طارق الطاهر سبق أن أصدر كتابه «ملحمة الدم والحبر- الأخبار دفتر أحوال المصريين فى أكتوبر 1973»، الذى ركز فيه على النصر، فأراد ألا يكرر نفسه، وأن يكمل بكتابه الجديد كتابه السابق، ولذلك يمكن اعتبار الكتابين جزءين لكتاب واحد عنوانه مصر من الهزيمة إلى النصر.  

والكتاب يتميز عموما بالعرض الشفاف المحايد فهو لا يوجه القارئ إلى تبنى عقيدة معينة، ولكنه يعرض له الوقائع والمعلومات كما وردت فى مصادرها ويترك له وحده الحكم عليها.. وقد صيغ بأسلوب يجمع بين الحبكة الصحفية الجذابة والسرد التاريخى الموثق.. هى كتابة تاريخية صحفية بامتياز اعتمدت على المصادر والمعلومات المجردة أكثر من اعتمادها على الرأي.  

وفى الختام لا أستطيع أن أغادر هذا الكتاب القيم قبل أن أبدى إعجابى الشديد بلوحة الغلاف للفنان/ سيد سعد الدين، التى سماها «لمسة وفاء»، وهى عبارة عن طفلة تمسك يسراها بحمامة وتحتضن بيمناها وجانب من وجهها قبعة عسكرية معلقة على قبر.. إنها تحفة فنية مبهرة علقت على صدر كتاب رائع.

إقرأ أيضاً : طيور مهاجرة: لماذا أصبح حُلم الشباب هو الهجرة؟