محمد خلفوف يكتب .. الجميلة النائمة

أبداع
أبداع

هادئة، جميلة.. نامتْ، فجأة، فى هدوء وسكون..  

 كان الأمر صادما ومفزعا.. أهلها وقفوا عند رأسها، يتأملونها وهى نائمة، أنفاسها تخرج منتظمة.. حاولوا إيقاظها أكثر من مرة: هزوا جسدها، ضربوها، رشوا عليها ماء باردا، صرخوا بصوت عال، دقوا الأجراس، لكنها لم تستيقظ.. 

الأطباء، الكهنة، المعالجون الروحانيون.. الجميع فشل فى إيقاظها. كلهم كانوا يأتون ويمارسون طقوسهم الطبية والدينية والروحانية.. لساعات ولأيام ولأشهر.. أدوية، صلوات، تمائم، طلاسم، أبخرة.. الكل وقف عاجزا أمام هذه الحالة الغريبة.. التى لم تكن غيبوبة أو موتا.. حالة نوم طويل. 

جاء أفراد العائلة، الجيران، أهل القرية، رجال الشرطة، العمدة، صحفى من جريدة محلية، غرباء.. الكل كان يأتى ليرى الجميلة النائمة وهى غارقة فى سباتها غير المفهوم منذ أيام دون أكل أو شرب.. حتى الأطفال كانوا يتركون اللعب ويأتون للتلصص عليها من خلال النافذة.. يتأملون ملامحها وهى نائمة فى هدوء. 

«ما الذى حدث؟» كانوا يسألون، فتردّ الأم وهى تمسح دموعها:

ـ أغمضت عينيها ونامت..

 هنالك أشياء تحدث فى هذا العالم لا يوجد لها تفسير.. تظل غامضة وعصية على الإدراك..

 أمها تقف عند رأسها، تتفقد حرارتها، تصلى لأجلها، تغنى لها.. تبقى هنالك ساهرة لا تتحرك من على كرسيها الخشبي.. حتى إذا ما غفت من قلة النوم، كانت تستفيق منتفضة متخيلة أن ابنتها قد استيقظتْ.. لكنها تجدها نائمة فى مكانها فى هدوء.. تنظفها، تغيِّر ملابسها، تبدل ملاءتها، وترفعها عن السرير لكى لا تتسرب الرطوبة والعفن إلى جسدها..

الأب كان يأتى ويقف عند الباب، يتأمل ابنته وهو يدخن غليونه.. ثم ينصرف.. 

 ممددة على سريرها وهى غارقة فى النوم، كانوا يفتحون لها النافذة ليدخل إليها الهواء والشمس.. تتسلل إلى مسامعها أصوات الطبيعة، وزقزقة العصافير، وزمجرة الرياح، وسقوط المطر.. كانت تسمع الأصوات، وتشم الروائح، وتحس بتحركات الناس .. قلبها ينبض، ونفسها منتظم.. كانت تحس بالعالم من حولها وهى غارقة فى النوم.

 يمرُّ الزمن، تمضى الأيام والأسابيع والأشهر والسنوات.. تتغير الأشياء، يموت الناس، بدأت حروب وانتهت أخرى، إخوتها يكبرون، يتزوجون وينجبون أطفالا.. يموت والدها من كثرة التدخين، تشيخ أمها من كثرة الجلوس الطويل على الكرسى الخشبى عند رأسها .. تتوقف الزيارت المستمرة للعائلة والجارات والصحفيين الذى يأتون لالتقاط الصور وكتابة المقالات عن «الجميلة النائمة».. حتى أن نومها الغريب لم يعد مثيرا للاهتمام.. وحدها هى بقيت على حالها: نائمة فى هدوء على سريرها المهترئ الذى تهالك وأكلته الرطوبة.

«لقد طال نومها..».

 أما فى الداخل: فكان العالم غير العالم، والزمن غير الزمن.. عالم الأحلام المثالية، التى لا يُمكن وصفها، أحلام رائعة تبعث على الاستمرار فى الحلم أكثر وأكثر.. كانت الجميلة النائمة تنساب داخل عالم الأحلام.. من حلم إلى آخر، كأنها عائمة فى نهر من الأحلام المتدفقة اللانهائية .. كانت قادرة على اللعب والركض بكل حرية.. ترى بشرا، وتدخل غابات، وتزور مدنا.. كان عالم الأحلام ممتدا ورحبا، بلا حدود أو قيود..

 لقد خسرتْ حياتها فى الخارج، لكنها اكتسبتْ حياة لا تضاهى فى الداخل...

«ربما ماتتْ!». 

حاولت الجميلة النائمة أكثر من مرة أن تستفيق، أن تفتح عينيها.. كانت تحس بالعالم من حولها، وتعرف أن الكل ينتظر أن تستفيق من نومها الذى جعلهم غارقين فى الدهشة.. ولكنها كلما أرادت أن تحرك يدها أو قدمها، أن تفتح عينيها، أن تستفيق.. تشعر كأن شيئا ما يجذبها إلى عالم الأحلام أكثر فأكثر..

 «لن تستيقظ أبدا..».

وكما نامتْ فجأة فقد استيقظتْ فجأة.. فتحتْ عينيها على العالم الذى غابت عنه لسنوات.. لم يصدق الجميع ما حدث.. الكل أذهله استيقاظها المفاجئ مثلما أذهلهم نومها المفاجئ أيضا.. رغم أنهم كانوا يتوقعون حدوثه. 

نامت لسنوات طويلة، لسنوات لا يمكن عدُّها.. كانت واهنة، شاحبة، نور العالم آلم عينيها.. كأنها تخرج إلى العالم لأول مرة.. ووسط ذهول الناس وترقبهم: وقفتْ، حاولتْ المشي، تعثرتْ.. سارتْ بخطوات حائرة نحو المرآة.. نظرتْ إلى نفسها.. لم تتغير ، لم تشِخْ، لم يبيض شعرها، ولم تملأ التجاعيد وجهها.. كأنها لم تنم نوما طويلا بلا تفسير! مررتْ يدها على وجهها وجسدها، أرادت الكلام لكن الكلمات لم تخرج من فمها المثقل بخدر النوم الطويل..

لقد ظلت كما كانت قبل نومها الطويل: الجميلة النائمة.

 

إقرأ أيضاً :