« الموت قبل الموت».. قصة قصيرة للكاتب الدكتور حاتم نعام

 الدكتور حاتم نعام
الدكتور حاتم نعام

على غير العادة خرج وقت الذروة لإنجاز مهمة عمل، فقد اعتاد اختيار الوقت المناسب، لكنها الضرورة، المسافة ليست بعيدة بين المنزل حتى الشارع الرئيسي، الوقت يداهمه، يخطو بخطوات واسعة حتى يتفادى حكايات الجيران وأصحاب المحلات الذين ينظرون إليه دومًا ليلقي السلام  فيردوا عليه، العلاقات بينهم طيبة وممتدة،  يرحبون به، يمازحونه، يجدون في الحوار معه إجابات قاطعة لما يدور على ألسنتهم.

 اليوم تجاوز كل ذلك باقتضاب حتى وصل أول الشارع  بعد أن نجا بخطة طموحة من مضيعة الوقت، ليجد نفسه أمام فاصل مهول من الصخب والضجيج، الشارع يسرد معاركه، أصوات مدوية متداخله، تشويش مكثف يتعاظم معه التوتر الذي يؤلم الروح  ويهشم الذات.

يلتفت يمينًا وشمالاً ليحتل مكانًا مناسبًا ينتظر فيه السيارة التي تقله إلى وجهته، يشد انتباهه تجمع المارة على شكل حلقة نصف مغلقة، انضم إليها الكثير والكثير، اختنق الشارع بالسيارات والمارة، انحرف بخطواته قليلا لينضم إليهم في محاولة استكشافية، انخرط معهم، أصبح  منهم، وقعت عيناه على عربة كارو  لا  تتناسب مع حمولتها، ورجل يائس غاضب أسند ظهره على عربته الكارو، ينظر إلى حصانه الملقى على الأرض،  فقد  سقط  وأفقده الاحتضار القدرة على الحركة، حاول الوقوف مرة تلو الأخرى في كبرياء لإعطاء الثقة لصاحبه أن الأمور على ما يرام،  فيزداد شحوبة وضعفه ويسقط من جديد، يكتفي بنظرة إلى صاحبه اليائس نظرة تطمئنه، تخفف وطأة الكارثة عليه، وتجدد له العهد بأنه سيُخلص له في الرحلة ويحقق شغفهما المشترك فقد تشاركا في الرحلة لأكثر من خمسة عشر عامًا، لكن تحيرت عيناه في مقلتيها،  وكل منهما وقف عاجزًا أمام الآخر، كل منهما ينازع من أجل البقاء.

لم يكن يستوعب الرجل  أن حصانه  يحتضر،  يصرخ في صمت صرخة في وجه الدنيا التي انتظر منها أن تنتفض عنتريتها وتغيث صاحبه لكنها اكتفت  بالمشاهدة والتخلي في ندالة، يحاول جاهدًا مرة ومرات أن يعيده  من السقوط ليكمل رحلتهما للنهاية كما تعاهدا، لكنه حط رحاله الأخير. تملك الرجل اليأس والضعف والاستسلام فركل حصانه بقدميه في رسالة غاضبة واتجه يتحسس الحمولة على عربته الكارو، تاركًا الحصان يتألم من ركلة صاحبه التي كانت موتًا قبل الموت

هنا انسحب بعيدًا عن المشهد حتى يتفادى مرة أخرى مضيعة الوقت، خلال دقائق تصل السيارة التي تقله إلى وجهته، قفز بداخلها وأغلق الباب منضمًا إلى أصحاب الندالة.