أزمة حقيقية فى أوروبا لغياب الزعماء أصحاب الحكمة

أيمن موسى يكتب: خطة سرية لنشر اليمين المتطرف في الغـرب

أيمن موسى
أيمن موسى

■ بقلم: أيمن موسى

مخاوف كثيرة أثارتها تصريحات الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي، ومن بينها أن أول قرار خارجى سيتخذه هو نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، وكذلك التعامل الرسمى بالدولار الأمريكي، وتدمير العلاقات مع البرازيل والصين أكبر شريكين تجاريين لبلاده والتراجع عن الانضمام لبريكس، وإذا وضعنا تلك التصريحات فى سياق أحداث الأراضى الفلسطينية المحتلة فى غزة والضفة التى تشجع الاحتلال على المزيد من القتل والإبادة للشعب الفلسطينى الأعزل، وانسياق الغرب الأعمى لتأييد إسرائيل، سنجد أنفسنا أمام ملف ضخم فرض نفسه قبل عقدين من الزمان، وهو وجود أزمة حقيقية فى الزعامة والقوى السياسية الغربية التى تمتلك الخبرة والحنكة على رسم سياسات بلادها .

والأمر المقلق أن تصريحات ميلي، تؤكد أن الأمر لم يعد يقتصر على أوروبا، بل وصل إلى الضفة الأخرى من الأطلنطي، وذلك الرجل يقول الأرجنتينيون إنه شبيه بالرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ودأبت وسائل الإعلام على وصفه بـ«المخبول»، وهو مثل ترامب رجل أعمال، ودخل السباق الانتخابى فقط عن طريق التصريحات الرنانة والخطب العصماء دون برنامج حقيقى ودون أية مقترحات وآليات للخروج ببلاده من الأزمة الحالية التى تعتصرها، ولم يتطرق الزعيم الجديد للحديث عن أية وصفات لحل مشاكل بلاده بل كان يتصرف بشكل يذكرنا كثيرا بالحملات الانتخابية الماجنة فى أوروبا والولايات المتحدة من حيث الرقص والحركات الماجنة والحديث عن تقنين المخدرات والأسلحة والشذوذ وغيرها من الأشياء التى كان زعماء وحكومات الدول تكافحها بكل قوة حتى وقت قريب.

◄ الأجندة أمريكية
الحقيقة أن من يتابع المشهد الأوروبى على مدار العقدين الأخيرين على أقل تقدير سوف يلاحظ أن قوى اليمين سواء المتشدد أو الوسط تتقدم بقوة لتتولى الحكم فى ليس العديد بل الكثير من الدول الأوروبية وكان آخرها إيطاليا وفنلندا واليونان، بينما يتخوف العديد من المحللين من أننا قد نرى قريبا فى السلطة فى دولة مثل ألمانيا حزبا له ماضٍ نازي.

وأستطيع أن أتفهم ازدهار وتفوق القوى اليمينية والمتشددة فى إسرائيل حيث إن هذا البلد لا يمكنه العيش فى سلام، لأن القوى السياسية فى إسرائيل تحرص على استمرار تأصيل مشاعر الخوف والترقب من الشعوب المحيطة بهم، فالدولة الإسرائيلية قامت وتعيش على الخوف والشك فى كل من حولهم والسلام هو قيمة منافية تماما للعقيدة الصهيونية، ولكن السؤال: ما الذى يدفع الدول الغربية للاتجاه نحو سيادة القوى اليمينية المتشددة على المسرح السياسي؟ والأكثر من ذلك هو أن غالبية هذه القوى ظهرت من العدم وليس لدى غالبيتها أى تاريخ فى العمل والنضال السياسى بل وأستطيع القول بكل ثقة إنه بإمعان النظر فى البرامج السياسية لهذه الأحزاب سنجدها خاوية ولا تقوم على أية قيمة حقيقية، باستثناء قيم الحقد والكراهية وإشعال الحرب والنزاعات ذلك على الرغم من أن أوروبا عاشت ويلات الحروب والدمار وذاقت مرارة النازية والفاشية ومع ذلك نجدها تسير بقوة فى تطبيق بعض أفكار هاتين الآفتين بالنسبة لقوميات وعقائد محددة أو على الأقل مؤازرة من يتسمون بهما وخير دليل ناصع على ذلك مؤازرتها للهمجية الإسرائيلية.

الحقيقة أنه مع إمعان النظر فى التطور التاريخى للحياة السياسية فى أوروبا على مدار العقدين الأخيرة سوف نصل لقناعة شديدة هذه القوى الصاعدة من العدم إنما تحقق أجندة غريبة على المصالح القومية لدولها وبالأحرى هى الأجندة الأمريكية فى إطار الحفاظ على تبعية وولاء هذه الدول لها حتى وإن كان ضد مصالحها.

◄ توظيف اليمين المتطرف
لو عدنا للوراء بعد تفكك الاتحاد الأوروبي وانتهاء الحرب الباردة سوف نجد أنه لم يعد هناك ما يدعو للعداء وحالة الانقسام فى القارة الأوروبية حيث أصبحت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى تسعى بكل قوة للانضمام للأسرة الغربية، وظلت طوال فترة الرئيس باريس يلتسين تتماشى مع السياسات الغربية حتى وإن لم تكن فى مصلحتها وكان الشعب الروسى هو أكثر من تحمل هذه الفاتورة، ومع الوقت حدث التقارب والاحترام المتبادل بين أوروبا الغربية وروسيا وبصفة خاصة فى الفترتين الأوليين من حكم الرئيس فلاديمير بوتين، لذلك وجدنا روسيا تقود خطابا جديدا يقوم على أساس الهيكل الأمنى الأوروبى الموحد وتعزيز التعاون فى مختلف المجالات للقضاء على أية خطوط فاصلة بين الدول الأوروبية، لذلك خرجت بعض مشروعات طموحة يجتمع حولها الدول الأوروبية مثل المشروع الفضائى الموحد ومشروع المحطة الكهروذرية البحرية والتى تمثل مشروعا تكنولوجيا يعبر عن العصر الجديد، وهو عصر التفاهم والانسجام الأوروبي، ومشروع نورد ستريم لربط روسيا مع دول أوروبا بشكل مباشر وليس من خلال خطوط أنابيب تمر عبر هذه أو تلك من الدول، ناهيك عن الأجندة البيئية وغيرها الكثير من المشروعات التى كان من المفترض أن تعود على أوروبا والعالم أجمع بخير كثير، إلا أن المشكلة الوحيدة التى كانت تقف حجر عثرة أمام تقدم هذا الفكر وهذا الاتجاه الإنسانى الذى يضمن التقدم والتنمية للجميع هو أن الهدوء السلام والتقدم المشترك فى أوروبا سيجعلها تخرج من العباءة الأمريكية وسوف يحرم الولايات المتحدة مصادر ثروة عظيمة تمثل ربحا عظيما لها وخسارة أعظم لأوروبا، لذلك شرعت الولايات المتحدة فى تنفيذ استراتيجيتها التى حققتها بجدارة للعودة من جديد لخلق خطوط الفصل والعداء من جديد فى أوروبا .

وربما كان السبيل الأمثل لتحقيق ذلك هو ازدهار الاتجاه اليميني المتشدد فى أوروبا حيث وجدنا أن الساحة السياسية فى الكثير من الدول الغربية إن لم يكن معظمها تتسع بشكل كبير لظهور الأحزاب اليمينية بكافة اتجاهاتها المتشددة، وكانت هناك أحزاب يمين فى السابق تشارك فى الانتخابات فقط لإثبات أنها مازالت موجودة وهى تدرك جيدا أن الشارع لا يؤيد فكرها ولا مستقبل لها ولكنها فجأة وجدت الطريق ينفتح لها لتحقيق نتائج ما كانت لتحققها فى أى وقت سبق على غرار حزب مارين لوبين «التجمع الوطني» فى فرنسا وفى بولندا وهولندا والنمسا والمجر وإيطاليا وإسبانيا وغيرهم من الدول الأوروبية أصبحت الأحزاب اليمينية إما هى السلطة الحاكمة أو شريك أساسى فيها .

◄ تفجير الأوضاع
وربما يعتقد البعض أن اليمين سواء المتشدد أو الوسط فى أوروبا إنما يسعى لوضع قيود أمام الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا أو أمام الحجاب أو التقاليد والقيم الوافدة من الدول الإسلامية، ولكن بإمعان النظر فى المشهد سوف نرى أن الهدف الرئيسى. هو الحفاظ على القوة الكامنة لتفجير الأوضاع فى مختلف ربوع أوروبا فى أى وقت والحفاظ على مشاعر الخوف فيها بما يجعلها تحرص بنفسها على الحفاظ على المظلة الأمنية والهيمنة الأمريكية عليها، ولكى يتحقق ذلك بشكل سلس كان ينبغى فتح الطريق أمام جيل جديد من الزعامات والقيادات التى أقل ما يمكن أن توصف به هو «الخبل» أو «الجنون»، فمع الوقت رأينا أن جيلا من الساسة الذين لهم تاريخ عريض من الخبرات والفكر والتنظير الحزبى يتوارون ليحل محلهم جيل جديد أعتقد البعض أنهم الجيل العملى وكانت أسهمهم الوحيدة لدى الرأى العام هى أنهم ينتمون إلى طبقة رجال المال والأعمال وأنهم طالما حققوا النجاح فى عملهم الخاص وبناء الثروات فسوف ينجحون فى العمل العام والوطنى وحل مشاكل بلادهم.

وكان من المهم جدا لتحقيق الاستراتيجية الأمريكية لمواصلة التحكم فى الدول الأوروبية أن يحل جيل جديد من رجال السياسة من محدودى الفكر والآفاق لكى ينفذوا التعليمات الأمريكية دون مناقشة، لذلك حل محل جيل رجال الأعمال جيل جديد من رجال السياسة الذين ظهروا فجأة من العدم ولم يكن لديهم أى أساس للاستناد إليه فى إقناع الناخبين سوى شيء واحد وهو الصراخ العالى والتصريحات الرنانة والعبارات المفوهة التى لا طائل من ورائها، وبطبيعة الحال اللعب على شهوات بعض شرائح الناخبين على غرار الوعد بتقنين المخدرات وتغيير الجنس وإباحة الأشكال المختلفة للشذوذ الجنسى والفكرى وأنماط الحياة التى ستقود دول هذه القارة بكل تأكيد نحو الهلاك على غرار الزواج المثلي.

◄ سيطرة اليمين
ولا أعتقد أنه مع توسع سيطرة اليمين المتشدد فى أوروبا على المسرح السياسي أن ينتظر أوروبا مستقبل هادئ فهناك الكثير من عوامل الخلاف والتناحر بين مختلف الدول الأوروبية توارت بعض الشيء بفعل الانبهار والزهو بالانضمام سواء للاتحاد الأوروبى أو حلف الناتو، ولكن سرعان ما ستطفو على السطح مجددا بسبب تعارض المصالح وهو الأمر الذى ظهر جليا خلال تعامل القارة مع الأزمة الأوكرانية واتجاه العديد من الدول وعلى الأخص فى وسط وشرق أوروبا للخروج على النسق العام فى الاتحاد الأوروبى عندما أصبح الأمر يهدد المصالح القومية مثل مشكلة المزارعين ومشكلة استغلال الأزمة للتخلص من الترسانات العسكرية المتهالكة والمبالغة فى طلب تعزيز القدرات العسكرية المحلية على حساب بقية الدول والمغالاة فى تقدير أسعار هذه أو تلك من المنتجات، كل ذلك أظهر أن ما يفرق أوروبا أكثر مما يجمعها وأن اليمين المتشدد غير مستعد للإنصات لصوت العقل وإنما لصوت مصلحته وكل من يحققها.

ومهما كانت عوامل الفرقة والتمزق تنهش فى الجسد الأوروبي، فما يعنينا هنا هو ما تصدره لنا أوروبا من ثقافات شاذة وتطرف وعداء ضد بعضنا البعض، فأوروبا اليوم فى أضعف حالاتها والعرب لمن يمعن النظر لم يكونوا فى حالة أقوى مما هم عليه اليوم سواء من ناحية الثراء أو القوة العسكرية أو تنامى الشعوب وثقافتها، وعليهم أن يدركوا قبل فوات الأوان أن الوقت الراهن هو الوقت المناسب جدا لهم لكى يقفوا مع أنفسهم وينظروا إلى حقيقة أوضاعهم والثقة فى أن الغرب لن يرغب لهم الخير وأن النظام العالمى الذى يتحدثون عنه شرقا وغربا لن يكون فى صالحهم والأفضل لهم هو الوقوف والتأمل معا للخروج بنظام عربى جديد يحقق لهم التكامل الحقيقى والأمن، فمصادر التهديد للشرق الأوسط والعالم العربى تخرج من داخله وبطبيعة الحال بالإيحاء الغربي، والنضوج الحقيقى هو إدراك أن الزعامة مسئولية، كما أنها الخبرة والقدرة على الفهم الصحيح، والوقت الحالى بالذات يبدو مناسبا لإعادة النظر فى دور جامعة الدول العربية والمؤسسات التى تربط العرب والشرق الأوسط ببعضه البعض وليصبح النظام العربى الجديد هو نواة للنظام العالمى القادم، حتى لا نفاجأ فى وقت قريب جدا بتبعات تولى اليمين المتشدد للسلطة فى أوروبا ومختلف أنحاء العالم ويعود العرب من جديد لينصاعوا لأوامر ورغبات خارجية ضد مصالح دولهم وشعوبهم.