يوميات الأخبار

اتركوا حطام غزة شاهدا

د. محمد أبوالفضل بدران
د. محمد أبوالفضل بدران

لا تجعلوهم أعدادا فقط لأن الأعداد لا تحفر فى جدار الذاكرة نحتًا لا يُمحى، لقد تاجروا بالهولوكست فلماذا لا نقدم للعالم محارقهم المعاصرة؟

دعوا غزة هكذا

لا تُعمروا ما خرَّبتْهُ إسرائيل فى غزة دعوه محطَّمًا واتركوا بقايا الصواريخ شاهدة على هذه الوحشية الغاشمة، حوّطوه بسياج من حديد واتركوا أطنان الأتربة وبقايا البيوت الفلسطينية التى تحولت إلى ركام وأطلال وحوّلوا هذه الأماكن إلى متاحف مفتوحة وزودوها بصور الضحايا والمدفونين تحت ركامها، بثّوا على شاشات العرض أقوال قادتهم وهم ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم «حيوانات» لا بشر، وأنه تجب إبادتهم بقنبلة نووية؛

وانشروا للعالم فى هذه المتاحف صور القصف الإسرائيلى والتجويع وقطع المياه والكهرياء والدواء عنهم، يوما ما سيجيء العالم ليشاهدوا هذه المتاحف وليكتب المؤرخون ما حدث؛ انشروا صور الأطفال الأبرياء ضحايا القصف وصور الشهداء وصور النساء مع كتابة أسمائهم لا تجعلوهم أعدادا فقط لأن الأعداد لا تحفر فى جدار الذاكرة نحتًا لا يُمحى.

لقد تاجروا بالهولوكست فلماذا لا نقدم للعالم محارقهم المعاصرة؟ خاطبوا العالم الذى انقسم فجأة لعالميْن، عالم يناصر قضية شعب مرّ على تشريده وسجنه فى سجن بلا سقف خمسة وسبعون عاما وعالم يعدُّ البوارج والفرقاطات لإبادة هذا الشعب.

كل الأقنعة الدبلوماسية سقطت فى أزمة القيم العالمية التى انهارت وصارت كلاما يُقرأ فى أقوال الفلاسفة والحكماء ولا نجد مفهوم الأخلاق العالمية التى تقوم على قيم الحق والعدل والجمالَ..

لقد زرتُ كنيسة مدمرةً بفرانكفورت لم يفكروا فى إعادة بنائها لتحكى ما حدث فى الحرب العالمية من دمار، كما رأيتُ بقايا سور برلين حيث تركوا أمتارا منه مبنيةً تحكى للتاريخ انقسام برلين بعد الحرب العالمية الثانية، وأما متاحف الهولوكست بالعالم فقد زادت الآن متحفا جديدا بغزة ولكن على أيدى ضحايا النازية الذين نسوا ما فعله هتلر بهم فجاؤوا كى يعيدوه فى غزة.

سقطت الأقنعة فاتركوا بقايا مسجد وأطلال كنيسة وتراب مشفى اختلطت فيه أشلاء المرضى مع معاطف أطبائهم التى غدت أكفانا... اتركوا كل هؤلاء دون تعمير وابنوا حولها ما تشاءون من أبنية لكن حذارِ أن تعمّروا هذه الرموز التى تقول لجيلنا وللأجيال القادمة وللعالم الصامت: «كان هنا نازيون فى ألمانيا» وفى إسرائيل. الحضارات تنهار عندما تضعف لديها القيم؟

حوارٌ مع شيخى

وأدركتُ شيخى قُبَيل المآلْ

ولم يكُ يملكُ مسبحةً من طوالْ

وكان إذا الليلُ جاء اختفى

تزمّلَ فى خرقةِ الخضر 

صاحَ : لديَّ من السرِّ ألفٌ

وهامَ مع الناسِ يذكرُ فوق السحاب

فقلتُ: ادعُ لي

تبسّمَ ثم دعا لى وآلْ

تجاسرتُ يوما فقلتُ المقالْ

فأردفَ: هاتِ ،  مُفتاحُ علمٍ سؤالْ

لماذا القبيحُ استطالْ؟

لأنّ الجَمالْ...

لماذا الكلامُ كثيرٌ؟

لأنّ الفِعالْ...

لماذا الطريقُ طويلٌ؟

لأنّ الجبالْ...

لماذا القصيدُ ضعيفٌ؟

لأنّ الخيالْ...

لماذا النساءُ اتشحنَ العويل؟

لأنَّ الرجالْ...

لماذا الخنوعُ غدا شائعا؟

لأنّ القتالْ...

لماذا الظلام بأرواحنا؟

لأنَّ الهلالْ...

لماذا تفرُّ الطيورُ إلى حتْفها؟

لأنَّ الغِلال...

لماذا الطيورُ حَبَتْ؟

لأنّ النِّبالْ...

لماذا الجبالُ هَوَتْ؟

لأنّ الرّمالْ...

لماذا العدوُّ صديقُ الصديق؟

لأنَّ الخِلالْ...

لماذا الجدودُ بكوا؟

لأنّ العيالْ...

لماذا المشانقُ قامتْ ؟

لأنَّ الحِبالْ...

لماذا اختفى كلُّ نورٍ؟

لأنّ الظلالْ...

لماذا الصغيرُ شهيدٌ بحيّ الرمالْ؟

ليأتى المحال 

لماذا القلوبُ قسَتْ؟

لأنّ الجَمالْ...

لماذا المشانق تعلو؟

لأنَّ الطِّوالْ...

لماذا الطريقُ بعيدٌ؟

لأنّ الجِمال...

لماذا المحبُّ قَصِيٌّ؟

لأنَّ الوِصالْ...

لماذا الجنوبُ فقيرٌ؟

لأنّ الشمالْ...

لماذا السواقى تَئنُّ؟

لأنَّ الحِبالْ...

لماذا غدا العدلُ حلمًا؟

لأنَّ الضلالْ...

لماذا بدا للحقيقةِ وجهٌ ووجهٌ؟

لأنّ الجدالْ...

لماذا لدى الناسِ نَقصٌ؟

لأن الكمالْ...

لماذا  تطأطئ بعضُ الرؤوسِ على ذلّةٍ؟

لأن البِغالْ...

لماذا الكتاب بدا دون حرفٍ؟

لأنَّ الحروف ثقالْ...

لماذا تُبادُ الشعوبُ بلا نصرةٍ؟

لأن الذى عانَ مالْ...

لماذا تخلّى الأشقاءُ عن بعضهم؟

لفتْح المجال....

لماذا الحُفاةُ يزيدون شَعبًا؟

لأنّ النِّعالْ...

لماذا الصغارُ يموتون تحت الركام

لينبتَ منها الرجالْ...

لماذا انتهى كلُّ شيْءٍ؟

لأنَّ الكمالْ...

لماذا مدى العمرِ موتٌ؟

لأنّ الزوالْ...

ولمْلَمْتُ كلَّ الكلامِ الذى قالهُ

تبسّمَ شيخى وقالْ:

وأين السؤال؟

التصوف أدب

التصوف أدب، دع عنك أدعياء التصوف واقرأ ما كتبه ابن الرومى وابن عربى والسهروردى ويونس إمره والحلاج وابن الفارض، اقرأه بقلب محب ولا تتصيد أخطاء تركيب الكلمات أحيانا، فلكل حال تعبير، والأحوال مواهب والمقامات مكاسب، حاول أن تتجاوز عما قاله بعضهم فى حال جَذب وتمعّن فيما قاله فى حال وَهْب، اقرأ أدبهم ولا سيما أشعارهم وفَكّر لماذا يبحث الناس بشتى اللغات عن أقوال ابن الرومى وابن عربى والحلاج، ماذا وجدوا فيهم حتى فُتنوا بهم، اقرأ نصوصهم الشعرية دون حُكم مسبق وتمتع بما قالوه، لا تكن صوفيا ولكن كن موضوعيا فى حكمك واقرأ بقلبك ستجد شعرا صافى المعنى فصيح الكلمات بليغ الجُمل، ستجد فيه خلاصة الحكمة وإدهاش الحال وذَوْب المريد فكيف إذا كان شيخا وكيف إذا كان قطبا وغوثا.

لا تحرموا أنفسكم من أدب التصوف

انهلوا من شعرهم ومن رؤاهم ومعراجهم الروحى شريطة أن تتجردوا من قلوب كارهة وأحكام مسبقة بل تجردوا تجرّد الناقد الموضوعى والمتلقى المحايد وستجدون هذا الفيض الأدبى البديع لا تحاكموا هؤلاء على ما صرحوا به فى حال وجْد، خذوا ما قالوه فى ميزان الأدب، كيف ترى إحياء علوم الدين للغزالى وكيف تقرأ كتابات الطوسى وكيف ترى لغة الفتوحات لابن عربى، كيف تتقبل منامات الوهرانى وطواسين الحلاج وأسئلة عمر الخيام وجماليات ابن الفارض وعبدالرحيم البرعى وتوسل الدردير بأسماء الله الحسنى فى منظومته الشهيرة ومديح البوصيرى فى بردته الأشهر، وغير ذلك مما لوضاع لفقدنا مكترا جماليا لا يُعوض.حينما تستمع إلى المنشدين أحمد النونى وياسين التهامى والطيب وأبوبكر ومبارك الكومى وأمين الدشناوى وعبدالحى وأحمد أبوالحسن وغيرهَم تجدهم يدورون فى فلك الحبَ:

«سقونى وقالوا مت غراما بحبنا» السقيا حتى الفناء حبا وهو الوجود الحقيقى عندهم الجمال الصافى والتسامح اللانهائي؛ ها هو الجنيد سيد هذه الطائفة- كما قيل- يجلس واعظا مريديه على نهر الفرات، وتمرّ امرأة جميلة متبرجة فيلتفت المريدون مبهورين بجمالها وعندما يفيقون يبدأون فى شتْمها لكن الجُنيد يبادرهم: إنى داعٍ فأَمّنوا: «اللهم لا تُدخِل هذا الوجهَ النار»    

فى النهايات تتجلى البدايات

الصباحُ يدقُّ على البابِ، ولا باب هنا