يوميات الأخبار

نوال مصطفى تكتب: سحر الحكايات

نوال مصطفى
نوال مصطفى

«نجد هذا الكائن الغريب يتحول بقدرة قادر إلى إنسان يفكر بمنطق، ويتصرف بإنسانية، ويعيش بشغف، بعدما تتغير أفكاره القديمة إلى أفكار أخرى محبة للحياة»

يبهرنى فى «ألف ليلة وليلة» فكرتها العبقرية، التنويرية، الفذة. فكرة أن امرأة استطاعت بذكائها ودهائها ترويض فكر رجل دموى، أصبح كذلك نتيجة لصدمة عاطفية عصفت باستقراره النفسى والعاطفى. كيف استطاعت شهرزاد أن تحول شهريار إلى إنسان آخر؟، كيف استطاعت أن تنجح فى هذه المهمة المستحيلة؟ تخبرنا «ألف ليلة وليلة» أنها صنعت تلك المعجزة بالحكى، ثقافة شهرزاد، وموهبتها فى مهارة الحكى والأداء الدرامى لأحداث القصة، جمال وجاذبية أسلوبها، كل هذا مكنها أن تعيش ألف يوم وأكثر - طبعا ـ لأن من المؤكد أن  شهريار أبقاها معه حتى النهاية من أجل أن يستمتع كل ليلة بجزء مثير من الحكاية.

فكرة «ألف ليلة وليلة» تدور حول أن الحكى سحر خاص يستطيع أن يغير حياة الإنسان، ويمنحه شغفا وإحساسا مختلفا بالحياة. فى حالة شهريار أشهر شخصية روائية فى الأدب العربى العالمى، استطاع الحكى أن يغير أفكاره السودواية، المريضة التى كانت تدفعه لقتل عذراء من بنات إمارته بعد أن يتزوجها ويدخل بها لمدة ليلة واحدة، انتقاما من خيانة حبيبته. نجد هذا الكائن الغريب يتحول بقدرة قادر إلى إنسان يفكر بمنطق، ويتصرف بإنسانية، ويعيش بشغف، بعدما تتغير أفكاره القديمة إلى  أفكار أخرى محبة للحياة.

تغير القاتل الشرير ليصبح عاشقا، شغوفا بحكايات شهرزاد التى ملكت مفاتيح قلبه وحياته وتربعت على عرش قلبه ومملكته كزوجة وحبيبة دائمة، ليست لليلة واحدة، بل لكل الليالى. وهى بذكائها ودهائها لا تكمل الحكاية أبدا، لكنها تترك الملك فى لحظة تشويق وإثارة، ويصيح الديك، وتتثاءب متظاهرة بالتعب والرغبة فى النوم، وهنا يكتب لها يوم جديد فى عمرها.

جودر

لذلك فاجأنى المسلسل البديع «جودر» الذى عرض فى رمضان 2024 بذكاء مؤلفه أنور عبد المغيث، حيث اختار شخصية لم يتناولها أى عمل فنى اشتغل على قصص ألف ليلة وليلة من قبل. هى شخصية «جودر»، وهى من الشخصيات الأكثر شهرة فى حكايات «ألف ليلة وليلة» حيث تظهر فى أكثر من ليلة، وأحداث «حكاية جودر الصياد» تستمر من الليلة 608 إلى الليلة 633 فى أشهر رواية فى الأدب العالمى «ألف ليلة وليلة». الكتابة جميلة، واللغة مصرية عامية، سهلة، قريبة منا لأنها قادمة من مفردات تراثنا الشعبى، المعالجة الدرامية للقصة شائقة وجذابة، الإخراج أيضا ممتاز والجرافيك مصنوع بحرفية وثقافة، ببساطة إذا أردت أن تعرف السبب الرئيسى لنجاح عمل فنى أيا كان نوعه فابحث عن الورق. رأيى أن أنور عبد المغيث وضع بذرة النجاح ونبوءته باختياره للقصة التى سيكتبها من بين القصص العديدة فى أم الروايات «ألف ليلة وليلة» ثم فى الأسلوب الذى ابتكره للتعامل معها دراميًا. كذلك الموسيقى التصويرية كانت لافتة ورائعة. عرفت أنها سجلت فى روسيا، حرصا من الشركة المتحدة المنتجة للعمل على خروجه بأفضل مستوى. المسلسل قدم 15 حلقة فى الجزء الأول منه، وهو من إخراج إسلام خيرى. وبطولة ياسر جلال، نور، ياسمين رئيس، تارا عماد، وفاء عامر، جيهان الشماشرجى، عبد العزيز مخيون، أحمد بدير، وليد فواز، آيتن عامر، هنادى مهنا، محمود البزاوى، محمد التاجى، سامى مغاورى، عايدة رياض، أحمد فتحى، مجدى بدر، محمد على رزق، أحمد كشك، أحمد ماجد.

تحية لكل صناع هذا العمل المدروس، المتقن، الجميل، وسعيدة أنه تقرر إنتاج الجزء الثانى منه 15 حلقة فى شهر رمضان عام 2025.

رسائل من مصر

استمتع جدا بترجمات الأدباء لأعمال أجنبية يختارونها بحسهم الأدبى الأصيل، يخرج العمل معجونا بمشاعر خاصة، وأسلوب مشبع بروح الكتابة، وأنفاسها سواء للكاتب الأصلى، أو الكاتب الذى قام بالترجمة. لذلك فرحت جدا بقراءة كتاب «رسائل من مصر» للكاتبة الإنجليزية ليدى دوف جوردون، وترجمة الأديب المصرى العالمى القدير إبراهيم عبد المجيد.

الكتاب ينتمى لأدب الرسائل، وهو نوع من الأجناس الأدبية له شعبية واسعة بين القراء حول العالم، لأنه فى أغلب الأحوال يقدم تجربة إنسانية، عاشها صاحب الرسائل وكاتبها، وفى تلك التجارب تطفو التلقائية، البساطة، ويعلو الصدق فوق كل شيء.

هذه الكاتبة صاحبة الرسائل كانت كاتبة شهيرة فى بلدها، ولدت قبل قرنين من الزمن، وبالتحديد عام 1821، وجاءت إلى مصر عام 1862 بحثا عن طقس جاف يساعدها فى التعافى من مرض عضال «فى ذلك الوقت» وهو مرض السل. سافرت قبل مصر إلى كيب تاون، لكنها لم تستطع العيش لمدة طويلة هناك، فشدت الرحال إلى مصر، وبالتحديد مدينة الأقصر فى الصعيد. سجلت ليدى دوف جوردون فترة وجودها فى مصر (1862-1869) فى رسائل كانت ترسلها إلى زوجها، وأمها، وابنتها.

أحبت دوف مصر، والفلاحين البسطاء فى ذلك الوقت، نقلت فى رسائلها الحياة البسيطة للمصريين الخالية من كل تعصب بين الأديان، كتبت عن المصريين الذين أحبوها واعتبروها مبعوثا للإنسانية فى أعظم صورها. لقبوها «البشوشة»، «الست»، «نور على نور».

جاءت الإنجليزية المعجونة بالإنسانية لتختلط بالناس الحقيقيين، وتحس بهم وتعبر عن معاناتهم. ساعدتهم كثيرا خلال السنوات السبع التى قضتها فى مصر منذ حطت رحالها عام 1862 وحتى ماتت وأوصت بدفنها على أرض مصر عام 1869. خلال هذه السنوات سكنت فى الأقصر فى «بيت فرنسا» التابع للسفارة الفرنسية، وكانت تنتقل منه إلى القاهرة والإسكندرية ولندن. زارت أسوان والنوبة، ووجدت الأمراض متفشية بين المصريين، فقامت بدور الحكيمة للمصريين. عالجتهم من أمراض مثل الدوسنتاريا والربو بالأعشاب والنباتات الطبيعية. أحبها المصريون من قلوبهم، وكانوا يحملون إليها الهدايا: لحم، زبد، خضر، فاكهة، بيض، فطير، وأى شيء يملكونه.

أحبت الليدى دوف مصر حبا حقيقيا، وكتبت رسائلها لتعبر عن كل ما يدور داخلها تجاه مصر والمصريين. لذلك كان هذا الشعب الذى يشعر بالحب الحقيقى يدعو لها، ويبتهل إلى الله من أجل أن يشفيها فى مولد سيدى أبو الحجاج فى الأقصر، ومولد سيدى عبد الرحيم القناوى فى قنا. ترجم الأديب إبراهيم عبد المجيد كتابها معتمدا على عدة كتب صدرت عن رسائلها بالإنجليزية، وقدم تلك التجربة الفريدة إلى قراء العربية بأسلوبه الأدبى الخلاب، ترجم 131 رسالة بعد أن جمعها من أكثر من طبعة إنجليزية.

حكاية محمد صلاح

يتحدث الكثيرون عن بطل مصر العالمى محمد صلاح. الحكاية لها زوايا عديدة ومحاور مختلفة. كل منا يرى هذا النجم الأسطورة من خلال منظاره الخاص، لذلك نجد نسخا كثيرة تحكى الحكاية عن نفس الشخص، البعض ينظر إلى قصة كفاحه وصعوده سلم النجاح والمجد خطوة خطوة، فى كل منها بذل الكثير من الجهد والتضحيات، خاض تجربة القسوة على النفس من أجل بلوغ الهدف، لم ينظر إلى اليمين أو إلى اليسار. لم ينظر إلى الخلف، بل إلى الأمام فحسب. الهدف فى مرمى بصره، لا يسمح لأى شيء أن يشتته عن هدفه مهما كانت المغريات أو الانكسارات. البعض الآخر ينظر إليه بحقد وغل ويراه إنسانا محظوظا، لا أكثر، فهناك عشرات اللاعبين الموهوبين فى كرة القدم لم يحصلوا على جزء من ألف مما حصل عليه محمد صلاح من شهرة ومال ومجد والأهم من كل هذا من حب الملايين حول العالم له.

الفريق الثانى لم ير كيف صعد محمد صلاح إلى هذه المكانة المحترمة التى يجب أن نفخر بها جميعا. لم يتابعوه شبلا صغيرا فى قرية صغيرة لأبوين بسيطين ينتظران ابنهما المكافح كل يوم وهو يصل إلى قريته بعد يوم حافل بالكد والسفر، التدريب والتعب، التنقل بين أكثر من مواصلة. ينتظره الأبوان فى صقيع البرد شتاء فى المحطة، يصطحبانه إلى بيتهما القروى البسيط ليأكل لقمة وينام ليستيقظ مبكرا ويبدأ الكرة من جديد بنفس الوتيرة، ونفس الجدية والجلد. أعجبنى بوست على الفيسبوك يقول صاحبه أن محمد صلاح تجاوز «ليفل» أى مرحلة الشبع المادى، لكنه يعيش بعمق ويتطلع بصدق إلى مرحلة الشبع الإنسانى، أى أن يكون إنسانا أفضل، وذلك عن طريق القراءة فى كتب التنمية الذاتية وأهمها «العادات الذرية» و«فن اللامبالاة» و«قوة العقل الباطن» وغيرها.
كذلك حرصه على ممارسة الرياضات الروحانية إلى جانب التدريبات البدنية والمهنية. وأهمها اليوجا وتمرينات الاسترخاء والتأمل التى تساعد الإنسان فى التحكم فى جسده عن طريق عقله وروحه الصافية، القادرة على التقاط الموجات الإيجابية التى يمنحها الله سبحانه لعباده الصالحين، أصحاب القلوب المضيئة بالحب، الكارهة للسواد.

محمد صلاح - كما أراه أنا شخصيا ـ هو بطل من نوع خاص جدا، لا يكمن سر عبقريته فى امتلاكه لقدم ذهبية تعرف طريقها إلى مرمى الشباك بسهولة تستعصى على الفهم، بل تكمن فى عقله، أسلوب تفكيره الذى هداه إلى أن النجاح فى أى شيء يجب أن يبدأ من الداخل، الروح والعقل، الإنسانية الصافية النقية، التركيز فى كل ما هو صالح، والتغافل عن كل ما يستنزف الوقت والجهد والنفس بلا طائل. سر محمد صلاح وتميمته تكمن فى إيمانه العميق بالله أولا، ثم يقينه أن النجاح الحقيقى هو كيف تكون إنسانا أفضل بكل ما تحمله تلك الجملة من معنى. لذلك فى رأيى نشهد فى يوم قصة جديدة من قصص هذا الإنسان الحقيقى، قصة تبهرنا وتعجبنا وتدهشنا فى كثير من الأحوال. لأن المرمى الأول الذى يركز عنده كل تفكيره هو مرمى محمد صلاح نفسه، كيف يحرز أهدافا غير مسبوقة، ويحقق انتصارا غير عادى فى سجل إنسانيته!

هذه شفرته الخاصة وهذا هو سر نجاحه المستمر كما أراه.